لم تتراجع بعد حدة الجدل التي أثارها قرار وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بالاستقالة من منصبه في 25 فبراير 2019، رغم عدوله عنها بعد ذلك بيوم واحد. إذ أن هذه الخطوة كشفت عن معضلة حقيقية يواجهها النظام الإيراني، تتعلق بحالة الازدواجية التي تتسم بها عملية صنع القرار داخله، خاصة فيما يتعلق بقضايا السياسة الخارجية. ولذا، كان لافتًا أن هذا الجدل عاد إلى الواجهة من جديد مع الزيارة التي قام بها الرئيس حسن روحاني إلى العراق، بداية من 11 مارس الجاري، والتي تضمنت لقائه مع المرجع الشيعي علي السيستاني وكبار رجال الدين في العراق مثل محمد سعيد الحكيم واسحاق الفياض.
رسالة خامنئي:
فقد تعمد المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي أن يتخذ خطوة لافتة خلال الزيارة التي قام بها روحاني إلى العراق، وتمثلت في منح وسام "ذو الفقار" إلى قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، وهو الوسام الذي يحظى بأهمية ومكانة رمزية وتاريخية كبيرة في إيران، لدرجة أن سليماني هو المسئول الوحيد الذي حصل عليه منذ اندلاع الثورة الإيرانية في عام 1979، بل إن هذا الوسام لم يمنح سوى لشخصيات محدودة كان لها دور في التحولات السياسية التي شهدتها إيران منذ تم العمل به في عام 1921، على غرار الجنرال فضل الله زاهدي الذي ساهم في الإطاحة بحكومة الدكتور محمد مصدق عام 1953 وتولى رئاسة الوزراء بعده.
أهمية هذه الخطوة تكمن في توقيتها، حيث أنها تزامنت مع الزيارة التي قام بها روحاني إلى العراق، بما يعني أن المرشد تعمد اتخاذها لتوجيه رسالتين: أولاهما، أن الحرس الثوري يشارك بالدور الأبرز في عملية صنع قرار السياسة الخارجية، خاصة على الصعيد الخارجي، وهو ما يمثل ردًا مباشرًا على التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية محمد جواد ظريف بعد تقديمه استقالته عبر موقع "انستغرام"، عندما تحدث عن دور وزارته في إدارة السياسة الخارجية.
وبعبارة أخرى، فإن المرشد، وإن لم يتدخل مباشرة في الجدل الذي أثارته تلك الاستقالة، إلا أن توقيتها وأسلوب الإعلان عنها لم يلق قبولاً من جانبه، على نحو دفعه إلى تأكيد أهمية الدور الذي يقوم به "الباسدران" في هذه الفترة تحديدًا.
وثانيتهما، أن إيران لن تتراجع عن مساعيها لدعم تمددها في الخارج، عبر التدخل في الأزمات الإقليمية المختلفة ودعم التنظيمات الإرهابية والمسلحة، وهو ما يبدو أنه يمثل ردًا من جانب القيادة على الضغوط الإقليمية والدولية التي تتعرض لها إيران في الفترة الحالية، بسبب تلك التدخلات التي أدت إلى تفاقم الأزمات الإقليمية ووضع عقبات أمام الجهود التي تبذل من أجل تسويتها وتقليص تداعياتها السلبية.
ومن دون شك، فإن خامنئي حرص على اتخاذ تلك الخطوة في الوقت الذي أكدت فيه الإدارة الأمريكية إصرارها على تقليص الصادرات النفطية الإيرانية ومواجهة الأدوار التي تقوم بها إيران في المنطقة.
كما أن ذلك لا ينفصل عن اهتمام القيادة في إيران بإلقاء مزيد من الضوء على الدور الذي تقوم به إيران في سوريا، خاصة بعد الزيارة التي قام بها الرئيس السوري بشار الأسد إلى طهران في 25 فبراير الفائت، وذلك في مواجهة القوى التي تسعى إلى احتواءه، بما فيها روسيا، التي لم تعد إيران تخفي قلقها سواء من رؤيتها للترتيبات السياسية التي يمكن العمل على صياغتها في مرحلة ما بعد انتهاء الصراع العسكري، أو من حرصها على فتح قنوات تواصل مع خصومها وفي مقدمتهم إسرائيل.
