أصدرت الحكومة الألمانية، في 13 يوليو 2023، استراتيجيتها الخاصة بالتعامل مع الصين، والتي تُعد أول استراتيجية لها في هذا الشأن. وتتألف من 61 صفحة. وتضمنت الوثيقة مبادئ تلك الاستراتيجية وسياساتها بما يتسق مع سياسات الاتحاد الأوروبي إزاء الصين، فضلاً عن تناول العلاقات الثنائية، وكذا سبل تعزيز المصالح الألمانية والأوروبية، إلى جانب تعزيز التعاون الدولي.
ركائز الاستراتيجية الألمانية:
يمكن إلقاء الضوء على ركائز الاستراتيجية الألمانية تجاه الصين، على النحو التالي:
1- تقليص الاعتماد على الصين: تُشير الاستراتيجية إلى ما يوصف بالتنافس المنهجي، مع الصين، وتؤكد أن ذلك التنافس بين الطرفين يجب أن يستند إلى قواعد عادلة وحرة بما لا يلحق الضرر بأي طرف. ومن ثم، فإن ألمانيا تدرك أهمية ربط اقتصادها بالاقتصاد الصيني، وما ينضوي عليه ذلك من مخاطر بموجب اختلاف قيم كل منهما، وبما يحتم العمل على تقليص تلك المخاطر دون فصل الاقتصادين عن بعضهما بعضاً، وكذلك العمل على تخفيف الاعتماد على الاقتصاد الصيني.
2- استمرار المخاوف من بكين: أشارت الوثيقة الألمانية إلى استمرار مخاوف برلين تجاه ملف انتهاكات حقوق الإنسان في الصين، وكذلك التقارب الصيني الروسي، والذي يهدد الأمن القومي الأوروبي والألماني، فضلاً عن مساعي الصين للهيمنة الإقليمية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وكذلك ممارسات الإكراه والهيمنة الاقتصادية لتعزيز مصالحها ونفوذها الدولي، بالإضافة إلى تنامي الدور الأمني والعسكري للصين حول العالم.
وتلفت الاستراتيجية الانتباه لكافة ممارسات واستثمارات الصين التي قد تحمل في طياتها تهديداً للأمن القومي الألماني والأوروبي، وأشارت، على سبيل المثال، إلى ممارسات للتجسس والاختراق أو حملات التضليل في الفضاء السيبراني.
3- تأكيد التعامل مع تايوان: أشارت الاستراتيجية إلى أن سياسة الصين الواحدة هي أساس السياسة الخارجية الصينية، لكنها، ومع ذلك، تتمسك بعلاقات وثيقة وجيدة مع تايوان في العديد من المجالات وتستهدف تعزيز تلك العلاقات مع تأكيد رفض أي ممارسات من شأنها تغيير الوضع الراهن لمضيق تايوان بغير الوسائل السلمية وعبر التصعيد العسكري في إشارة ضمنية إلى تحركات الصين بتلك المنطقة.
4- مبدأ المعاملة بالمثل: نوهت الوثيقة إلى ما تشهده الشركات الألمانية من تمييز ومضايقات بالسوق الصينية، وما تشهده المؤسسات المالية الصينية من تضييق في أوروبا. وقدمت الاستراتيجية حلاً لذلك بأن تقوم الحكومة الألمانية بتسهيل وصول المؤسسات المالية والمصرفية الصينية للبنوك وشركات التأمين بالسوق الأوروبية وتوسعها في قطاع الخدمات المالية، مقابل أن تقوم الحكومة الصينية بما من شأنه التيسير على الشركات الألمانية والأوروبية للعمل والاستثمار في السوق الصينية.
