أخبار المركز
  • يشارك مركز "المستقبل" في الدورة الـ33 لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب في الفترة (29 إبريل - 5 مايو 2024)، وجناحه رقم C39 في القاعة 9
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد 36 من دورية "اتجاهات الأحداث"
  • صدور العدد السادس من "التقرير الاستراتيجي" بعنوان "حالة الإقليم: التفاعلات الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط 2024"
  • محمد خلفان الصوافي يكتب: (منتدى الخليج وأوروبا.. دبلوماسية جماعية للتهدئة الإقليمية)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (تأملات حول فشل جهود السلام الفلسطينية الإسرائيلية)

مخاطر التطرف:

لماذا تتكرر الإساءات للمسلمين في دول أوروبية؟

13 سبتمبر، 2023


تصاعد في الآونة الأخيرة الجدل في العديد من الدول الأوروبية حول ثنائية حرية التعبير ومبدأ الضرر، حيث زادت في الأشهر الماضية وتيرة الهجوم على رموز ومقدسات إسلامية في أوروبا، فضلاً عن تصاعد أعمال العنف والانتهاكات ضد المسلمين، بين حرق المصحف الشريف في ميادين عامة، ونشر رسوم مُسيئة للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وبين حظر بعض الأزياء الإسلامية مثل العباءة أو الحجاب، وغيرها.

وهنا يبرز الصراع حول ماهية حرية التعبير التي نصت عليها دساتير أوروبا، وهل تشمل حق ازدراء طائفة أو عرق أو دين أو جنس مخالف للأغلبية صاحبة الأرض؟ من زاوية أخرى يُثار الجدل داخل الأروقة والمؤسسات الأوروبية بين ادعاء أن الممارسات سالفة الذكر تندرج تحت بند حرية الرأي والتعبير، ولاسيما وقائع حرق المصحف، وبين اعتبارها ممارسات عنصرية تُسيء للآخر غير المنتمي لدين وثقافة الأغلبية الأوروبية. 

واللافت للنظر أن تلك الممارسات لا تتوقف عند دولة بعينها، بل تنتشر في العديد من الدول الأوروبية، وذلك بحسب ما ترصده التقارير الدولية وتنشره الصحف الأوروبية والعالمية، بخلاف ما ترصده المؤسسات الإسلامية في أوروبا.

انتهاكات مُتكررة:

تكررت خلال الأشهر الأخيرة سلسلة من الاعتداءات والإساءات ضد المسلمين في أوروبا، وتجاه رموزهم ومقدساتهم الدينية، فضلاً عن بعض القرارات التي تمثل تضييقاً على حريتهم الشخصية وتنتقص من مظاهر قيمهم الدينية. ويمكن عرض أبرزها فيما يلي:

1- حوادث حرق المصحف الشريف: قام زعيم حزب "هارد لاين" اليميني المتطرف الدنماركي راسموس بالودان، في يناير 2023، بحرق نسخة من المصحف الشريف أمام مبنى السفارة التركية في ستوكهولم. وفي نفس الشهر، حرق بالودان نسخة من المصحف مجدداً أمام السفارة التركية في كوبنهاغن، تحت حماية الشرطة بعد لحظات من حرقه أمام مسجد. فيما أقدم مواطن من أصل عراقي حاصل على الجنسية السويدية ومُقيم في السويد يُدعى سلوان موميكا، على حرق المصحف في يونيو الماضي، ثم كرر جريمته في 20 يوليو الماضي بدوس المصحف أمام السفارة العراقية في ستوكهولم. 

واللافت في انتهاكات كل من بالودان وموميكا أنهما اعتمدا على مرونة السلطات السويدية والدنماركية، على اعتبار أنهما زعما استخدامهما حقهما في التعبير طبقاً لمبادئ حقوق الإنسان المنصوص عليها في دستور الدولتين، مع العلم أن القانون الدولي فيما يخص حقوق الإنسان اشترط أن يكون حق حرية التعبير لا يمثل أفكاراً مُسيئة أو يحض على الكراهية أو العنف. ومن ثم يُعد ما قام به كل من بالودان وموميكا مخالفاً لنصوص حقوق الإنسان فيما يتعلق بحرية التعبير عن الرأي.


