واجه الاقتصاد اللبناني على مدار الشهور الماضية تحديات جمة، يعود أغلبها إلى أسباب محلية، كما أن جزءاً منها يعود إلى أسباب عالمية. وقد بدت مظاهر تلك التحديات في صور عدة، من بينها الارتفاع الكبير في معدلات الدين الحكومي، ومعدلات التضخم، ومستويات البطالة والفقر في البلاد. كما تمثل معاناة ومظاهر ضعف وهشاشة القطاع المصرفي أحد أهم مظاهر تلك التحديات والصعوبات التي تعيشها لبنان.
تحول جذري:
بعد أن استطاع القطاع المصرفي في لبنان، على مدار عقود ماضية، أن يصبح أحد القطاعات المصرفية الأكثر حيوية ومرونة وجاذبية في المنطقة، ونجح في جذب ودائع اللبنانيين والمستثمرين الأجانب كذلك، معتمداً على عامل الثقة والأمان، تعرض خلال الفترة القصيرة الماضية لصعوبات وتحولات أفقدته تلك الميزة. فقد واجه القطاع شحاً كبيراً في السيولة، وحالة استثنائية من التحديات المرتبطة بسوق الصرف، لاسيما في ظل انتشار استخدام العملات الأجنبية جنباً إلى جنب مع الليرة اللبنانية، ومن ثم حدث تراجع كبير في العملات الأجنبية، وهو ما أفقد الليرة معظم قيمتها، ودفع المدخرات للهروب من المصارف.
ونتيجة لهذه المعطيات، تراجع إجمالي ميزانيات المصارف في لبنان من نحو 210 مليار دولار في نهاية عام 2019، إلى نحو 127 مليار دولار في نهاية أكتوبر 2020، بنسبة انخفاض بلغت 39.5%. كما عانت المصارف في لبنان من سحب السيولة الدولارية بمعدلات ووتيرة كبيرة خلال الفترة الأخيرة، ولاسيما مع ظهور أزمة السيولة في البلاد، وتعرض المصارف للإغلاق لبعض الوقت، كإجراء احترازي من قبل المصرف المركزي، تجنباً لتفاقم أزمة السيولة، مع توسع اللبنانيين في سحب أموالهم منها، حيث تم سحب نحو 6 مليار دولار من الودائع لدى المصارف خلال أسبوعين فقط بعد أزمة السيولة المذكورة.
وبجانب هذه التحولات السلبية، فإن ميزانية المصارف اللبنانية برغم تراجعها، تعاني أيضاً عيوباً هيكلية فيما يتعلق بنوعية الأصول التي تتكون منها، حيث أن 22 مليار دولار تمثل أموالاً خاصة للمصارف مودعة لدى مصرف لبنان المركزي والمصارف المراسلة، و40 مليار دولار هي موجودات مصرف لبنان ذاته، و50 مليار دولار تعد ديوناً للقطاع الخاص لدى المصارف، في حين أن الـ15 مليار دولار المتبقية هي سندات "يوروبوندز". ويشير ذلك إلى أن أكثر من 75% من أموال المودعين لدى المصارف اللبنانية يتم توظيفها لدى مصرف لبنان، وذلك بهدف منح بعض الوقت للمصرف لإقرار الإصلاحات اللازمة، وتعزيز قدرة الاقتصاد، بما يؤدي في نهاية المطاف إلى توليد السيولة والدخل للمصارف ويعزز أرصدة الودائع بها.
لكن رغم ذلك، فإن ظروف عدم الاستقرار التي عانت منها لبنان على المستوى السياسي، ودخولها في معترك صعب، يتعلق بتحديات تشكيل الحكومة الجديدة، ومن قبلها حادث انفجار مرفأ بيروت، وما سبقه من صعوبات وتعقيدات تتعلق بتفاوض الحكومة مع صندوق النقد الدولي، من أجل الحصول على برنامج دعم فني من قبل الأخير، وتمهيداً لدخول لبنان في مفاوضات مع مقرضين خارجيين، للحصول على برنامج مساعدات مالية تمكنها من تخطي أزمتها الراهنة، كل ذلك جعل قيام مصرف لبنان المركزي بالإصلاحات النقدية اللازمة، أمراً معقداً، وأبطأ من وتيرة تحسن الأداء الاقتصادي في البلاد، وبالتالي أجّل كذلك من تدفقات السيولة إلى المصارف، بل والأكثر من ذلك فإنه زاد عوامل القلق لدى المودعين، وكذلك المستثمرين سواءً في لبنان أو في الخارج.
