أخبار المركز
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (المعضلة الروسية: المسارات المُحتملة لأزمات الانتخابات في جورجيا ورومانيا)
  • إسلام المنسي يكتب: (جدل الوساطة: هل تخلت سويسرا عن حيادها في قضايا الشرق الأوسط؟)
  • صدور العدد 38 من دورية "اتجاهات الأحداث"
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (الروبوتات البشرية.. عندما تتجاوز الآلة حدود البرمجة)
  • د. فاطمة الزهراء عبدالفتاح تكتب: (اختراق الهزلية: كيف يحدّ المحتوى الإبداعي من "تعفن الدماغ" في "السوشيال ميديا"؟)

لحظة الاختبار:

التحديات الداخلية والإقليمية لـ"عودة المقاتلين" إلى تونس

03 يناير، 2017


أثار إعلان وزير الداخلية التونسي الهادي المجدوب خلال جلسة مساءلة مسائية بمجلس النواب التونسي، يوم الجمعة 23 ديسمبر 2016، عن عودة ما يزيد عن 800 مقاتل تونسي في صفوف داعش إلى الأراضي التونسية، جدلا مجتمعيًّا وسياسيًّا كبيرًا، ونقاشًا مهمًّا بين مختلف الباحثين والأكاديميين المتخصصين في السياسات الأمنية، لما لهذه العودة من تحديات أمنية على المستوى الإقليمي، خاصة وأن المسألة لا تتعلق بتونس وحدها وإنما ببقية البلدان المغاربية.

وبحسب إحصائيات قامت بإعدادها مجموعة صوفان (The Soufan Group) الأمريكية للدراسات الأمنية، في تقريرها حول المقاتلين الأجانب "Foreign Fighters" الصادر في 8 ديسمبر 2015، فإن عدد المقاتلين من الدول المغاربية في صفوف تنظيم داعش في العراق وسوريا يُقدر بـ7370 مقاتلا، موزعين على الشكل التالي: 6000 تونسي، 1200 مغربي، 170 جزائريًّا، وهي أرقام جاءت متناسقة -إلى حدٍّ كبيرٍ- مع تقرير وزارة الخارجية الأمريكية حول الإرهاب في العالم الصادر في يونيو 2016، وكذا مع إحصائيات وبيانات المركز الدولي لدراسة التطرف (ICSR).

في هذا الإطار، مثَّل انحصار نفوذ تنظيم داعش في سوريا والعراق بفقدانه نحو ثلث الأراضي التي سبق أن سيطر عليها، وتكبده خسائر بشرية ومادية فادحة جراء الضربات الجوية العسكرية التي تلقاها، وتجفيف أغلب مصادر تمويله؛ عاملا محفزًا لعودة المقاتلين الأجانب إلى بلدانهم الأصلية، ما يمهد لمستوى آخر محتمل من العنف والتطرف والإرهاب تجاه الدول المُصدِّرة للمقاتلين، وهو ما عبرت عنه الأمم المتحدة في تقرير أمينها العام حول خطر عودة المقاتلين الأجانب إلى بلدانهم الأصلية، الموجه لمجلس الأمن في مايو 2016 تفعيلا لطلب المجلس في الفقرة 97 من قراره 2253.

وعليه، تُمثِّل دراسة الحالة التونسية تجاه مسألة عودة المقاتلين من ساحات القتال في سوريا والعراق، وكيفية استيعابهم، ومخاطر ذلك بين التأييد والرفض، مدخلا أساسيًّا لفهم ظاهرة عودة المقاتلين الأجانب إلى أوطانهم الأصلية، ما يتطلب استعراض الجدل القائم حول هذه العودة، وتحديات ما بعد العودة، وإفرازاتها المحتملة على الدولة في حدودها الجغرافية الوطنية وعلى الأمن الإقليمي.

