عادت إشكالية التعامل مع رموز نظم الحكم السابقة، سواء كانوا رؤساء أو رؤساء حكومات أو وزراء أو مدراء الأمن أو مسئولين عسكريين أو رجال أعمال، مرة أخرى إلى صدارة التفاعلات داخل عدد من الدول العربية، مثل السودان تحت حكم البشير وليبيا في عهد القذافي وتونس في زمن زين العابدين بن علي والجزائر إبان عصر عبدالعزيز بوتفليقة، وهو ما عكسته حالات متباينة مثل دعم حراك "رشحناك" سيف الإسلام القذافي للترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة في ليبيا، وتصاعد الجدل في تونس حول تولي رموز النظام السابق مناصب حكومية، ودعوة حركة "النهضة" التونسية إلى المصالحة مع رموز نظام زين العابدين بن علي، واستمرار جلسات محاكمة رموز النظام السابق في الجزائر، وإعفاء 151 قاضياً سودانياً لارتباطهم بنظام البشير، وهو ما سيقود إلى جملة من التأثيرات منها عدم الاستقرار المؤسسي، واستمرار احتجاجات الشارع، وإسقاط امتيازات كبار المسئولين.
اهتمام متصاعد:
شهدت الفترة القليلة الماضية تصاعداً في الاهتمام بإشكالية التعامل مع رموز منظومات الحكم، التي أسقطها الحراك الثوري في عدد من الدول العربية، على نحو ما توضحه النقاط التالية:
تأييد القذافي
1-دعم حراك "رشحناك" سيف الإسلام القذافي: وذلك للترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة في ليبيا. وعلى الرغم من تواري سيف الإسلام نجل الرئيس معمر القذافي عن الأنظار منذ أن أطلقت سراحه كتيبة مسلحة في مدينة الزنتان في 11 يونيو 2017، إلا أن هناك قوى مجتمعية وسياسية داعمة له، ومن بينها حراك "رشحناك" الذي أعلن عن نفسه منذ قرابة العامين لإظهار حجم القاعدة الشعبية التي يتمتع بها سيف الإسلام. ووفقاً لما متوافر من معلومات بشأن هذا الحراك، فإنه "كيان مستقل تأسس من أجل التمسك بالحل السلمي وانتقال السلطة عبر صناديق اقتراع يحدد مصيرها الليبيون، وأن كافة قراراته وبياناته نابعة من أهدافه".
وفي هذا السياق، قال حراك "رشحناك" في بيان صادر في 29 سبتمبر الماضي: "في الوقت الذي نراقب عن كثب تسابق الكيانات السياسية الليبية خارج الوطن التي أعطت لنفسها الأحقية لتكون ممثلة عن أنصار النظام الجماهيري ومؤيدي سيف الإسلام القذافي، بالإضافة لما نشاهده ممن يتحدثون بصفتهم ممثلين عن أحرار الوطن في الداخل وفي مفاوضات وحوارات تقرر مصير الليبيين، فإننا نؤكد أن سيف القذافي هو مرشحنا الوحيد في ليبيا". ويرى الحراك أن "تمسكه بسيف الإسلام القذافي جاء لهدف إرجاع هيبة وسيادة الوطن وإحياء مشروع (ليبيا الغد) لينعم الشعب بخيراته"، وأكد "العزم على الاستمرار في المشروع الهادف لعودة الوطن".
تعيينات جديدة
2- تصاعد الجدل في تونس حول تولي رموز النظام السابق مناصب حكومية: شهدت الساحة التونسية خلافاً واضحاً بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة، لاسيما بعد قيام الأخير بتعيين بعض الشخصيات المعروفين بانتمائهم للنظام السابق. ومن أبرز تلك التعيينات شغل توفيق بكار منصب المستشار الاقتصادي لرئيس الحكومة، إضافة إلى سليم التيساوي الذي عين مستشاراً للشئون الاجتماعية، وإلياس الغرياني مستشاراً للشئون الدبلوماسية. وهنا، وجه الرئيس سعيد انتقادات لهؤلاء لأنهم ساهموا في إرساء منظومة الفساد واستغلال النفوذ في نظام زين العابدين بن علي.
وقال الرئيس سعيد في فيديو نشرته مؤسسة الرئاسة: "لا مجال لعودة من ثار عليهم الشعب، أو من ما تزال قضاياهم معروضة أمام القضاء"، موضحاً أن المحاكم "تصدر أحكامها باسم الشعب، وإذا كان صاحب السيادة أدان منظومة كاملة بمؤسساتها وأشخاصها وثار عليها، وسقط الشهداء والجرحى من أجل إزاحتهم، فلا مجال لأن يعودوا اليوم بعد أن تواروا عن الأنظار ومازالت قضاياهم أمام القضاء"، وأضاف سعيد أن "خبرة من سيعينهم رئيس الحكومة ليست في إنقاذ البلاد، بل في السطو على أموال التونسيين وأملاكهم، وفي صياغة قوانين تحميهم من العقاب".
