بدأت المواجهات بين أذربيجان وأرمينيا على أراضي ناغورني كاراباخ من قبل تشكل الاتحاد السوفييتي في بداية القرن العشرين، ومع قيام الاتحاد السوفييتي توقفت المواجهات إلى حد كبير، ثم عادت لتشتد من جديد خلال سنوات البيريسترويكا (إعادة الهيكلة)، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي مباشرة. فإذا كان ضم أرمينيا وأذربيجان للاتحاد السوفييتي، بالإضافة إلى تهدئة القيادات السوفييتية للنخب العرقية المحلية في ذلك الوقت، قد ساهم قديماً في تجميد الصراع، فإن روسيا الآن لا تستطيع، أو بالأحرى لا تكترث لتقديم اقتراح عالمي مشترك يمكنه أن يوحد هذه الدول، لاسيما في ظل صعود الحركات القومية في العقود الماضية.
١- المصلحة الروسية
لعبت روسيا منذ ما يقرب من 30 عاماً دور الحكم والجار القوي في صراع كاراباخ، وقد تمكن فلاديمير بوتين من استعادة الحوار مع أذربيجان الذي كاد أن يضيع في عهد يلتسين، واستطاع أن يؤسس خطاباً يدعم علاقات سلمية بين أرمينيا وأذربيجان، غير أنه في المقابل رفض تحمل مسؤولية حل النزاع، بما قد يسببه ذلك من توتر في العلاقات الروسية مع أي من الطرفين. وفي واقع الأمر تستفيد روسيا من موقفها تجاه الطرفين، والذي يمكنها من ممارسة نفوذها على مجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، كما يسمح لها بتزويد طرفي النزاع بالسلاح لأمد طويل، فلن تستفيد روسيا من طرحها حلاً واضحاً لأزمة كاراباخ، تجنباً لحدوث أي مواجهة مع أحد الطرفين، أو مع كليهما. وبالتالي، فإن الحفاظ على اشتعال الصراع، والحد من اتخاذ الإجراءات الحاسمة، والاكتفاء بإقامة مفاوضات غير فعالة، يتناسب تماماً مع مصالح روسيا فيما يتعلق بهذه القضية.
وخلال الأزمة الحالية، اتسم الموقف الروسي بعدم الوضوح المتعمد، ولم تظهر أي استراتيجية أيديولوجية محددة وواضحة، وهو ما ينعكس على تناول وسائل الإعلام الروسية لهذا الصراع. لذا نجد أن كلاً من الخطاب المؤيد لأرمينيا والمؤيد لأذربيجان مطروحان في وسائل الإعلام الروسية الحكومية (مثل "روسيا اليوم" أو "روسيا 24").
وقد يترتب على اتخاذ أي إجراء ملموس بشأن حل أزمة كاراباخ وضع روسيا أمام تساؤلات من المجتمع الدولي فيما يتعلق بوضع المناطق المشابهة، مثل شبه جزيرة القرم وأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا وغيرها. وبمقارنة تدخل روسيا في هذه المناطق وموقفها نحو كراباخ، نجد أن السبب الأساسي الذي دفع روسيا للتدخل بحسم في الحالات السابقة كان الخوف من خطر "التحول إلى الغرب"، واحتمال الوقوع في مواجهة مع الولايات المتحدة، غير أن ذلك السياق لا ينطبق على حالة النزاع الأرمني الأذربيجاني، ولا يتوقع أن يكون مثله، حتى أن التدخل التركي الحالي الداعم لأذربيجان لا يعتبر سبباً كافياً يدفع روسيا لشن حملات عسكرية لحسم الصراع.
أما الحديث عن إرسال بعثة روسية لحفظ السلام، فيتطلب ذلك موافقة الطرفين الأرميني والأذربيجاني، شأنها في ذلك شأن الدول الأخرى. وإذا وافقت أرمينيا على مثل هذا السيناريو، فمن غير المرجح أن توافق أذربيجان، علاوة على ذلك، ستظل مسألة إرسال وحدة لحفظ السلام في حد ذاتها موضع خلاف ويثر عدة تساؤلات حول موقع وحدود البعثة، هل تقف عند كاراباخ الحالية، أم تشمل خط "الحزام الأمني" للسبع مناطق المحيطة بكاراباخ، وما إلى ذلك من نقاط خلافية.