جدل العودة

ينقسم الشارع التونسي والأوساط السياسية، على حد سواء، ما بين معارضين ومؤيدين لمسألة عودة المقاتلين من ساحات القتال في العراق وسوريا، ولكلٍّ من التيارين حججه وبراهينه التي يبني انطلاقًا منها موقفه.

أولا- الرافضون: ينبني موقف هذا التيار الرافض لعودة المقاتلين، من منظور التهديدات والمخاطر، بحسبان أن الدولة التونسية غير قادرة عمليًّا على ضبط واستيعاب المقاتلين وفقًا للبيئة الداخلية الراهنة، والتي تتميز بنهج الحكومة التونسية سياسةً غير واضحة لمعالجة هذا الملف، وسط غياب للتشريعات والقوانين المختصة بمسألة عودة المقاتلين الإرهابيين.

إذ إن قانون الإرهاب التونسي لم يتطرق بشكل دقيق ومفصل لحالة عودة المقاتلين من ساحات المعارك خارج تونس، وأن مشروع قانون "التوبة" يبقى ضبابيًّا في ظل الغموض الذي يطبع ماهيته بعد إعلان الرئيس التونسي عن أن هذا القانون سيمكِّن العائدين من سوريا من العفو، وعدم متابعتهم في حال إعلانهم توبتهم، وثبوت عدم تورطهم في الأعمال الإرهابية في سوريا، وغياب الوضوح حول إطاره التشريعي، وهل سيكون في شكل قانون جديد أم ضمن تعديلات على قانون الإرهاب أو القانون الجنائي التونسي؟.

ويدعو هذا التيار الذي يضم نقابات تونسية أبرزها النقابة الرئيسية لقوات الأمن بتونس، إلى سحب الجنسية التونسية عن هؤلاء المقاتلين، ويؤكد أن لجوء الدولة التونسية في حالات عديدة سابقة إلى الاكتفاء بمراقبة ومتابعة المقاتل العائد بفعل غياب الأدلة حول مشاركته في القتال، أمر مرفوض وغير ممكن من الناحية العملية، لما يتطلبه ذلك من موارد مادية كبيرة ومتابعة استخباراتية دقيقة، وهو ما يرفع من منسوب التهديد بالقيام بأعمال إرهابية في إطار ما يُطلق عليه "الذئاب المنفردة".

ثانيا- المؤيدون: يتشكل هذا التيار من الاتجاه الرسمي متمثلا في الحكومة التونسية، واتجاه مجتمعي وحقوقي متمثلا في ناشطين حقوقيين ومدنيين، ويرتكز تصور هذا التيار حول الحق الذي كفله الدستور التونسي في الفصل 25، بعدم سحب الجنسية من أي مواطن تونسي أو تغريبه أو تسليمه أو منعه من العودة. 

وتعد حركة النهضة التونسية من أبرز المؤيدين لعودة المقاتلين والعفو عنهم في إطار مشروع قانون "التوبة"، وهو أمر راجع أساسًا إلى التلاقي الأيديولوجي بين المقاتلين العائدين المتشبعين بالفكر السلفي الجهادي، وحركة النهضة.

ويؤكد هذا التيار أن حق العودة مكفول لهؤلاء المقاتلين، شرط متابعتهم قضائيًّا طبقًا لقانون الإرهاب إلى حين صدور مشروع "قانون التوبة"، خصوصًا وأن الفصل 33 من قانون الإرهاب ينص -بصفة عامة- على متابعة كل من اشتُبه به في القيام بأعمال إرهابية أو قام بالتحضير لها أو التحريض عليها.

ويُضاف إلى هذا الجانب، الضغوط المفروضة على الحكومة التونسية من المجتمع الدولي، لاحترام التزاماتها الدولية، بتنفيذ جميع القرارات الدولية بمكافحة الإرهاب، خصوصًا قراري مجلس الأمن الدولي 2178 (2014) و2253 (2015) بمكافحة الإرهاب ومصادر تمويله وظاهرة المقاتلين الأجانب.