دعوات المصالحة
3- دعوة حركة "النهضة" التونسية إلى المصالحة مع رموز نظام بن علي: تبنت بعض الحركات والأحزاب السياسية مثل "النهضة" و"قلب تونس" توجهاً للمصالحة مع رموز النظام السابق، والذين يقيمون في الخارج. فقد دعا لطفي زيتون القيادي في حركة "النهضة"، في 21 سبتمبر الماضي، رئيس الدولة قيس سعيد، ورئيس الحكومة هشام المشيشي، إلى العفو عن أبناء الرئيس الراحل زين العابدين بن علي وأصهاره، وأن يتم السماح لهم بالعودة إلى تونس وطنهم الأم، وأن تمنح لهم جوازات سفر تونسية باعتبارها عنواناً لارتباطهم ببلدهم، وألا يتركوا نهباً للغرباء.
وأضاف أن "الرئيس سعيد يملك الصلاحيات الدستورية لإصدار عفو رئاسي عن أبناء بن علي وأصهاره، كما أن رئيس الحكومة له صلاحيات إدارية كافية لمنح وثائق رسمية لهم، وضمان حرية تنقلهم من وإلى بلادهم"، وأنهى زيتون دعوته بالقول: "لقد حان الوقت كي نغلق هذا الملف، وأن نرتقي ببلادنا إلى مصاف الدول المتحضرة التي يحكمها القانون.. والقانون فقط". وهنا، تجدر الإشارة إلى أن هناك سوابق للتصالح مع بعض رموز النظام السابق مثل سليم شيبوب، صهر الرئيس السابق، ويتواجد حالياً في تونس، على نحو قد يدفع آخرين مثل صخر الماطري وبلحسن الطرابلسي للعودة من الخارج.
جدل متواصل:
4- استمرار جلسات محاكمة رموز النظام السابق في الجزائر: لاتزال قضية الأموال المنهوبة مثارة بقوة داخل البلاد، لاسيما في ظل انتشار شبكات فساد، أو ما يطلق عليه "أخطبوط مالي وإداري" متغلغل داخل أروقة الحكم في عهد الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة.
ولعل ذلك يشير إلى أن المعركة ضد الفساد في الجزائر سوف تأخذ وقتاً طويلاً، وهو ما عبر عنه الرئيس عبدالمجيد تبون في مرحلة ترشحه للرئاسة في حديثه لإحدى القنوات التلفزيونية في 11 نوفمبر 2019 حيث قال إن "عملية التطهير ستتواصل لمدة طويلة لأن وضع رؤوس كبيرة في السجن لا يعني أن كل شيء انتهى. ما زالت هناك بقايا مرتبطة بها وهي كثيرة". وما يعزز من صعوبة مواجهة شبكات الفساد اعتماد المتهمين على التحايل والشركات الوهمية، التي تم تأسيسها بأسماء مستعارة. كما أن العديد من البنوك العالمية ترفض الكشف عن حسابات عملائها، حفاظاً على مبدأ السرية والخصوصية.
تفكيك الإنقاذ
5- إعفاء 151 قاضياً سودانياً بمختلف الدرجات: وذلك لارتباطهم بنظام الرئيس السابق عمر البشير وأجهزته الأمنية، وقد جاء ذلك خلال مؤتمر صحفي عقدته "لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد واسترداد الأموال" في 23 أغسطس الماضي، وهو ما تزامن مع استرداد 5 صرافات لتحويل الأموال يملكها "حزب المؤتمر الوطني" الذي تم حله (حزب البشير) وآلت إلى وزارة المالية، فضلاً عن حل مجلس إدارة بنك النيل، الذي يملكه القيادي بحزب المؤتمر الوطني الحاج عطا المنان، وإنهاء تعاقد عدد من أساتذة جامعة إفريقيا العالمية، وإنهاء عقود مجلس الأمناء السودانيين فيها، بوصفهم من رموز النظام السابق.
