أطلق الزعيم الكردي، مسعود بارزاني، في 31 يناير، مبادرة للتقريب بين مقتدى الصدر وخصومه في الإطار التنسيقي الشيعي، بحثها رئيس إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني، ورئيس البرلمان العراقي المنتخب محمد الحلبوسي، مع زعيم الكتلة الصدرية في مقره بالنجف في اليوم نفسه. وجاءت هذه المبادرة قبل أسبوع من جلسة البرلمان العراقي المخصصة لانتخاب رئيس جمهورية العراق، والذي بدوره سيكلف مرشح الكتلة الأكبر لتولي منصب رئيس الوزراء.
السياق المحيط بالمبادرة:
تستمر محاولات إيران للتأثير على جهود تشكيل الحكومة العراقية، وذلك عبر محاولة الضغط على التيار الصدري للقبول بضم كافة قوى الإطار التنسيقي للحكومة، بما في ذلك نوري المالكي، زعيم ائتلاف دولة القانون، وهو ما يرفضه التيار الصدري تماماً، وسعت طهران لاتباع السياسات التالية:
1- الاجتماع بالزعيم الكردي بارزاني: قام قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال إسماعيل قاآني، بزيارة سرية إلى العراق، هي الثانية له في شهر يناير، حيث توجه هذه المرة إلى أربيل، والتقى خلالها الزعيم الكردي مسعود بارزاني وعدداً من قادة الحزب الديمقراطي الكردستاني. كما تشير مصادر غير مؤكدة إلى أنه زار السليمانية قبل أربيل، حيث التقى خلالها مع قيادات من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة السيد بافل طالباني.
وأشارت مصادر كردية إلى أن الجنرال قاآني طلب من بارزاني ممارسة ضغوط على السيد مقتدى الصدر للسماح بمشاركة أحزاب من الإطار التنسيقي الشيعي، وحلحلة رفضه لمشاركة المالكي في الحكومة من خلال تعيينه نائباً لرئيس الجمهورية. كما أشارت تلك المصادر إلى أن بارزاني أوضح لقاآني أنه سوف يعرض هذا المقترح على قيادات التحالف الثلاثي.
واستهدفت زيارة قاآني كذلك التقريب بين الحزبين الكرديين ودعم موقف الاتحاد الوطني من ترشيح السيد برهم صالح لرئاسة الجمهورية، إذ طلب قاآني من بارزاني التنازل عن ترشيح هوشيار زيباري لرئاسة الجمهورية وترك المنصب لحزب الاتحاد الوطني، وهو ما لم يوافق عليه بارزاني، مؤكداً الاحتكام للتصويت البرلماني لحسم هوية مرشح رئيس الدولة.
2- التواصل مع تحالف عزم: تشير مصادر إلى أن الجنرال إسماعيل قاآني كان موجوداً منذ عدة أيام في بغداد وأجرى اتصالات متعددة مع العديد من القوى السياسية من بينهم السيد خميس خنجر، زعيم تحالف عزم السني في مدينة سامراء العراقية، في 29 يناير، وعدد من القيادات السنية الأخرى.
3- لقاء كوثراني بميليشيات "طهران": تزامنت تحركات قاآني السياسية، مع لقاءات متعددة قام بها حسن كوثراني، ممثل ميليشيا حزب الله اللبناني في العراق واحد مؤسسي كتائب حزب الله العراقي، حيث التقى خلالها عدة مرات مع قيادات تلك الميليشيا، وكذلك ميليشيا عصائب أهل الحق وبعض فصائل الحشد الشعبي، وذلك بتكليف من قاآني.
