أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

قرارات مرتقبة:

ماذا بعد أزمة الجنيه السوداني؟

24 أغسطس، 2020


شهد سعر صرف الجنيه السوداني مقابل الدولار انهياراً قياسياً جديداً خلال الفترة الأخيرة، فقد بلغ سعر الصرف نحو 170 جنيه لكل دولار في السوق الموازية، بينما وصل السعر الرسمي في البنك المركزي إلى نحو 55 جنيهاً للدولار. ومن المتوقع أن يستمر سعر الجنيه في الانهيار خلال الفترة المقبلة، في ظل عدد من العوامل، من بينها حالة الضعف المتزايد للاقتصاد الكلي، وتراجع قدرة الحكومة على مواجهة الأزمة، هذا بجانب إجراءات حكومية منتظرة يمكن أن تساهم في تراجع قيمة الجنيه أمام الدولار.

وأمام هذا الواقع الصعب، تجد الحكومة نفسها في حاجة إلى وضع استراتيجية فعالة من أجل تعزيز استقرار الجنيه على أقل تقدير، ومنعه من التراجع إلى مستويات متدنية للغاية، بما يضر باستقرار الاقتصاد الكلي، ويؤثر بالسلب على مستويات المعيشة، وعلى الطلب الاستهلاكي، ومن ثم على مستقبل النمو الاقتصادي.

إجراءات جديدة:

يرتبط هبوط الجنيه إلى مستويات متدنية مقابل العملات الأجنبية، بالقرارات التي أصدرتها الحكومة في شأن الموازنة المعدلة لعام 2020 اعتباراً من شهر سبتمبر القادم للأشهر الأربعة المقبلة، والتي تتضمن الإجراءات المشمولة بها زيادة سعر الدولار الجمركي من 18 جنيه للدولار إلى 30 جنيهاً، وزيادة سعر صرف الرسمي للجنيه من 55 جنيه للدولار إلى 120 جنيهاً، ويشير هذا الأمر إلى أن الحكومة متجهة إلى سياسة نقدية توسعية، بجانب أنها بصدد التخلي نسبياً عن الدفاع عن قيمة الجنيه مقابل الدولار، وجعل سعر الصرف الرسمي قريباً من السعر في السوق الموازية.

وتجدر الإشارة إلى أن الحكومة كانت قد قامت برفع سعر الدولار الجمركي قبل ثلاث سنوات، من 6 جنيهات للدولار إلى 18 جنيهاً. ولأن ذلك الإجراء لم تتبعه حزمة إصلاحية تعويضية، وسياسات نقدية تدعم استقرار سعر الصرف عند المستويات الجديدة، فإن ذلك تسبب في استمرار ارتفاع سعر الدولار في السوق الموازية. كما أن سعر الدولار واصل الارتفاع من دون توقف، مدعوماً بضعف قدرات الاقتصاد على توفير الأرضية الصلبة التي يمكنه الاعتماد عليها، وتوليد الموارد الكافية من النقد الأجنبي، بما يغطي احتياجات التمويل الداخلية والخارجية.

ويشير ذلك إلى أن الإجراء الذي أقدمت عليه الحكومة، وهى بصدد تطبيقه مطلع شهر سبتمبر المقبل، لن يكون بمثابة الحل الفعَّال للأزمة، بل إنه لن يتخطى كونه ملاحقة من طرف سعر الصرف الرسمي لسعر الصرف في السوق غير الرسمية، وهو ما سيدفع نحو المزيد من الارتفاع في معدلات التضخم، وموجات الغلاء، لاسيما أن ذلك سيتزامن مع قيام الحكومة برفع الدعم عن المحروقات، على نحو سيكون له تأثير كبير في أسعار جميع السلع والخدمات من دون استثناء، بما سيؤدي إلى مضاعفة معدل التضخم الذي يبلغ أكثر من 143% حالياً، وفق وزارة المالية السودانية.

بجانب ذلك يعيش الاقتصاد حالة من التراجع الشديد في الأداء، وإذا كان هذا التراجع ناتج في معظمه عن أزمة "كورونا"، حيث ارتفع انكماشه إلى نحو 7.2%، لكن هذا الاقتصاد كان قد دخل إلى الانكماش على مدار عامى 2018 و2019، حيث أنه سجل انكماشاً بنحو 2.3% و2.5%، وهذا يعني أنه يعاني كثيراً منذ فترة ما قبل أزمة "كورونا". وبالتالي، فإن الاقتصاد يعيش حالة من الضعف الشديد، ويعاني الكثير من أوجه الخلل، التي تضعه في وضع هش أمام الأزمات العالمية.