خيارات محدودة:
لم تقتصر الأزمة على هذا الحد، بل إن تأجيل إجراء الإصلاحات، وبطء تعافي الاقتصاد المحلي، والصعوبات الاقتصادية العالمية، جعل الخيارات المتاحة أمام الحكومة بشأن تمويل خطة الإصلاح محدودة للغاية، وتكاد تكون معتمدة فقط على القطاع المصرفي المحلي. وقد حددت الحكومة حجم الأموال اللازمة لتمويل أعباء الفجوة بـنحو 90 مليار دولار.
وفي إطار سعى المصرف المركزي لتعزيز استقرار القطاع المصرفي في البلاد، فإنه فرض إجراءات ضخ أموال جديدة في الجهاز المصرفي مستهدفاً استعادة الثقة في القطاع المالي ككل، لاسيما بعد أن قامت وكالات التصنيف الائتماني بخفض تصنيف سندات "اليوروبوندز" اللبنانية إلى درجة (RD) من قبل وكالة "فيتش"، ودرجة (D) من جانب وكالة "ستاندرد آند بورز"، وهي درجة تعني انعدام القدرة على سداد الديون المستحقة بمقتضى السندات وقت استحقاقها.
وقد حاول المصرف عبر تلك القرارات استعادة الثقة بين المصارف والمُودعين عبر درء المخاطر وإعادة الخدمات إلى طبيعتها، وتوفير سيولة لدى المصارف، وإعادة رسملتها، بما يؤول في نهاية المطاف إلى إعادة هيكلة شاملة للقطاع. وقد يتسبب هذا التحول في خروج العديد من المصارف اللبنانية من السوق، وحدوث تقلص كبير في حجم القطاع المصرفي، وفقدان القطاع للمميزات التي تمتع بها على مدار عقود في الماضي، فضلاً عن ضعف قدرة القطاع على تحمل أعباء المسئوليات المالية المتعلقة بتمويل النصيب الأكبر من خطط الإصلاح والتحفيز الاقتصادي التي تحتاجها لبنان في خضم الأزمة الراهنة.
من هنا، يبدو أن القطاع المصرفي اللبناني، ومن خلفه الاقتصاد الكلي في البلاد، يدوران في الوقت الراهن في حلقة مفرغة، وأن تعافيهما، الذي تشير معطيات الوضع الراهن إلى أنه سيكون مع بعضهما البعض وكذلك بالاعتماد على بعضهما البعض، سيتأجل لفترة غير قصيرة، لاسيما وأن البلاد لن تتمكن من تلقي احتياجاتها التمويلية من الخارج بالمبالغ والتوقيتات المناسبة. هذه المعطيات تؤكد بدورها أيضاً أنه على اللبنانيين ومؤسساتهم الاعتماد على أنفسهم لإيجاد حلول جذرية لأزمتهم المالية، والتيقن من أن حالة الشك وعدم الثقة التي تنتاب انطباعات الأطراف الخارجية، بما في ذلك مؤسسات التمويل الدولية والدول المانحة، تعود إلى مشاركة حزب الله في الحكومة.
وقد أصبح وجود حزب الله ووضعه المؤثر في المجال السياسي العام في لبنان، بمثابة حجر عثرة في طريقها نحو العودة لأسواق التمويل الدولية، كما تشير معطيات الوضع الراهن إلى أنه سيظل كذلك في المستقبل المنظور، حيث سيستمر كعامل تنفير لدى المانحين من دول منطقة الشرق الأوسط ككل، والدول العربية على وجه الخصوص، والتي كان لها دور كبير طوال السنوات الماضية في تأمين احتياجات لبنان من الأموال والمنح، بما ساعد اقتصادها على تحمل الأزمات الداخلية والضغوط الخارجية طوال عقود.