تحديات ما بعد العودة

تشكل عودة المقاتلين أحد أكبر التحديات الأمنية التي ستواجه الدول المغاربية وخاصة تونس خلال السنوات المقبلة، وهو أمر يتطلب وضع سياسات فعالة لمكافحة التطرف والإرهاب، تتناسق مع التزامات الدولة بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان.

ولعل أكبر تحدٍّ يُواجه الدولة التونسية على الصعيد الداخلي في هذا الملف، هو إيجاد حزمة سياسات ناجحة. وفي هذا الإطار، تشكل مبادئ مدريد التوجيهية التي جاءت في تقرير لجنة مكافحة الإرهاب التابعة لمجلس الأمن بتاريخ 15 ديسمبر 2015، خريطة طريق واضحة المعالم، تنبني حول ثلاثة محاور رئيسية: 

1- الكشف عن أعمال تحريض المقاتلين الإرهابيين الأجانب، وتجنيدهم وتيسير أنشطتهم، والتدخل للتصدي لها.

 2- منع سفر المقاتلين الإرهابيين الأجانب بكافة التدابير الرامية لتعزيز أمن الحدود.

3- تدبير عودة المقاتلين الإرهابيين الأجانب إلى أوطانهم الأصلية.

وبخصوص المحور الأخير المتعلق بعودة المقاتلين يتوجب على الدولة التونسية اتباع مقاربة شاملة تنبني على توقيف المقاتل، ومتابعته قضائيًّا، وتأهيله، وإعادة إدماجه، وفقًا للخطوات التالية: 

أولا- نهج سياسات أمنية، بضبط عودة وتدفق المقاتلين، من خلال مركز للبيانات والمعلومات الخاصة بهؤلاء، والتنسيق مع جميع الأطراف الإقليمية والدولية، لتحديد هوياتهم، وإلقاء القبض عليهم أثناء اجتيازهم للمعابر الحدودية، خصوصًا وأن غالبيتهم سيلجأ للدخول بطرق سرية أو بأوراق هوية مزورة. وفي هذا الخصوص، على الدولة تعزيز أدواتها الأمنية، والرفع من فعاليتها دون المساس بالتزاماتها الدولية بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان.

ثانيا- تحديث الترسانة القانونية، بتكييف القانون التونسي بما يتناسب مع التزامات الدولة على الصعيد الدولي، وذلك باستيفاء متطلبات القرار 2178 (2014)، بتجريم الأعمال التي قام بها المقاتلون العائدون، ووضع الأسس القانونية لملاحقتهم قضائيا، وتسهيل وتيسير عمل الأجهزة الأمنية بتوفير الغطاء القانوني في إطار عمليات استباقية.

ثالثا- التأهيل، بإتباع مقاربة شاملة، تأخذ بعين الاعتبار تنشئة كل مقاتل على حدة، ومعتقداته وتصوراته، وتعمل على تليين أفكاره حول مفاهيم العنف والتطرف والإرهاب والخلافة، وهو ما يتطلب تخصيص مراكز للإصلاح والتأهيل، وتعزيز الموارد البشرية بمتخصصين في علم الاجتماع وعلم النفس وأئمة وواعظين.

رابعا- إعادة الإدماج، عن طريق متابعة كل مقاتل على حدة اجتماعيًّا واقتصاديًّا، بعد الانتهاء من عقوبته السالبة للحرية التي حُكم عليه بها، ومحاولة تيسير انصهاره في النسيج الاجتماعي من جديد تحت إطار الدولة الوطنية واحترام سيادة القانون.

عودة المقاتلين والدولة الفاشلة

يبقى السؤال المطروح: هل تُشكل عدم قدرة الدولة التونسية على استيعاب المقاتلين ضمن سجونها وإدماجهم، وفق ما صرح به الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي، عاملا محفزًا لنموذج دولة تونسية فاشلة في المستقبل، وأمن إقليمي مضطرب؟.