ويسعى قاآني من ذلك إلى محاولته التنصل من التصعيد الذي تقوم به هذه الميليشيات، والادعاء بأنه يحاول ضبط أنشطتها، خاصة بعد تورطها في قصف مطار بغداد الدولي في أواخر يناير، وإعلان الأجهزة الاستخباراتية العراقية إلقاء القبض على أكرم القيسي، أحد الضالعين في قصف المطار، فضلاً عن تأكيد رئيس الحكومة العراقية، مصطفى الكاظمي، في 1 فبراير، توافر معلومات عن "الإرهابيين" الذين شنّوا الهجوم، وذلك في مؤشر على اتجاه الحكومة العراقية لتصعيد عملياتها الأمنية ضد ميليشيات إيران في العراق، المتورطة في الهجوم.
وجاءت تصريحات الكاظمي بعد مطالبة الصدر الحكومة، في 19 يناير، إلى "اتخاذ أشد التدابير الأمنية والإسراع في كشف" المتورطين في أعمال العنف، وهو بذلك يبدي استعداده للدخول في مواجهة مفتوحة مع الميليشيات العراقية المرتبطة بإيران، إذ لم تتوقف عن تنفيذ عملياتها الإرهابية، ولا شك أن التحرك الحكومي ضدها يهدد مصالح طهران، خاصة أنها تدرك أن هذه القوى قد فقدت رصيدها الشعبي، وهو ما يجعل أي مواجهة عسكرية مع الحكومة العراقية، أو حشد المرجعية خياراً غير مأمون العواقب، وقد ينهي آخر أدوات إيران في العراق.
مبادرة بارزاني ورفض الصدر:
في ظل هذه التحركات الإيرانية المكثفة، جاءت مبادرة بارزاني، والتي يمكن توضيح أبعادها، وموقف التيار الصدري منها، وانعكاساتها على التنسيقي، على النحو التالي:
1- مبادرة بارزاني للتهدئة: أعقب اجتماع قاآني مع بارزاني في أربيل إعلان الأخير طرح مبادرة للتهدئة اقترح فيها علي السيد نيجيرفان بارزاني، ومحمد الحلبوسي رئيس تحالف تقدم، ورئيس البرلمان العراقي، إجراء حوار مع السيد مقتدى الصدر، والتشاور حول كيفية مواصلة العملية السياسية وإزالة العقبات والمشاكل. غير أنه من الملحوظ أن بارزاني اكتفى بعرض مطالب قاآني للصدر، من دون أن يتبناها، أو يدعمها، أي أن هذه المبادرة كانت مجرد ترضية من مسعود بارزاني لقائد فيلق القدس لا أكثر.
كما أنه من الواضح أن الديمقراطي الكردستاني لم يستجب للضغوط الإيرانية للانسحاب من التحالف الثلاثي لعدد من الاعتبارات التي تراها قيادة الحزب أكثر حيوية، والتي يأتي في مقدمتها حرص بارزاني على علاقاته بالولايات المتحدة، فضلاً عن رفضه محاولات إيران المستمرة لتحجيم علاقاته ببعض الدول، التي يرغب إقليم كردستان العراقي في إقامة علاقات معها.
وقد وضح موقف الديمقراطي الكردستاني بجلاء على لسان القيادي في الحزب، ريبين سلام، والذي أكد أن "الصدر وتقدم والعزم والديمقراطي الكردستاني تعتبر الأقوى والرابحة في هذه المرحلة"، مبيناً أن أي كتلة لا ترغب في التحالف عليها الذهاب إلى المعارضة لكون العراق دولة ديمقراطية تحتاج إلى معارضة قوية".
كما أكد سلام أن "الرسالة التي أراد الديمقراطي الكردستاني والبيت السني إيصالها هي دعم حكومة الأغلبية السياسية الوطنية وتشكيلها من البيوت الثلاثة"، لافتاً إلى أن "الحزب جرب سابقاً الدخول في حكومة توافقية ولم نحصل على نتائج إيجابية"، في إشارة واضحة إلى أن بارزاني لا يدعم مبادرة قاآني.