ومن الجدول السابق، يمكن استنتاج النقاط التالية:

أ- يُلاحظ من خلال توقيت حرق نسخ من القرآن الكريم خلال الأشهر الماضية، أنها تزامنت مع بحث تركيا طلب انضمام السويد لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، والذي من المُفترض أن يصوت عليه البرلمان التركي في شهر أكتوبر القادم، مما يرجح احتمالية وجود بُعد سياسي لتكثيف موجة الاعتداءات على المصحف الشريف.

ب- تمت غالبية هذه الجرائم أمام السفارة العراقية والتركية في السويد والدنمارك، حيث إن الموطن الأصلي لـموميكا هو العراق، ما يُعد بمثابة نوع من العقاب من قِبل اللاجئ العراقي تجاه بلده السابق الذي اندلعت فيه مظاهرات واحتجاجات اعتراضاً على حرق المصحف الشريف. أما بالودان، فهو يميني متطرف يحمل الجنسيتين الدنماركية والسويدية، وعلى مدار الأربع سنوات الماضية كرر اعتداءه على القرآن الكريم عبر المنصات الاجتماعية وفي تظاهرات في مدن السويد والدنمارك، مع سعيه لتعميم التظاهرات في دول أوروبية أخرى، مع التركيز على سفارات تركيا.

ج- انتماء مُنفذي الاعتداءات لليمين المُتطرف سواءً من أصول أوروبية أم شرق أوسطية، وهم ليسوا مجموعات كبيرة، بل أفراد محدودون، مما يشير إلى أن الظاهرة أقرب إلى حصرها في هؤلاء الأشخاص بعينهم، ولا تشمل بقية التيارات السياسية الأخرى مثل اليسار الراديكالي أو يمين ويسار الوسط.

2- منع ارتداء الملابس الإسلامية: ترجع جذور حظر الدول الأوروبية، وخاصة فرنسا، للزي الإسلامي (الحجاب، والعباءة، والنقاب) إلى عقود مضت. فبعضها بدأ عام 1989 في مدينة واز الفرنسية، حيث تم طرد فتاتين من أصول مغربية نتيجة رفضهما خلع الحجاب في المدرسة، ثم ما لبث أن تطور الأمر لترك الحرية لكل مؤسسة لاتخاذ القرار المناسب لها، ليأتي بعد ذلك قانون يمنع ارتداء رموز دينية لعدم تمييز دين التلميذ في المؤسسات التعليمية. وفي 6 سبتمبر الجاري، مع بدء الفصل الدراسي في فرنسا، ظهرت بوادر أزمة العباءة الإسلامية والتي صدر تجاهها قرار بالحظر، إذ اعترضت 67 طالبة في اليوم الأول على حظر العباءة، وقمن بارتدائها في المدارس، الأمر الذي جعل السلطات التعليمية تعيد الفتيات لمنازلهن.

وثمة ملاحظتان بشأن حظر النقاب في دول أوروبية: الأولى أن فرنسا أول من بدأ حظر النقاب "البرقع" في عام 2011 الذي اندلعت فيه ما عُرفت بـ"الثورات العربية" والتي أعقبتها موجات من الهجرة غير الشرعية واللاجئين، وهو ما يتسق مع تطور سياسات فرنسا تجاه المسلمين المُقيمين فيها، والمعارك الثقافية والدينية المتعلقة بأنماط حياتهم وملابسهم - خاصة زي المرأة - مثل أزمة الشواطئ والبوركيني، وحظر الرموز الدينية في المؤسسات العامة، وسعي حزب "التجمع الوطني" اليميني المُتطرف لإصدار تشريع يحظر الحجاب. والملاحظة الثانية أن هناك فجوة زمنية بين موقف فرنسا وبقية الدول الأوروبية الأخرى التي حظرت النقاب تباعاً مثل بلغاريا والنمسا وهولندا وسويسرا، وربما يرجع ذلك إلى اختلاف نهج باريس ورؤية نخبتها الحاكمة عن الدول الأخرى، وكذلك تدرج صعود اليمين المُتطرف ووصوله للحكم في هذه الدول مثل النمسا.

