أخبار المركز
  • شريف هريدي يكتب: (الرد المنضبط: حسابات الهجمات الإيرانية "المباشرة" على إسرائيل)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (عام على حرب السودان.. ترابط المسارين الإنساني والسياسي)
  • د. أحمد أمل يكتب: (إرث فاغنر: هل قاد "التضليل المعلوماتي" النيجر للقطيعة مع واشنطن؟)
  • عادل علي يكتب: (موازنة الصين: دوافع تزايد الانتشار الخارجي للقوة البحرية الهندية)
  • إبراهيم فوزي يكتب: (معاقبة أردوغان: لماذا خسر حزب العدالة والتنمية الانتخابات البلدية التركية 2024؟)

الاعتمادية المفرطة:

هل ينذر انتشار "كورونا" بتراجع روابط العولمة؟

01 مارس، 2020


يُمثّل الانتشار الواسع لفيروس "كورونا" أخطر أزمة وبائية عالمية في الألفية الثالثة. فمنذ بدايات اكتشافه في مدينة ووهان الصينية أواخر ديسمبر 2019 حتى أواخر فبراير 2020، امتد الفيروس من الصين، حيث تم رصد ما يقرب من 80 ألف حالة، إلى 48 دولة أخرى، تقع في آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، رُصد فيها حوالي 4500 حالة. ويترقب العالم دخول الفيروس في مرحلة جديدة وخطيرة من الانتشار، بوصوله إلى إفريقيا جنوب الصحراء، بعد أن رُصدت أول حالة في نيجيريا. كما أعلنت الولايات المتحدة مؤخرًا الاستنفار لمواجهة احتمال تفشي الفيروس على أراضيها.

قوبل انتشار الفيروس في الصين بما وُصف بأنه أكبر حالة استنفار طبي في التاريخ على مستوى دولة واحدة. وقد تضمّن ذلك إجراءات غير مسبوقة، منها وضع سكان مدينة ووهان (بؤرة انتشار الوباء) البالغ عددهم 11 مليونًا، تحت إجراءات صارمة من العزل، وحظر التنقل. وطُبّقت تلك الإجراءات أيضًا بدرجات مختلفة في مناطق متعددة من الصين، ما أدى إلى النجاح في حصر أسوأ مظاهر الوباء في منطقة البؤرة، ومنعه من الانتشار بشكل واسع في تجمعات أكبر وأكثر مركزية مثل العاصمة بكين.

وقد تعاملت الدولُ الأخرى التي امتدّ إليها الفيروس، والدول المجاورة لها التي تحاول منع امتداده إليها، مع هذه الأزمة بإجراءات مشابهة، والتي تضمنت غلق الحدود، ووقف رحلات الطيران، والعزل الصحي، وإلغاء التجمعات والفعاليات العامة، وحتى الشعائر الدينية.

تأثر العولمة

سلط الانتشار الواسع للفيروس الضوءَ على المخاطر التي تُواكب ارتفاع وتيرة الحركة بين مختلف أركان الكرة الأرضية بسرعة وسهولة، والتي ارتبطت بتنامي حجم العلاقات التجارية والاقتصادية بين مختلف مناطق ودول العالم. لكنّ الإجراءات التي اتُّخذت لمواجهة الأزمة أظهرت أيضًا التداعيات السلبية لتوقف عجلة العولمة عن الدوران، وإغلاق الحدود، ووضع القيود على حركة الأشخاص. فيما اعتبره بعض المحللين عرضًا أوّليًّا أو "بروفة" لما قد يواجه العالم مستقبلًا إذا ما ساد التيار المناهض للعولمة، الصاعد بقوة في عدد من الدول، ولا سيما على الساحة الأمريكية بشكل خاص.

ورغم أنه من المبكر إعلان "وفاة" العولمة، فلا شك أن تفاعلات أزمة فيروس كورونا ستعزز من التناقضات والتوترات التي تضغط عليها أصلًا، وتتسبب في المزيد من الأزمات الإنسانية والسياسية والاقتصادية في المستقبل المنظور.

ورغم أن عملية العولمة اقترنت بتصاعد وتيرة الأخطار العابرة للحدود، بمختلف أشكالها، والتي تهدد النظام العالمي ككل؛ ظل هناك ضعف واضح وقصور شديد في التعاون الدولي لمواجهتها. ويتجلى ذلك بوضوح في ضعف أداء المؤسسات الدولية متعددة الأطراف، وصعوبة حصولها على التمويل اللازم، خاصة في السنوات الأخيرة، بالتوازي مع تراجع حجم الدعم التنموي الذي تقدمه الدول المتقدمة لمساعدة الدول الضعيفة على تجاوز أزماتها. 

