يواصل الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون هجماته الدبلوماسية ضد نظيره التركي رجب طيب أردوغان، وكان آخرها تلك التي شنها من ألمانيا في حواره مع مجلة "باريماتش", والتي اعتبر فيها أن "أردوغان ينتهج سياسة توسعية لا تتفق والمصالح الأوروبية وتشكّل عاملاً مزعزعاً لاستقرار أوروبا"، وذلك في أعقاب رسالة دبلوماسية في الأسبوع الماضي كانت تحت عنوان "دعوة للتعقل".
ومن دون شك، فإن تلك الرسائل والهجمات لا تنفصل عن الموقف الفرنسي من التحركات التركية في شرق المتوسط وليبيا. ووفق تحليلات أوروبية، فإن فرنسا تسعى إلى استقطاب ألمانيا بهدف قيادة مجموعة أوروبية فاعلة لردع التحركات التركية على المستويين السياسى والأمني، بينما لا تزال برلين توازن بين دور الوساطة لنزع فتيل أزمة بين أنقرة والقوى الأوروبية حول اليونان ومحاولة المشاركة في جهود تقويض العمليات التي تقوم بها تركيا والخاصة بنقل الأسلحة والمرتزقة إلى ليبيا.
لكن رغم ذلك، فإن ثمة مؤشرات توحي بخروج تلك التفاعلات عن السيطرة في ضوء تنامي الانتشار العسكري في شرق المتوسط ودخول الولايات المتحدة على خط التحدي في مواجهة السياسة التركية إلى جانب موقف قيادة الناتو، بما يعني تبلور اتجاه لحشد عسكري مناوئ لتحركات تركيا.
معادلة الاشتباك:
أخذت معركة التصريحات الهجومية بين الطرفين الفرنسي والتركي تتحول إلى تحركات عسكرية وأمنية ما قبل الصدام، كان أبرزها اتهام باريس لأنقرة بمحاولة التحرش بإحدى قطعها البحرية فى شرق المتوسط قبل نحو شهرين أثناء مشاركتها في مهمة لـ"الناتو"، وصعّدت الأمر بتأكيد أن البحرية التركية تستغل إحداثيات الحلف في تحركاتها تجاه ليبيا.
لكن مجلس الحلف حاول تفادي توجيه اللوم إلى أنقرة على نحو ما كانت تهدف باريس، الأمر الذي يفسر تحرك الأخيرة عسكرياً بعد ذلك في دائرة الاتحاد الأوروبي، حيث ساهمت في مناورات بحرية في سواحل اليونان مع الولايات المتحدة واليونان وقبرص، كان الهدف منها توجيه رسالة لتركيا بالتوقف عن عمليات التنقيب في تلك السواحل.
ثم رفعت باريس الأسبوع الماضي من مستوى المشاركة في دعم أثينا دفاعياً بنشر قطعة بحرية وطائرتى "رافال"، وقالت إن هذا الانتشار بهدف تقدير الموقف بشكل واقعي، لكن التحليلات العسكرية أشارت إلى أن الهدف هو تحرك استباقي من جانبها في مواجهة أنقرة إلى أن يتم تنسيق المواقف الأوروبية.
في المقابل، صعّدت تركيا من حملتها المضادة للسياسة الفرنسية في شرق المتوسط، وكان أحدثها الأسبوع الجاري عندما وصفت باريس بأنها "تتصرف مثل بلطجي في شرق المتوسط"، في سياق رد فعلها على الانتشار العسكرى الفرنسي في اليونان، وأعلنت أنها ستواصل تنقيبها عن الغاز الذي تعتبره فرنسا وأغلب القوى الأوروبية غير مشروع ومحاولة لفرض أمر واقع.
كذلك سعت أنقرة إلى المزايدة على الدور الفرنسي في لبنان، حيث قام مسئولون أتراك بزيارة بيروت عقب زيارة ماكرون. وعلى الجانب الآخر، تحاول الأولى تفادي الانتشار العسكرى المتنامي، من خلال مواصلة إمداداتها العسكرية البحرية إلى ليبيا باستخدام سفن تحمل أعلاماً غير تركية والوصول إلى نقاط ساحلية ليبية بخلاف طرابلس ومصراتة مثل ميناء الخمس.