رد مباشر:
ورغم أن الرئيس حسن روحاني حرص على التماهي مع المواقف المتشددة التي تتبناها المؤسسات الراديكالية في النظام، خاصة بعد أن تسببت العقوبات الأمريكية وقبلها انسحاب إدارة الرئيس دونالد ترامب من الاتفاق النووي، في إضعاف موقعه وتراجع قدرته على تنفيذ التزاماته التي كانت سببًا في تصعيده إلى منصب الرئاسة، إلا أن الخطوة الأخيرة التي اتخذها المرشد بتكريم سليماني خلال زيارته للعراق أثارت، على ما يبدو، استياءً من جانبه، بدا جليًا في قيام الموقع الخاص بمكتب الرئاسة على شبكة الإنترنت بنشر فيديو خاص بلقائه مع المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني مع تقرير يكشف أن هذا اللقاء يوجه ثلاثة رسائل مهمة إلى الداخل والخارج.
ويبدو أن هذا التقرير قد أثار ردود فعل قوية ضد الحكومة، على نحو دفعها إلى المسارعة بحذفه، إلا أن ذلك لا ينفي أن رسائله قد وصلت بالفعل إلى من يعنيه الأمر، وتحديدًا القيادة العليا في إيران، ممثلة في خامنئي، إلى جانب الحرس الثوري.
فالواضح أن روحاني حاول استغلال موافقة السيستاني على لقائه، وهو ما يمثل تغيرًا في موقف الأخير الذي عزف، منذ عام 2015، عن إجراء مقابلات مع المسئولين السياسيين، لتأكيد أن رئيس الجمهورية في إيران يمارس دورًا أساسيًا في عملية صنع القرار، لا سيما فيما يتعلق بقضايا السياسة الخارجية.
ولا ينفصل عن ذلك حرص روحاني على الإشارة إلى أن "الباسدران" لا يستطيع بمفرده توجيه المسارات الخاصة بالعلاقات بين إيران العراق تحديدًا، باعتبار أنه لا يمتلك، وفقًا لرؤية حكومته، مجمل أدوات التأثير التي يمكن من خلالها التحكم في هذه المسارات.
ومن هنا، يبدو أن الفترة القادمة سوف تشهد صراعًا محمومًا بين الحكومة والحرس الثوري على إدارة السياسة الخارجية للدولة، وهو ما يبدو أن مؤسسات أخرى سوف تتدخل للتأثير في اتجاهاته، على غرار مجلس تشخيص مصلحة النظام الذي تولى صادق لاريجاني رئاسته مؤخرًا بعد وفاة رئيسه السابق محمود هاشمي شاهرودي.
فاللافت أن الأخير لم يحدد موقفه بعد من المصادقة على انضمام إيران لبعض الاتفاقيات الدولية، على غرار الاتفاقيات الخاصة بمكافحة الإرهاب وغسيل الأموال، والتي تمارس الدول الأوروبية ضغوطًا من أجل تمريرها باعتبار أن ذلك يمكن أن يعزز استمرار التعاملات التجارية بين الطرفين في ظل العقوبات الأمريكية.
وتوازى ذلك مع استمرار الحملة التي تشنها وسائل الإعلام القريبة من الحرس الثوري ضد السياسات التي تتبناها الحكومة، خاصة فيما يتعلق بتراجع رهانها على الاتفاق النووي، بعد انسحاب إدارة الرئيس ترامب منه وإعادة فرض العقوبات الأمريكية على إيران.
وربما تساهم الضغوط التي تتعرض لها إيران في تصعيد حدة هذا الصراع خلال المرحلة القادمة، خاصة في حالة ما إذا اتجهت الولايات المتحدة الأمريكية إلى عدم تجديد المهلة الحالية التي منحتها لثماني دول مستوردة للنفط الإيراني في مايو القادم، على نحو سوف يفرض تداعيات مباشرة على الصادرات النفطية الإيرانية، وسيضع القيادة الإيرانية أمام خيارات محدودة للتعامل مع التطورات المتسارعة التي تشهدها الملفات المختلفة التي تحظى باهتمام خاص من جانبها.