ويعود ذلك لأسباب متعددة، منها: أن بعض الدول ترى في أنشطة المنظمات الدولية تدخلًا في أمور تعتبرها سيادية. في حين ترى أخرى أنها تُحمّلها أعباء اقتصادية ليست مستعدة لها. بينما لا يقتنع عددٌ من الدول أصلًا بالعمل الدولي متعدد الأطراف، كما هو موقف الولايات المتحدة تحت إدارة الرئيس "دونالد ترامب".

وفي محاولة لإقناع الدول المموِّلة بالمخاطر الصحية التي ستواجه المجتمع الدولي في الفترة القادمة، أصدرت منظمة الصحة العالمية في عام 2018 تقريرًا عن أخطر الأوبئة التي واجهها العالم في العصر الحديث. وأضافت إلى القائمة توقّعها ظهور فيروس لم يُكتشف بعد، يحقق انتشارًا على مستوى العالم كله، ويمثل تهديدًا للاستقرار على المستوى المجتمعي، وهو الوصف الذي يعتبره المختصون مناسبًا للوباء الحالي. 

بيد أن التعاون الدولي متعدد الأطراف ظل قاصرًا في هذه الأزمة كما في سابقاتها عن التصدي الفعال، حيث انتقدت منظمة الصحة العالمية المقترح الذي قدمه البنك الدولي لتوفير التمويل للدول المتضررة لمواجهة الفيروس، لأن تعقيداته لن تسمح بتوفير الدعم وقت الحاجة إليه، وأنه يضيع الوقت في إجراءات بيروقراطية معقّدة بينما الأرواح تُزهق. 

وبرغم الدرجة العالية من التشابك والتأثير المتبادل الذي يجسده الواقع العالمي الجديد، تظل الدولة هي خط الدفاع الأول أمام المخاطر العابرة للحدود، وترتبط كفاءة جهودها في مواجهة مثل هذه الأزمات بقوة البنية التحتية، والخبرات العلمية، والقدرات الحكومية المتاحة لها. وقد أظهرت تجربة الصين مع الفيروس مدى الضغط الذي يضعه هذا الوباء على الخدمات الصحية، وبشكل خاص على الأطباء والممرضين، في وقت ارتفعت فيه بشكل مقلق معدلات الإصابة والوفيات بينهم.

مأزق المواجهة 

يُظهر التعامل الصيني مع الوباء أن لديها بنية صحية متطورة نسبيًّا، حيث نجح الأطباء في تحديد وجود الوباء وعزل الفيروس المسبِّب له، ومشاركة هذه المعلومات بشكل منظم وسريع نسبيًّا، مع المنظومة الطبية داخل البلاد، والدوائر العلمية خارجها أيضًا. وبحسب ما تسرب من تقارير، فرغم حشد الإمكانيات من مختلف أنحاء الدولة للتعامل مع الأزمة في منطقة بؤرة الفيروس؛ فإن عبء التعامل مع أعداد كبيرة من المرضى أوصل مقدمي الخدمات الطبية إلى حالة من الإنهاك الشديد.

ولأن ثمار العولمة لم تصل بشكل متساوٍ إلى كل الدول النامية، فلا يتوفر لأغلبها إمكانيات كبيرة. ومع غياب الدعم الخارجي، من المتوقع أن تواجه العديد منها صعوبات، إن لم نقل عجزًا، فيما يتعلق بوقف تمدد الفيروس، ورعاية المصابين بها. 

وقد حذّرت منظمة الصحة العالمية بشكل خاص من خطورة الوضع في إفريقيا، حيث كشفت تجربة مواجهة وباء الإيبولا هناك منذ سنوات القصور الشديد في البنية التحتية، والإمكانيات الطبية اللازمة لمواجهة هذه الأزمات. وصرح المسئولون بأن انتشار الفيروس في القارة الإفريقية قد يصل إلى مرحلة "الخروج عن السيطرة".

ولا يقتصر خطر وصول الفيروس إلى دول تُعد هشة أو منهارة، بل إنه يشمل دولًا أخرى قطعت شوطًا كبيرًا في الاندماج بالاقتصاد العالمي، والتي ظهرت بها بعض الملامح المرتبطة بذلك، مثل: المطارات الكبيرة، والمدن المليونية، والحركة الكبيرة للمسافرين، خاصة حين لا يقترن ذلك بوجود بنية خدمية قوية. 

وقد نقلت تقارير لوكالة "رويترز" أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية تتابع بقلق الوضع في الهند، حيث تمثل الكثافة السكانية العالية، ومعدلات الهجرة الداخلية المرتفعة، وتباين مستوى الخدمات الصحية بين مختلف المناطق؛ عوامل تساعد على انتشار الفيروس بدرجة تفوق القدرة على التعامل معها. 