٢- حل سلمي مستبعد
يعد الاعتراف الروسي باستقلال جمهورية ناغورنو كاراباخ، ومن قبله اعتراف أرمينيا باستقلال هذه المنطقة، خطوة نحو الوصول لحل سلمي لأزمة كاراباخ، غير أنه حل مستبعد. ففي 10 ديسمبر 1991، أُجري استفتاء على استقلال هذه المنطقة عن أذربيجان، وصوتت الغالبية العظمى من السكان لصالح الاستقلال، لكن الجمهورية لم تحصل على اعتراف دولي، لا سيما من الأمم المتحدة، ولم تلق دعماً إلا من قبل أوسيتيا الجنوبية غير المعترف بها (أو المعترف بها جزئياً)، وترانسنيستريا وأبخازيا من بين الأطراف السياسية القليلة التي اعترفت بحق شعب كاراباخ في تقرير المصير، حيث شكلت هذه الأطراف تجمعاً للدول غير المعترف بها في منطقة ما بعد الاتحاد السوفييتي.
وتعتبر أرمينيا في واقع الأمر الشريك الوحيد لجمهورية ناغورنو كاراباخ في سياستها الخارجية، وهي ليست في عجلة من أمرها حيال اتخاذ إجراءات ملموسة بشأن الاعتراف باستقلال كاراباخ، وذلك على الرغم من تصريحاتها العديدة حول نظرها في مسألة الاعتراف باستقلال هذه المنطقة، إضافة إلى ذلك، قام رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، خلال خطابه في ستيباناكيرت، عاصمة ناغورنو كاراباخ، قبل عام من الجولة الأخيرة من المواجهات العسكرية، بالدعوة مراراً وتكراراً إلى الوحدة، وقال إن "آرتساخ (ناغورنو كاراباخ) هي أرمينيا، انتهى النقاش".
٣- محاولة أرمينيا الحصول على دعم موسكو
قد يكون السيناريو الآخر للحل السلمي لنزاع كاراباخ في منطقة القوقاز هو رد أرمينيا لسبع مناطق (تسمى بالأحزمة الأمنية لناغورنو كاراباخ) وهي الأراضي التي احتلتها أرمينيا خلال حرب كاراباخ، حيث وُصفت أفعال أرمينيا من قبل أذربيجان، ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بكونها احتلالاً من القوات الأرمينية للأرضي، وعليه، أدان مجلس الأمن الدولي، في قراره رقم 853 الاستيلاء على منطقة أغدام، ودعا إلى انسحاب القوات المحتلة بالكامل منها.
ومع ذلك، لا تزال هذه الوثيقة تُعتبر مجالاً للمساومة السياسية لكل من أرمينيا وأذربيجان، اللتين لم تلتزما بما جاء فيها، أضف إلى ذلك أن خطوة إعادة الأراضي المحددة إلى أذربيجان (وهي خطوة لا تحظى بقبول كبير لدى أرمينيا) سيعني في الواقع لباشينيان، على سبيل المثال، نهاية حياته السياسية، وهو ما لن يفعله بالطبع. ومن هذا المنطلق، قد يكون تصعيد التوتر وتفاقم النزاع مفيداً لأرمينيا نفسها، التي تظهر في صورة الضحية في نزاع كاراباخ أمام الجمهور الدولي.
وفي هذا السياق، تتمثل إحدى آليات جذب المساعدة من الخارج في لجوء القيادة الأرمينية إلى شريكها الوحيد تقريباً، روسيا، حيث تحاول أرمينيا اللعب على طموحات روسيا الإمبريالية طويلة الأمد (وهو السيناريو الحاصل جزئياً في سياق مساعدة تركيا لباكو على الأرجح). ومع ذلك، فكما ذكر سابقاً، أنه على الرغم من كون روسيا هي الوريث الشرعي للاتحاد السوفييتي، فهي لا تؤثر تأثيراً أيديولوجياً واضحاً على منطقة القوقاز.
بالإضافة إلى ذلك، ينبغي ألا يغيب عن الأذهان أن بداية احتدام المواجهات في كاراباخ في سبتمبر 2020 جاءت في وقت صعب إلى حد ما بالنسبة للسياسة الخارجية الروسية، حيث مرت روسيا بالكثير خلال هذه الفترة، مثل عواقب الجائحة، والاحتجاجات في خاباروفسك وبيلاروسيا، وتسمم نافالني، ولقد قللت كل هذه الظروف من اهتمام روسيا بالدخول في صراع جديد ومواجهة خصوم جدد.
ختاماً، لا تشير الأوضاع الحالية إلى نية موسكو التدخل لحسم الصراع، غير أنها تتابع تطوراته عن كثب، ويمكن القول إن العامل الجدي الوحيد الذي يمكن أن يحفز روسيا للدخول بثقلها في صراع كاراباخ هو خطر انتشار الإرهاب في المنطقة، فلقد سجّل موقع "المونيتور" ومصادر أخرى وجود مرتزقة ووكلاء سوريين في مناطق القتال. وإذا زاد هذا التهديد، فإن مناشدات باشينيان لروسيا لمساعدة أرمينيا قد تأخذ شكلاً مختلفاً عن مجرد المناشدات الدبلوماسية للوصول لحل سلمي للصراع.