نجحت كل من إيران وتركيا خلال الأعوام الستة الماضية في تحييد خلافاتهما حول الصراع في سوريا، رغم أن تلك الخلافات ليست هامشية، حيث وقفت كل منهما إلى جانب أحد أطراف الصراع، ومن هنا يمكن تفسير أسباب ارتفاع مستوى العلاقات الثنائية بين الطرفين على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية، بالتوازي مع اتساع نطاق تلك الخلافات. لكن عندما بدا أن ثمة اتجاهًا دوليًّا وإقليميًّا داعمًا للوصول إلى تسوية سياسية للأزمة السورية، بدأت تلك الخلافات تعود إلى الواجهة من جديد، وهو ما بدا جليًّا سواء خلال المباحثات الثلاثية بين وزراء الدفاع والخارجية في إيران وتركيا وروسيا والتي سبقت صدور ما يسمى بإعلان موسكو في 20 ديسمبر 2016، أو خلال المفاوضات الثنائية التركية - الروسية التي انتهت بإعلان وقف إطلاق النار في نهاية ديسمبر من العام نفسه.
وهنا، ربما يمكن القول إن تلك الخلافات وصلت إلى مرحلة النضوج، بشكل لم تعد معه السياسة القائمة على احتوائها أو تحييدها تكتسب أهمية ووجاهة خاصة في رؤية كل من طهران وأنقرة. لكن ذلك لا يعني في المقابل أن التصعيد الإيراني ضد تركيا سوف يصل إلى مرحلة غير مسبوقة، لا سيما وأن طهران -رغم استيائها من السياسة التركية- لا تستطيع المجازفة بالدخول في صراع مفتوح مع تركيا في سوريا على الأقل في المرحلة الحالية.
ومن هنا، فإن الاحتمال الأرجح هو أن تتبنى إيران ما يمكن تسميته بـ"سياسة الانتظار" إلى حين استشراف ما سوف تئول إليه مفاوضات الآستانة التي سوف تُعقد في 23 يناير 2017، واجتماعات "جنيف 4" التي سوف تعقبها في 8 فبراير 2017، خاصة أنها حريصة في الفترة الحالية على الحفاظ على علاقاتها مع كل من تركيا وروسيا إلى حين تبلور ملامح المواقف التي سوف تتخذها إدارة الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، سواء فيما يتعلق بالاتفاق النووي، أو ما يتصل بالاتهامات الموجهة لإيران بدعم الإرهاب.
قلق ملحوظ:
رغم إبداء كبار المسئولين الإيرانيين ترحيبهم بالجهود التي تبذلها روسيا بالتعاون مع تركيا من أجل تدعيم فرص نجاح مفاوضات الآستانة التي تهدف إلى تعزيز اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه برعاية روسية- تركية في 30 ديسمبر 2016، والاتفاق على المحاور الأساسية التي سوف تُجرى المباحثات القادمة في جنيف في 8 فبراير بناء عليها، إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمة مخاوف عديدة بدأت اتجاهات مختلفة داخل إيران قريبة من مؤسسات صنع القرار في التعبير عنها، سواء إزاء التداعيات التي يمكن أن يفرضها ارتفاع مستوى التفاهمات الجارية بين روسيا وتركيا، أو تجاه التحولات المحتملة في السياسة الروسية إزاء سوريا.
موقف المتفرج:
فقد اعتبرت تلك الجهات أن اتفاق وقف إطلاق النار وجّه رسائل غير مطمئنة بالنسبة لطهران، يتمثل أهمها في أنه أظهر كلا من أنقرة وموسكو على أنهما الطرفان الأكثر قدرة على ضبط حدود التصعيد العسكري داخل سوريا، ودعم فرص الوصول إلى تسوية سياسية للأزمة، رغم الدور البارز الذي قامت به إيران بالتعاون مع الميليشيات الطائفية المسلحة التي ساهمت في تكوينها وتدريبها.
وبعبارة أخرى، فإن تلك الاتجاهات لم تعد تستبعد إمكانية حلول تركيا محل إيران كشريك وضامن إقليمي مع روسيا في جهود تسوية الأزمة السورية، باعتبار أن أنقرة تمثل الظهير الإقليمي الداعم لقوى المعارضة، وروسيا تمثل الحليف الدولي المؤيد للنظام السوري.
وقد بدأت بعض وسائل الإعلام القريبة من مؤسسات النظام في التعبير عن تلك المخاوف، على غرار موقع "تابناك" (المشرق) القريب من محسن رضائي قائد الحرس الثوري الأسبق وأمين مجلس تشخيص مصلحة النظام، الذي حذر، في تقرير نشره في 4 يناير 2017، من احتمال تحول إيران إلى "طرف متفرج في الصراع السوري" بسبب اتجاه كل من روسيا وتركيا إلى "الاستفراد" بتنظيم المفاوضات القادمة، والاتفاق على محاور التفاوض الأساسية بين النظام والمعارضة.
بل إن بعض التقارير الأخرى بدأت توجه انتقادات قوية لروسيا بسبب تعويلها على التفاهمات الجديدة مع تركيا، معتبرة أن موسكو ارتكبت خطأ كبيرًا عندما بدأت في رفع مستوى تلك التفاهمات إلى درجة دفعتها إلى تحييد تأثير اغتيال السفير الروسي لدى أنقرة أندريه كارلوف في 19 ديسمبر 2016، سلبيًّا على تلك التفاهمات.