وكما أن التداعيات الإنسانية المحتملة لذلك ستكون كبيرة، وقد يواجَه العالم في أسوأ الحالات بكوارث إنسانية جديدة؛ فمن المتوقع أن يكون لأزمة الفيروس تأثير سلبي على المستوى الاقتصادي أيضًا. وسيتوقف حجم التكلفة على مدة استمرار الأزمة، واستمرار توقف حركة النقل والسياحة عبر الحدود، وغلق المصانع، ومنع التجمعات. لكن من المتوقع أن يمتد التأثير ليشمل جميع قطاعات المجتمع، وأن تتأثر القطاعات الفقيرة بشكل خاص التي تعتمد على عائد يومي، وأن تؤدي الأزمة إلى تراجع معدلات النمو، وتباطؤ الاقتصاد في كل الدول المتضررة.

تداعيات عالمية

حفّزت أزمة فيروس كورونا حالة من التربص والعداء للصين كقوة صاعدة، حيث دللت تداعيات الأزمة على موقعها المحوري في قلب منظومة الاقتصاد العالمي، ما أثار المخاوف من تداعيات "الاعتماد المفرط" عليها كمحرك للاقتصاد العالمي.

وأدت الإجراءات الصينية واسعة المدى لمواجهة انتشار الفيروس إلى شبه توقف لحركة الإنتاج والبشر، في ظروف من العزل الصحي ومنع التنقل. وفي الخارج، ألغت العديد من شركات الطيران رحلاتها إلى الصين خوفًا من انتقال العدوى. وكان التأثير لتزامن هذه الإجراءات على مختلف قطاعات الاقتصاد العالمي كبيرًا.

كما تضررت الشركات التي تعتمد على مصانع صينية في تصنيع أجزاء من منتجاتها، ومنها شركات في ألمانيا والولايات المتحدة وفيتنام، حيث أصبحت مهددة بعدم القدرة على مواصلة العمل إن لم تواصل الماكينة الصينية نشاطها وإمدادها بمكونات الإنتاج. كما مُنيت شركات الطيران بخسائر فادحة بسبب وقف الرحلات إلى الصين، ثم ارتفعت هذه الخسائر بمنع الرحلات إلى دول أخرى ظهر فيها الفيروس. فضلًا عن تضرر القطاع السياحي في العديد من الدول داخل وخارج آسيا مع تراجع الحركة السياحية من الصين، والتي تمثل نسبة معتبرة من موارده. ناهيك عن تراجع الطلب على البترول، ما أدى لانخفاض أسعاره، وتراجع حركة نقل البضائع من خلال السفن والموانئ.

وقد تصاعدت أصوات التيار المناهض للعولمة، بوصفها أتاحت الفرصة للصعود الصيني، لإثارة المخاوف من هذه الاعتمادية المفرطة على بكين، مؤكدة ضرورة عودة الشركات الكبرى للتصنيع على أرض الدولة الأم، إما بإقامة مصانع، أو باستغلال التكنولوجيا في إنتاج هذه المكوِّنات، من خلال الطابعات ثلاثية الأبعاد مثلًا. وقد دفع هذا التيار بأن ذلك سيجعل الشركات أقل عرضة للتأثر بمتغيرات خارج حدودها، وللضغوط الصينية لإجبار هذه الشركات على نقل خبراتها التكنولوجية إليها. بل إن مسئولين أمريكيين تجاهلوا كل أبعاد الأزمة الإنسانية التي تتعرض لها الصين، ورحبوا علنًا بفرصة إعادة الشركات الأمريكية إلى أراضي الولايات المتحدة.

انتقادات غربية

تصاعدت الانتقادات الغربية للصين أيضًا حول تعاملها مع الأزمة في بداياتها، ومحاولات السلطات المحلية في مدينة ووهان منع نشر الأخبار المتعلقة بالفيروس بشكل علني، ما أدى إلى انتشار الفيروس. وقد اعتبرت العديدُ من الكتابات الأمريكية بشكل خاص "الطبيعة السلطوية" للنظام الصيني، وسياساته في قمع حرية التعبير، تهديدًا لسلامة العالم. ومن الجدير بالذكر أن قمع نشر تحذيرات بعض الأطباء من الفيروس على وسائل التواصل الاجتماعي قوبل أيضًا بغضب شديد داخل الصين.

اتسعت دوائر التوترات بين الصين والولايات المتحدة على خلفية الأزمة، واتهمت بكين واشنطن بأنها تتعمد إثارة الذعر عالميًّا بشكل غير مبرر. وقد أدى اعتراض الصين على وجود عدد من الأطباء الأمريكيين على قائمة وفد منظمة الصحة العالمية الذي أراد زيارة بؤرة انتشار الفيروس لتقييم الوضع وتقدير الإجراءات اللازم اتباعها عالميًّا إلى تأجيل وصول الوفد إلى الصين، ما صعّد من الاتهامات الموجهة إليها بإخفاء الحقائق وعدم التعاون مع المجتمع الدولي.