يضاف إلى ذلك قيام اللجنة في إبريل 2020 بوضع يدها على منظمة الدعوة الإسلامية، وهى إحدى أكبر واجهات نظام الإخوان السابق، بجانب مصادرة المئات من قطع الأراضي لثلاثة من كبار رموز الحكم السابق تملكوها دون مقابل. وأعلنت اللجنة في مايو الماضي إنهاء عدد من العقود المبرمة بين مطار الخرطوم الدولي وشركة لتشغيل المطارات، وإنهاء عقد بشأن أحد أهم فنادق الخرطوم، واسترداد عدد من قطع الأراضي في الخرطوم من رموز بالنظام السابق.
ويمثل ذلك تفعيلاً لما حدث في 10 ديسمبر 2019، إذ أصدر رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان، قراراً بتشكيل لجنة "إزالة آثار التمكين" لنظام الرئيس المعزول البشير، ومحاربة الفساد واسترداد الأموال. كما أقرت السلطات الانتقالية السودانية في نوفمبر 2019 قانون "تفكيك نظام الإنقاذ" الذي يقضي بحل حزب المؤتمر الوطني الذي كان يتزعمه الرئيس السابق، ومصادرة أمواله وتعليق النشاط السياسي لرموزه. وفي سياق موازٍ، تواصل السلطات السودانية إجراء تحقيق ومخاطبات رسمية خارج السودان بشأن فساد رموز وقيادات النظام السابق ومعرفة أموالهم وأرصدتهم بالبنوك.
تأثيرات محتملة:
ثمة العديد من الانعكاسات التي سوف تنتج عن استمرار تصاعد إشكالية التعامل مع رموز النظم السابقة في الدول العربية، يمكن تناولها على النحو التالي:
1- عدم الاستقرار المؤسسي: يؤدي تزايد الخلاف بين أركان السلطة التنفيذية بشأن التعامل مع رموز لنظم الحكم السابقة إلى ضعف التناغم الحكومي، بل قد يعتبر البعض أن تدخلات رئيس الدولة في صلاحيات رئيس الحكومة، على نحو ما هو قائم في الحالة التونسية، تجاوز دستوري، لاسيما أن الدستور يمنحه إمكانية تعيين مستشارين له. في حين يعتبرها البعض الآخر، تؤدي إلى حرمان البلاد من كفاءات يمكنها أن تساهم في تجاوز البلاد أزمتها الاقتصادية وتخطي جائحة كورونا.
2- استمرار احتجاجات الشارع: لا تزال السودان تشهد تجمعات، وإن كانت محدودة، لأنصار الرئيس السابق عمر البشير، وبصفة خاصة في العاصمة الخرطوم، وهو ما حدث في الثلث الأول من سبتمبر الماضي، فضلاً عن توقيتات مختلفة من العام الجاري، اعتراضاً على حل الحزب الحاكم ومصادرة أموال وممتلكات رموز النظام السابق، بل إن أحد هذه الرموز سبق أن صرح بتحدي قرارات السلطة الانتقالية، إذ قال إبراهيم غندور وزير الخارجية الأسبق، الذي كلف رئاسة حزب المؤتمر الوطني، عبر صفحته بـ"فيسبوك" في 2 يونيو 2020: "لن يخيفنا قانون وضعته مجموعة سياسية من ممارسة حقوقنا التي هي ليست منحة من أحد، وفي سبيل تلك الحقوق، نحن على استعداد تام لدفع المقابل سجناً أو غيره".
3- إسقاط امتيازات كبار المسئولين: وهو ما برز جلياً في الساحة الجزائرية، حيث أمر الرئيس عبدالمجيد تبون في 6 سبتمبر 2020 بإلغاء حق الامتياز القضائي من خلال تعديل المادة 537 من قانون العقوبات، وأن يتابع كل المسئولين في محكمة سيدي أمحمد بالعاصمة "على غرار المواطنين"، وتسقط عنهم "تلقائياً الحصانة" في حال ثبوت تورطهم في قضايا فساد أو أخرى تتعلق بـ"الخيانة العظمى". وقد جاء ذلك في أعقاب ما عرف بـ"فضائح الفساد" التي فتحها الأمن والقضاء منذ العام الماضي مع أركان النظام السابق.
ملف مضغوط:
خلاصة القول، إن هناك ملفاً مضغوطاً يواجه بعض النظم العربية الحاكمة، يتعلق بأساليب التعامل مع ممثلي ورموز النظم السابقة، التي ثارت عليها قطاعات واسعة من الرأي العام لإسقاطها بل ومحاكمتها، وهو ما انقسمت بشأنه النخب الجديدة والرأي العام فيما بعد، ففي حين يتبنى اتجاه خيار الاستبعاد، يدعم اتجاه آخر خيار الإدماج في منظومة الحكم الجديدة. ولايزال الجدل مستمراً، دون حسم.