مسارات التحرك:
تتضمن الاستراتيجية تحقيق قدر من التنسيق بين ألمانيا وأوروبا من جهة، وبين ألمانيا والصين من جهة أخرى، وذلك بهدف تقليص نقاط الخلاف والحفاظ على قنوات الاتصال مفتوحة، بما يعزز المكاسب ويقلل الخسائر، ومن أبرز المسارات التي من المقرر أن تتحرك ألمانيا من خلالها تجاه الصين، في ضوء الاستراتيجية الجديدة ما يلي:
1- تنويع سلاسل الإمداد: تستهدف الحكومة تنويع وارداتها من المواد الخام والمنتجات الأولية، حيث إن ألمانيا حالياً تعتمد بشكل كبير على الصين وحدها، كما تُعول الحكومة على أدوات التجارة الخارجية والاستثمار والتعاون الإنمائي لتحقيق هذا الهدف، ولتعزيز شراكاتها مع الدول الموردة للمواد الخام لتأمين المخزون الاستراتيجي من تلك المواد، مع العمل على زيادة الإنفاق على البحوث والتطوير لتقليل استهلاك المواد الخام وإحلالها بالمواد المحسنة والمعاد تدويرها على نحو يتسق مع التوجهات والمعايير البيئية الأوروبية، وبما يعزز القيمة المضافة للتصنيع الأوروبي المحلي، وكذلك تعزيز قدرات التصنيع لدى الشركاء ممن يتم استيراد المواد الخام منهم عبر استيرادها في صورتها غير الأولية.
2- تعزيز توطين الصناعات التقنية: ستتجنب ألمانيا والاتحاد الأوروبي الاعتماد في الصناعات التكنولوجية المتقدمة على الصين التي لا تتوافق معهم قيمياً، وذلك عبر تعزيز القدرة على الابتكار والارتقاء بتوطين تلك الصناعات والتقنيات وبراءات الاختراع، مع العمل على تجنب مساعي الصين لإحكام هيمنتها وانفرادها بهذا المجال وفقاً لاستراتيجيتها القومية 2025، هذا بالإضافة إلى دراسة سبل توجيه الاستثمارات في السوق الأوروبية في هذا المجال، وكذلك تطوير لوائح حماية البيانات.
3- موازنة الصعود الصيني عالمياً: تستهدف ألمانيا إقامة نظام عالمي تعددي في ظل احتدام وتيرة التنافس الصيني الأمريكي، وتدرك ألمانيا أن مبادرة الحزام والطريق تعكس تحركات الصين نحو تعزيز هيمنتها ونفوذها العالمي، في ظل عدم وجود شريك إنمائي بديل يمكن للدول النامية اللجوء إليه، وهو ما تسعى ألمانيا نحوه بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي من أجل خلق مسار تنموي بديل تلجأ إليه الدول النامية للحصول على قروض، مثل التي تمنحها الصين. هذا بالإضافة إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية لألمانيا وأوروبا مع مختلف الأطراف التي لديها علاقات قوية بالصين كدول المحيطين الهندي والهادئ والدول الآسيوية والإفريقية.
4- حث الصين على التوافق مع المنظومة الأممية: تهدف الاستراتيجية إلى دفع الصين للاندماج في المنظومة الأممية، وذلك بالنظر إلى محدودية مساهمة الصين الطوعية في منظومة الأمم المتحدة وآليات حفظ السلام على نحو لا يتسق مع قدراتها الاقتصادية، بالإضافة إلى العمل على مراقبة تحركات الصين داخل أروقة الأمم المتحدة وما تطرحه من مبادرات تعلي المصالح الصينية على قيم التعددية والمصالح الجماعية، ومن ثم، تستهدف ألمانيا وشركاؤها مراقبة الجهود والمبادرات التنموية الصينية العالمية ومدى اتساقها مع أجندة التنمية المستدامة 2030. فضلاً عن مراقبة وضع حقوق الإنسان داخل الصين ومتابعته داخل الأمم المتحدة. كما أن التوجهات الألمانية تتضمن إشراك الصين في الجهود الدولية المتعلقة بحوكمة قطاع التكنولوجيا والأمن السيبراني وحماية البيانات.
5- بناء جيل من الخبراء بالشأن الصيني: نظراً لأهمية الصين المتنامية على الساحة الدولية، أكدت الاستراتيجية أهمية العمل على خلق جيل من الخبراء المعنيين بالشأن الصيني بالجامعات والمدارس ومراكز البحث، وإدماج هؤلاء الخبراء في صفوف الحكومة الفدرالية، مع الحث على تعلم اللغة الصينية، ودعم جهود معهد مركاتور للدراسات الصينية في برلين، والعمل على تبادل الخبراء بين الطرفين وتعزيز التفاعل مع المؤسسات الصينية لتحقيق التفاهم المشترك، وبما لا يُغفل التواصل كذلك مع المؤسسات التايوانية وتحقيق التبادل في الخبرات والرؤى معها.