من جانب آخر، انتشرت في مختلف الدول، ومن بينها الحليف المقرب روسيا، إجراءات تمييزية ضد الصينيين، أو من هم من أصل صيني أو آسيوي، بوصفهم مصدرًا محتملًا لانتشار الفيروس، حتى لو كانوا من المقيمين خارج الصين. واقترن ذلك بانتشار واسع لمعلومات مغلوطة على وسائل التواصل الاجتماعي عن الثقافة والعادات الصينية، بوصف أن "شذوذها" هو الذي يسبب ظهور الفيروسات أصلًا في الصين. كما تواترت أنباء عن إلغاء رحلات الطيران إلى بكين، وأغلقت بعض البلاد المجاورة الحدود معها، ومنها أيضًا موسكو، ومنعت دول أخرى منح تأشيرات لمواطني الصين.

فك الارتباط 

اقترنت أزمة الفيروس في مرحلة "الانتشار الصيني" إذن بتصاعدٍ في التوتر وتراجعٍ في الثقة بين الدول والشعوب على الساحة الدولية، وهو ما قوبل على الجانب الصيني أيضًا برد فعل "انسحابي" إن جاز التعبير، وتفكير في تسريع وتيرة ما يُعرف بسياسة "فك الارتباط" بين الاقتصادين الأمريكي والصيني.

فوفقًا لقواعد العولمة، فإن الصين أيضًا تعتمد على استيراد مكونات معينة من الولايات المتحدة، خاصة في مجال منتجاتها التكنولوجية. لكن واشنطن أصبحت تلوح بشكل متكرر بمنع تصدير هذه المكونات إلى بكين، وتسعى إلى تقليص حتى دراسة الطلبة الصينيين في جامعاتها، تحت زعم أنهم كلهم جواسيس للنظام هدفهم سرقة أسرار التكنولوجيا.

ووصلت الصين إلى قناعة بأن عليها بأي شكل من الأشكال تطوير قواعدها التكنولوجية المستقلة، وعدم الاعتماد على استيرادها من الولايات المتحدة، وعدم الاعتماد أيضًا على تصدير منتجاتها إليها. وهو التوجّه الذي عُرف بسياسة "فك الارتباط". وربما يمتد تأثير موجة العداء للصينيين التي تصاعدت أثناء أزمة الفيروس إلى تراجع زيارات السائحين من الصين إلى بعض الدول الغربية. كما أن أعداد الطلبة الصينيين في الولايات المتحدة من المنتظر أن تتراجع إذا استمرت سياسة إدارة "ترامب" الحالية تجاههم، وتجاه أي تعاون بين الأكاديميين الصينيين والجامعات الأمريكية، بما في ذلك تلقي هذه الجامعات منحًا صينية، والتي أصبحت من المصادر الأساسية لتمويل المؤسسات العلمية والأكاديمية.

نظام عالمي منقسم

بينما يرتبط تأثير أزمة فيروس كورونا على النظام الدولي وتفاعلاته بمداها الزمني واتساع مدى انتشارها، فإن التوترات التي اندلعت في الشهور القليلة الماضية عمقت بالفعل من انقسامات وتوترات كانت موجودة أصلًا. من جانب آخر، فقد أوضحت الأزمة أن التراجع عن الاعتماد الاقتصادي المتبادل لن يكون سهلًا ولا بدون تكلفة، على كل الدول المنخرطة في هذه المنظومة العالمية. 

ولم يتضح بعد ما إذا كانت الشركات الأمريكية على استعداد للتضحية بالسوق الصينية الضخمة، ناهيك عن قدرتها على إيجاد أماكن بديلة لتصنيع منتجاتها. كما أن الشركات الصينية أيضًا لها مصالح في الأسواق الأوروبية، ولا تبدو أوروبا في الوقت الحالي مستعدة للتضحية بالعلاقات الاقتصادية مع الصين.

 ورغم أنه من المستبعد أن تكون الأزمة سببًا في تغييرات جذرية بالنظام الدولي؛ فإن سيناريو "فك الارتباط" بين الاقتصادين الأكبر في العالم (الولايات المتحدة، والصين) يلوح في الأفق. وفي هذه الحالة، يتحدث الخبراء عن انقسام النظام العالمي إلى "مجالات نفوذ اقتصادي"، يهيمن على كل منها إحدى القوى الكبرى، وتتميز بكثافة العلاقات الاقتصادية والتجارية بداخلها، بينما تقل أو تنقطع الأواصر بين هذه "المجالات الحيوية" وبعضها، حيث تسود بينها علاقات قائمة على عدم الثقة والتنافس، وهو ما يشكل نهاية المرحلة الحالية من العولمة.