معضلات مُستمرة:

تعددت الأسباب والأُطر الحاكمة لسلسلة الاعتداءات تجاه المسلمين ومعتقداتهم وكتابهم السماوي "القرآن الكريم"، من قِبل المُتطرفين أو تشريعات الحكومات الأوروبية، ويمكن توضيح أبرزها كما يلي:

1- تفسير العلمانية ونظرية "الاستبدال العظيم": تمتلك فرنسا تفسيراً للعلمانية يختلف عن بقية الدول الأوروبية. وينقسم الفرنسيون بشأن الإجراءات التي تتخذها حكومتهم، بين اتجاه يراها عنصرية وتفرض وصاية على النساء مثل الدول الدينية، وبين يمين مُتطرف يراها لا تكفي ويطالب بالمزيد منها، وبين ثالث يراها حماية للعلمانية والدستور الفرنسي. وهذه المعضلة أيضاً لها مقاربتان؛ الأولى تتعلق بثنائية التطرف الديني والعلماني، فالأول يرى ضرورة ارتداء النقاب ويعتبره جزءاً أصيلاً من لباس المرأة. والثاني التطرف العلماني الذي يدمج ويجمع كل المسلمين في سلة واحدة، ويخشى تحقق نظرية "الاستبدال العظيم"؛ حيث يحل المسلمون القادمون من ثقافات ودين مختلف محل الفرنسيين العلمانيين، لذا يجب احتواؤهم أو وقفهم. 

¬أما المقاربة الثانية فتتعلق بالتنافس السياسي بين يمين الوسط واليمين المُتطرف، فحتى يوقف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، تقدم اليمين المُتطرف الذي حل منافساً له في الانتخابات الرئاسية عامي 2017 و2022، كان لا بد من المزايدة والدخول في صراعات ثقافية يجتذب بها الأصوات القريبة من المتطرفين إريك زمور، ومارين لوبان، وليس هناك أفضل من حماية العلمانية من مزاعم "خطر الإسلام" أو "رهاب الإسلام"، وهو ما يتزامن مع إصرار ماكرون على البقاء في إفريقيا تحت ذريعة محاربة "الإرهاب الإسلامي"، وفقاً لوصفه.

2- صعود اليمين المُتطرف والهجرة غير الشرعية: مرت الدول الأوروبية والعالم بأزمات اقتصادية متتالية أسهمت في انهيار حكومات عدة. وبداية من عام 2015، تدفقت موجات اللاجئين القادمين من دول الصراعات والحروب، في الوقت الذي تتراجع فيه أسهم الأحزاب التقليدية، وتصعد الحركات والأحزاب الشعبوية (اليمين المُتطرف واليسار المُتطرف)، وتفشل العديد من الحكومات في مواجهة أزمات مثل الأزمة المالية العالمية، ثم وباء "كوفيد19"، وغيرهما من القضايا التي احتاجت الدول فيها تغييراً في الإدارة السياسية. 

ومن هنا وجد الخطاب اليميني المُتطرف الذي ارتكز على ثلاث نقاط (العداء للاتحاد الأوروبي، والعداء للإسلام، والعداء للاجئين)، فرصة للصعود، داعياً لحماية الهوية الأوروبية والقوميات المختلفة لكل دولة، ومُحملاً المهاجرين أسباب أزمات بلدانه. ومن ثم فإن هذا الخطاب نشط في مهاجمة الحكومات التي تستضيف لاجئين وتستقبلهم إما داخل البلاد أو في مخيمات منعزلة، وبدأت حوادث الإرهاب اليميني تنتشر في معظم أوروبا تقريباً. وعزز قوة اليمين المُتطرف وصول العديد من أنصاره إلى سدة الحكم كما حدث في إيطاليا وفنلندا، وكذلك السويد عبر دعم حزب الديمقراطيين السويديين لحكومة يمين الوسط. لذا صار الهجوم على المسلمين ومقدساتهم أمراً مُنتشراً وعادياً في العديد من دول أوروبا.