حشد مضاعف:
تقدمت السياسة الأوروبية، إلى حد ما، خطوة إلى الأمام لتقويض التحركات التركية، حيث يبدو أن هناك اتجاهاً أوروبياً عاماً يتحرك فى المسار الدبلوماسي لاحتواء أزمات متصاعدة في شرق المتوسط، تتصدرها الأزمة اليونانية – التركية، مع الحرص على دعم أثينا.
وبدا لافتاًَ أن الولايات المتحدة سارعت إلى الانخراط في تلك التفاعلات، فبعد المشاركة في المناورات الشهر الماضى، كشف voice of America ، في 20 أغسطس الجاري، عن تحريك وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) للقطعة البحرية الاستراتيجية "يو إس إس هيرشيل وودي ويليامز" من نابولي الإيطالية إلى خليج سودا في جزيرة كريت اليونانية، بالتوازي مع قيام باريس بالاستعانة بـ3 طائرات "رافال" جديدة ليصبح إجمالى التشكيل الجوي لـ"الرافال" 5 طائرات حالياً.
كما شارك حلف الناتو بدوره في تلك التفاعلات، وذلك تحت عنوان "خفض التصعيد"، الأمر الذى يعكس مخاوف بعض القوى من عدم القدرة على ضبط هذه التفاعلات، وهو ما كشف عنه بيان الحلف، في 20 أغطس الجاري، والدعوة التي وجهها إلى تركيا بوقف التصعيد في شرق المتوسط وليبيا.
انعكاسات مباشرة:
انعكس فائض السياسة الأوروبية تجاه تركيا، بدرجة أخرى، على الموقف من تطورات الأزمة الليبية، فعلى التوالي كلما تنامت مظاهر العسكرة في محيط اليونان زادت بالتبعية على خط التماس مع السواحل الليبية. ويبدو أن باريس تسعى حالياً لدعم هذا الاتجاه، حيث تشارك بقطعة بحرية أخرى ضمن العملية "ايريني"، لكن كان اللافت هو المشاركة الألمانية بالقطعة البحرية "هامبورج" ضمن العملية الأوروبية. ويقول مراقبون أن الموقف الألماني لا يزال مبنياً على تصور فردي وليس جماعياً حتى وإن انعكس في إطار المشاركة الجماعية، بمعنى أن برلين لم تتحرك بضغط فرنسي حتى الآن، وإنما انطلاقاً من توقعات تشير إلى احتمال تصاعد حدة التوتر مجدداً على الساحة الليبية، على نحو بدا جلياً في تحذيرات وزير خارجيتها هايكو ماس من ما أسماه بـ"الهدوء الخادع" والتي أعلن عنها في ليبيا خلال الأسبوع الجاري في الزيارة التي تزامنت مع زيارة وزيرى الدفاع القطري والتركي، وبما يشير إلى مدى تعثر المسار السياسي على حساب تزايد مسار العسكرة.
لكن التقارير الفرنسية التي استبقت لقاء المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، في 20 أغسطس الجاري، رجحت محاولة إقناع باريس لبرلين باتخاذ سياسة أكثر حزماً تجاه تركيا بشكل عام سواء في ليبيا أو إزاء اليونان، لاسيما في ضوء انتقاد ماكرون لما أسماه بـ"الدبلوماسية الضعيفة".
في النهاية، هناك حراك نشط متعدد القوى والأطراف تجاه السياسة التركية في شرق المتوسط، يأخذ مظهراً غير مسبوق في المنطقة من الانتشار العسكري، وإن كان لا يزال في مرحلة ما قبل التصعيد مباشرة، لكنه يعكس التلويح بالخيار العسكري كأداة ضغط في ظل عدم فعالية الأداة الدبلوماسية لردع تركيا التي تنتهج سلوك المناورة، بهدف الوصول لترتيبات جديدة في المنطقة.