2- استمرار رفض الصدر: قال الصدر في تغريدة له عبر "تويتر"، وذلك بعد اجتماعه مع نيجيرفان بارزاني، ومحمد الحلبوسي "أوقفوا الإرهاب والعنف ضد الشعب والشركاء فما زلنا مع تشكيل حكومة أغلبية وطنية"، في إشارة لبعض الفصائل الشيعية المكونة للإطار التنسيقي، كما أكد ترحيبه بالحوار مع "المعارضة الوطنية"، في إشارة إلى رفض الصدر ضم المالكي للحكومة.
وتجدر الإشارة إلى أن الإطار التنسيقي كان يطالب بضم جميع الأحزاب الأعضاء في التنسيقي، بما في ذلك السید نوري المالكي، إلى مجلس الوزراء، على أن يأخذوا ست وزارات، ويحتفظون بحق النقض على اختيار رئيس الوزراء، وأن يصبح المالكي أحد نائبي الرئيس، وهو ما رفضه الصدر تماماً.
وفي المقابل، عرض الصدر على التنسيقي ضم جميع الأطراف الأعضاء في التنسيقي، باستثناء المالكي، على أن يأخذوا أربع وزارات دون حق النقض على شخصية رئيس الوزراء، وهو ما رفضه التنسيقي.
ويرى الصدر أنه ليس في حاجة إلى تقديم أي تنازلات للتنسيقي، إذ إن التحالف الثلاثي الذي يضم التيار الصدري، والحزب الديمقراطي الكردستاني والسيادة (تحالف عزم وتقدم)، يمتلك أكثر من نصف أعضاء البرلمان، إذ إن للكتلة الصدرية 73 مقعداً، وللحزب الديمقراطي 31 مقعداً، ولتحالف السيادة 67 مقعداً، بحيث يصل مجموعهم إلى 171 مقعداً من إجمالي 329 نائباً.
وفي ضوء ذلك، ونظراً لرفض الصدر ضغوط قاآني، فقد عرض التنسيقي مقترحاً للتسوية، تتمثل في القبول بالمالكي كنائب للرئيس، فضلاً عن حصول التنسيقي، على أربع إلى ست وزارات، مع أو بدون حق النقض على اختيار رئيس الوزراء، وهو ما يرفضه الصدر تماماً، كما وضح في رده على المبادرة الأخيرة.
3- انقسامات التنسيقي: تتباين مواقف التنسيقي بين من يدعو للبقاء في المعارضة، وبين من يرى ضرورة التضحية بالمالكي، والانضمام لحكومة الصدر، خاصة في ضوء ضغط الوقت، إذ إنه من المقرر أن يعقد البرلمان العراقي اجتماعه يوم الاثنين القادم لاختيار رئيس الدولة، وتكليف الصدر بتشكيل الحكومة. كما أن التنسيقي لا يحظى بثقل كبير في البرلمان العراقي، أو رصيد شعبي، يؤهله للتعنت في مواقفه.
وعلى الرغم مما سبق، فإن هذه القوى التي ترى ضرورة التخلي عن المالكي تطالب بضمانات من قبل الصدر، من بينها عدم المساس بمؤسسة الحشد الشعبي تحت أي مبرر أو عنوان إلى جانب عدم المساس برموز وقيادات بعينها تحت عنوان محاربة الفساد، خاصة أن هناك مخاوف من أن يلاحق الصدر المالكي بتهم فساد، وهي الشروط التي قد لا يقبل بها الصدر.
وفي التقدير يمكن القول إن مبادرة بارزاني لم تسفر عن أي تغيير في موقف التحالف الثلاثي بقيادة السيد مقتدي الصدر من تشكيل حكومة أغلبية وطنية، أو إتاحة مشاركة السيد نور المالكي فيها، وهو ما يكشف عن حجم تراجع النفوذ الإيراني على بغداد، وأن خيارات الإطار التنسيقي باتت تتراوح بين السيئ، والأسوأ، أي إما البقاء في المعارضة، أو الانضمام لحكومة الصدر بشروطه، والتي سوف تمس حتماً سلاح "الميليشيات المنفلتة".