احتواء الأكراد:
ومن دون شك، فإن التعاون بين روسيا وتركيا في محاربة تنظيم "داعش" في مدينة الباب يُصعِّد من حدة المخاوف التي تنتاب إيران، باعتبار أن ذلك يمكن أن يوسع من نطاق الدور والنفوذ التركي داخل سوريا، خاصة مع التقارير التي تشير إلى أن تركيا تسعى إلى ضمان الحفاظ على وجود عسكري لها في مدينة الباب حتى بعد انتهاء العمليات العسكرية التي تشنها قوات "درع الفرات" والتي تلقت دعمًا روسيًّا تمثل في الضربات الجوية التي شنتها روسيا ضد مواقع تنظيم "داعش"، وهو ما يشير، وفقًا لرؤية طهران، إلى أن تركيا تحاول تبني السياسة نفسها التي سبق أن اتبعتها في العراق، والتي تقوم على تكريس دور عسكري لها داخل سوريا للحفاظ على المكاسب التي تحققها، سواء من عمليات "درع الفرات"، أو من توسيع نطاق التفاهمات الأمنية والسياسية مع روسيا.
استياء طهران من تعويل موسكو على التفاهمات مع أنقرة بدا جليًّا في الموقف الذي تبنته تجاه المطالبات التي وجهتها الأخيرة لها بالتدخل لوقف الانتهاكات التي ترتكبها الميليشيات الحليفة لها، على غرار حزب الله خاصة في منطقة وادي بردى التي تحظى بأهمية خاصة للنظام السوري وحلفائه، نظرًا إلى أنها المصدر الأساسي للمياه للعاصمة دمشق. فقد قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، في 4 يناير 2017، إن "مفاوضات الآستانة قد تتعثر إذا لم يتم إيقاف الخروقات المتتالية"، متهمًا حزب الله والميليشيات الشيعية والقوات النظامية بارتكابها، وداعيًا إيران إلى "التدخل والقيام بما يمليه عليها ضمانها لوقف إطلاق النار، وإظهار ثقلها والضغط على الميليشيات والقوات النظامية".
هذه الانتقادات سارعت إيران إلى الرد عليها بقوة؛ حيث دعت وزارة الخارجية الإيرانية تركيا، في 5 يناير 2017، إلى عدم اتخاذ مواقف غير واقعية وغير مسئولة ولا تتماشى مع الواقع والحقيقة في المفاوضات.
تحركات مؤجلة:
وعلى الرغم من أن روسيا وتركيا وجهتا إشارات تطمينية عديدة إلى إيران، على غرار استمرار تنظيم اجتماعات بين مسئولين من الدول الثلاث لمناقشة القضايا الرئيسية التي ستتضمنها مفاوضات الآستانة، مثل الاجتماع الثلاثي الذي عقد في موسكو في 13 يناير 2017، وحضره مساعد وزير الخارجية الإيراني حسين جابري انصاري، إلى جانب تأكيد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال اتصاله بالرئيس حسن روحاني لتقديم العزاء في وفاة رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني، على أن "إيران وتركيا تتحملان أعباء كبيرة في المنطقة، وينبغي عليهما تعزيز تعاونها لوضع حد للتوتر"، إلا أن ذلك في مجمله لن يدفع إيران، على الأرجح، إلى المسارعة لتأييد توسيع نطاق التفاهمات الروسية-التركية حول سوريا، حيث يبدو أن إيران سوف تفضل عدم التعجل في الحكم على المعطيات الجديدة التي بدأت تفرضها تلك التفاهمات، في انتظار النتائج التي سوف تتمخض عنها مفاوضات الآستانة ثم مباحثات جنيف.
وهنا، يمكن القول إن حرص إيران على تبني "سياسة الانتظار" في التعامل مع تلك التفاهمات، يعود إلى أن مخاوفها من التداعيات التي يمكن أن تفرضها لا تنفي -في الوقت ذاته- حاجتها الشديدة للحفاظ على علاقاتها القوية مع الدولتين، خاصة أن الفترة المقبلة ربما تشهد تصعيدًا أمريكيًّا ضدها مع بدء تولي إدارة ترامب مهامها في البيت الأبيض، وهو ما بدأت مؤشراته في الظهور مع تلويح بعض نواب الكونجرس الأمريكي بإمكانية طرح مشروع قانون يلزم وزارة الخارجية الأمريكية بإدراج الحرس الثوري باعتباره منظمة إرهابية تهدد أمن العالم.
وبعبارة أخرى، يمكن القول في النهاية، إن إيران ترى أن التفاهمات الحالية يمكن أن تساهم في صياغة ترتيبات سياسية وأمنية جديدة داخل سوريا ربما تهدد مصالحها ورؤيتها لمستقبل سوريا في مرحلة ما بعد التسوية، لكنها لن تتحرك من أجل عرقلة تلك التفاهمات على الأقل في المرحلة الحالية، إلى حين استشراف ما سوف تفرضه من نتائج في النهاية قبل التعامل معها، سواء بتعزيز فرص تحويلها إلى خطوات إجرائية على الأرض، أو بوضع عقبات عديدة تعرقل آليات تنفيذها.