تداعيات خطرة:

مع استمرار الاعتداءات المُتكررة على المسلمين ومعتقداتهم، والاحتجاجات المُقابلة من جانب مواطني الدول العربية والإسلامية، وكذلك المسلمين ومنظماتهم في الدول الغربية؛ بدأت بعض الحكومات الأوروبية التفكير في وقف أو الحد من حرق المصحف الشريف. فعلى سبيل المثال، تقدمت الحكومة الدنماركية في الأسبوع الأخير من شهر أغسطس الماضي بمقترح لحظر إحراق المصحف في الأماكن العامة. وتزامن ذلك مع تحذيرات من قِبل جهاز المخابرات العامة الدنماركية، تفيد باحتمالية وجود تهديدات إرهابية طالما استمر حرق المصحف. ويمكن تحديد أهم التداعيات الناتجة عن الانتهاكات المتكررة ضد المسلمين ومقدساتهم في أوروبا، كالتالي:

1- اندلاع أعمال عنف: على خلفية حرق موميكا، نسخة من القرآن الكريم في مدينة مالمو جنوب السويد يوم 3 سبتمبر الجاري، شهدت المدينة أعمال شغب وعنف، فضلاً عن اشتباكات بين مواطنين وأفراد من الشرطة السويدية، وتم إلقاء القبض على ثلاثة رجال. وعلى الرغم أن الشرطة السويدية سبق أن أعطت موميكا، تصاريح لحرق المصحف، فقد اضطرت تحت وقع الاحتجاجات واستمرارها، إلى توجيه تهم التحريض على الكراهية ضد جماعة عرقية لموميكا، والإعلان عن نيتها البحث في سن قانون يجرم ويحظر تدنيس الكتب السماوية.

2- تزايد مخاطر الإرهاب: يُعطي اليمين المُتطرف عادة الفرصة لأنصار الجماعات المتشددة، خاصة المُقيمين في الغرب، لتكثيف نشاطهم تحت ذريعة الدفاع عن الإسلام وكتابه المقدس الذي يُدنس مراراً من دون تدخل الحكومات الأوروبية. وهذا ما اتضح من إعلان المسؤولين في حكومتي الدنمارك والسويد عن إحباط أعمال إرهابية كان مخططاً لها، وتم رفع مؤشر التهديد إلى المستوى الثالث "التهديد الشديد"، وتحولت السويد من "مُستهدف شرعي" إلى "مُستهدف ذي أولوية".

3- وقوع أضرار اقتصادية وسياسية: يتزامن مع حرق نسخ من القرآن الكريم في الفترة الماضية، وجود دعوات لمقاطعة المنتجات السويدية والدنماركية، على غرار الدعوات التي ظهرت عام 2005 حين تضامنت حينها الدنمارك مع الرسوم المُسيئة ضد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، والتي نُشرت في صحيفة "يولاندس بوستن". ومع اختلاف الأوضاع الحالية عما سبق، لا تستطيع الحكومات الغربية تحمل خسائر اقتصادية من دعوات مقاطعة تُضاف للخسائر المُستمرة نتيجة تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، ووباء "كوفيد19"، والتي لم يتعاف منها العديد من دول العالم بعد.

4- تداعي النموذج الغربي: يُروج للخطاب الغربي باعتباره مُمثلاً للديمقراطية الليبرالية، التي من شأنها الدفاع عن حقوق الأقليات (الدينية، والعرقية.. إلخ)، وتُوقع عقوبات على دول أو تُلغى اتفاقيات تجارية حال لم تحصل الأقليات على حقوقها في الشرق الأوسط أو دول العالم الثالث. لكن في المقابل لا تُراعى حقوق الأقليات الدينية ولاسيما المسلمين في أوروبا حين يتم ازدراء عقيدتهم ويُحرق كتابهم المقدس، بخلاف إجبارهم على التخلي عن زي يرونه فرضاً وفقاً لاعتقادهم وثقافتهم. وبالتالي فإن ثمة ازدواجاً في المعايير الأوروبية فيما يتعلق بالنموذج الليبرالي الديمقراطي الذي من المُفترض أن يحفظ حقوق الأقليات؛ فهو نموذج ذو وجهين، أحدهما يُطبق أوروبياً، والآخر للشرق الأوسط.

إجمالاً، يمكن القول إن قضايا الإسلام ونظرة الغرب الأوروبي له، والإساءات المُستمرة تجاه المُقدسات الدينية، مرهونة بالصراع الثقافي والديني بين التطرف الديني والتطرف العلماني واليمين المُتطرف. ومع استمرار التشريعات المُقيدة لحريات المسلمين في أوروبا، تتضاءل فرص التعايش السلمي، وترتفع احتمالات وقوع أعمال عنف.