دلالات متعددة:
حمل إصدار الاستراتيجية عدداً من الدلالات، يمكن استعراض أبرزها على النحو التالي:
1- خلافات ألمانية داخلية: يُدلل التأخر في صياغة وإصدار الاستراتيجية في شكلها الأخير على وجود تجاذبات في وجهات النظر داخل الحكومة الألمانية، خاصة بين المستشار الألماني، أولاف شولتس، ووزيرة خارجيته، أنالينا بيربوك، ففيما دعت الأخيرة، وهي من حزب الخضر، إلى اتخاذ موقف أكثر تشدداً حيال بكين، والتركيز أكثر على حقوق الإنسان، ساند شولتس، وهو من الحزب الاجتماعي الديمقراطي، موقفاً أكثر ليونة.
وامتد الخلاف إلى الأطراف أصحاب المصلحة داخل ألمانيا، نتيجة للخلاف ما بين أصحاب المصالح الاقتصادية وأنصار القيم السياسية، الأمر الذي قد يتسبب في الإضرار بمصالح برلين الاقتصادية المرتبطة ببكين، وفق بعض التقديرات. وفي هذا السياق، رحبت الشركات والجمعيات الصناعية الألمانية بالاستراتيجية، لما تضمنته من تأكيد استمرار التعاون دون قطيعة مع الاقتصاد الصيني.
2- توافق الرؤى الأوروبية والألمانية: تحرص ألمانيا على مراعاة التوازن بين مصالحها الاقتصادية مع الصين، وكذلك مع الاتحاد الأوروبي بفعل احتياج اقتصادها للنفاذ لكلا السوقين، لذا جاءت الاستراتيجية بمبادئ وتوجهات تعكس رغبة برلين في المضي قدماً مع سياسات الاتحاد الأوروبي دون حياد عنها بما لا يجعل السياسة الألمانية متناقضة مع نظيرتها الأوروبية، بل متكاملة معها.
3- اعتراض بكين على الاستراتيجية الألمانية: في رد فعل رسمي من قبل الصين، حذر المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية وانغ وين بين، مما تحمله الاستراتيجية الألمانية تجاه الصين من سوء تقدير للصعود الصيني، معتبراً إياها موقفاً حمائياً هادماً للتعاون، وقد يأتي بنتائج عكسية.
وربما يفسر هذا الموقف الصيني، ما تناولته الاستراتيجية الألمانية من توجهات قد تضر بالمصالح الاقتصادية الصينية ونفوذها الخارجي، وكذلك ما تضمنته من توجهات إزاء تايوان التي تعتبرها الصين خطاً أحمر، إذ إنه على الرغم من تأكيد ألمانيا سياسة الصين الواحدة، فإنها أكدت استمرار علاقتها بالشريك التايواني ومراقبة التحركات الصينية تجاهه، فضلاً عن التخوف من أن يكون الاهتمام الألماني بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ ستاراً لتمدد "الناتو" بهذا الإقليم.
4- مباركة تايوانية لخطة برلين: رحّب قادة تايوان بتلك الاستراتيجية، ورأوا أنها تعكس المزيد من الاهتمام الدولي بقضية تايوان والمخاطر الصينية إزاءها، وأنها يمكن أن تكون خطوة من شأنها أن تمهد السبيل نحو تدشين علاقات وثيقة بين البلدين.
وفي التقدير، يمكن القول إن تلك الاستراتيجية ترسم الخطوط العريضة للسياسة الخارجية الألمانية تجاه الصين. وفي حين أنها قد تسهم في تعزيز التعاون مع بكين في العديد من القضايا الحرجة، مثل الملفات الأمنية والتجارية وقضايا المناخ، فإنها من جهة أخرى، تحمل في طياتها قدراً من السياسات العدائية تجاه الصين بسبب الإشارة صراحة إلى تقليص الاعتماد عليها، والبحث عن بديل لها، فضلاً عن الإشارة إلى أهمية التعاون مع الدول المصدرة للمواد الخام الأخرى، وتقديم مساعدات اقتصادية للدول لنامية لموازنة الاستثمارات الصينية عبر مبادرة الحزام والطريق، وهي كلها سياسات تتفق مع السياسة الأمريكية الرامية إلى تطويق الصين.