كما يعاني الاقتصاد من أوجه خلل أخرى، ترتبط بالعجز الكبير والمتزايد في الموازنة العامة للدولة، فعلى مدار السنوات الخمس السابقة لأزمة "كورونا"، عانت الموازنة عجزاً بمتوسط سنوي يبلغ نحو 7.5% من الناتج المحلي الإجمالي. وقد ارتفعت هذه النسبة في ظل أزمة "كورونا" إلى مستويات يتوقع أن تبلغ نحو 16.9% من الناتج في نهاية عام 2020، وأن يتخطى مستواه 20% في عام 2021.

وتنعكس هذه المعطيات الاقتصادية المتأزمة على الحياة اليومية للسودانيين، عبر دفع عدد متزايد منهم إلى عداد العاطلين عن العمل. وقد وصلت تقديرات صندوق النقد الدولي لمعدل البطالة في السودان إلى 10.8% في عام 2019، وهو مرشح للارتفاع إلى 20.9% في عام 2020، مع تداعي الاقتصاد في مواجهة أزمة "كورونا". كما أن المعدل مرشح أيضاً للارتفاع إلى نحو 26% في عام 2021.

 وبالطبع فإن هذه الأعداد المتزايدة من العاطلين من إجمالي سوق العمل بالبلاد من شأنها أن تضغط على فرص النمو المستقبلي للاقتصاد الكلي، كونها تمنع المزيد من السودانيين من الحصول على الدخول، وبالتالي فهى تقلص القوى الشرائية لديهم، وتحد من الطلب الاستهلاكي في البلاد.

ويمثل هذا المؤشر، بتزامنه مع الارتفاع غير المسبوق للتضخم، حجر عثرة أمام عودة الاقتصاد إلى الاستقرار في الأداء في الأجل المنظور، في حال لم يحصل على مساعدة خارجية، سواءً تعلق الأمر بمساعدة فنية من قبل المنظمات الاقتصادية الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، أو مساعدة مالية من قبل المانحين الدوليين، والذين يتراوحون بين دول حليفة ومؤسسات اقتصادية، أو حتى استثمارات أجنبية مباشرة، موجهة إلى القطاعات الأكثر حاجة للدعم، والأكثر أهمية بالنسبة للاقتصاد على المستوى الكلي، وكذلك بالنسبة للأفراد ومؤسسات الأعمال على المستوى الجزئي.

ويبرز هذا التحدي بشكل واضح في مسألة حماية الجنيه، والذي أعلنت الحكومة مرات عدة أنها لا تمتلك القدرة على المحافظة على استقراره، وكان ذلك منذ يناير الماضي عندما أعلن رئيس الوزراء عبدالله حمدوك أن بلاده "ليس لديها احتياطيات من النقد الأجنبي لحماية قيمة الجنيه وإنه يوجد خلل هيكلي".

وفي إطار مواجهة هذه الأوضاع الآخذة في التأزم، أعلنت الحكومة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على برنامج إصلاح اقتصادي مدته 12 شهرا لتأهيل البلاد للحصول على تمويل من المؤسسات الدولية، يتضمن العديد من الإجراءات، ومنها إصلاح منظومة الدعم، بجانب تأمين 1.8 مليار دولار كدعم من 40 دولة ومنظمة دولية. لكن المؤشرات المتعلقة بأداء الاقتصاد منذ ذلك الحين لم تبد تحسناً، لاسيما مع تعاظم أزمة "كورونا" وثقلها الكبير على الاقتصاد السوداني وجميع الاقتصادات حول العالم. 

وقد يدفع ذلك الاقتصاد إلى المزيد من التأزم خلال الفترة المقبلة. هذا من دون إغفال أن الإجراءات التي تتخذها الحكومة في إطار برنامج الإصلاح سيكون لها تأثيرات سلبية على مستويات المعيشة وبالتالي على الطلب الاستهلاكي، وهذا ما أقرت به وزيرة المالية هبة محمد علي، مؤخراً، بتأكيدها على صعوبة الإجراءات الاقتصادية التي تطبقها الحكومة وأثرها السلبي على معيشة المواطنين. ومع تزامن ذلك مع أزمة "كورونا"، فإن الاقتصاد قد يحتاج المزيد من الدعم الفني والمالي من الخارج، وتزداد حاجته بشكل كبير للاستثمار، أكثر من القروض والدعم المالي المُكلِّف.