يُعرف فشل الدولة بكونه عجزًا نسبيًّا عن القيام بوظائفها على مختلف المستويات، وفشلها خلال فترات متقطعة في السيطرة على جزء من إقليمها، رغم وجود سلطة سياسية. ولعل عدم عمل تونس على اتباع خطوات التأهيل والإدماج ومعالجة الظروف المؤدية للتطرف بالشكل الذي تضمنته مبادئ مدريد التوجيهية، وعدم قدرتها على استيعاب المقاتلين ضمن سجونها، كمؤشر أمني خطير، يضاف لمؤشرات سياسية (غياب التوافق الوطني حول ملف المقاتلين وملفات حساسة أخرى)، واقتصادية (عنف اقتصادي ممارس على الفئات الهشة)، واجتماعية (غياب الرضا الاجتماعي)؛ يشكل حافزًا لتنامي الفكر المتطرف، ولجوء المقاتلين العائدين إلى عمليات في إطار ما يطلق عليه بـ"الذئاب المنفردة"، أو الانضمام إلى "خلايا إرهابية نائمة"، وتفعيل نشاطاتها، والعمل على إعادة مبايعة تنظيم داعش، ونهج الأسلوب الذي تعودوا عليه في القتال تحت كنف التنظيم وهو المركزية في اتخاذ القرار.

وعليه، لن ينحصر الوضع التونسي داخل حدود البلاد الجغرافية، وإنما سيمتد إلى دول الجوار، خصوصًا الجزائر والمغرب وكذلك موريتانيا، كونها أولا مخاطبة بعودة المقاتلين (المغرب والجزائر) إلى أراضيها مستقبلا رغم ارتفاع قدرة استجابتها على ضبط ذلك مقارنة بتونس، وثانيًا لأنها مضطرة للحد من الفجوة التي خلفها الفراغ الأمني جراء الحالة الليبية، من مجال جغرافي كبير للتحرك والمناورة والتزود بالأسلحة، لفائدة تنظيمات إرهابية في الإقليم، على غرار: "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" و"المرابطون" و"أنصار الشريعة" وحركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا.

ويبين مؤشر الإرهاب العالمي لسنة 2016 الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام (IEP)، أن الدول المغاربية ضمن المستوى المتوسط من حيث التهديدات. وبحسب نفس المؤشر الذي يعتمد على مقياس تنازلي من أعلى مستوى للتهديد 10 إلى أقل مستوى 0 (أي انعدام أي تهديد)، تُعد المغرب الدولة الأقل تهديدًا في شمال إفريقيا بدرجة 0,892 مقارنة بالجزائر 4,282 وتونس 4,963 وليبيا 7,283.

وبالرغم من أن مستوى التهديد يبقى في مداه المقبول ضمنيًّا بالنسبة للمغرب والجزائر وتونس، إلا أنه من المتوقع على المدى القريب والمدى المتوسط، أن يرتفع منسوب التهديدات الأمنية في ظل عدم ثبات معايير السلام في الدول المغاربية، والتي يحددها معهد السلام والاقتصاد العالمي في ثلاثة معايير، هي: مستوى الأمن والأمان في المجتمع، ومستوى الصراع المحلي والإقليمي، ودرجة التزود بالقوى العسكرية، وهو ما يستوجب من هذه الدول:

1- تجاوز الخلافات السياسية، والتأسيس لتعاون أمني وثيق لضبط المعابر الحدودية. وهنا على النظام الجزائري اتباع الواقعية كضابط للعلاقات الدولية، وبناء علاقات براجماتية مع الجانب المغربي، تبدأ بقبول فتح الحدود بين الدولتين، والتفاهم على آليات ضبطها. 

2- تبادل المعلومات بين أجهزة الاستخبارات العامة في دول المنطقة في كل ما من شأنه تعزيز الأمن الإقليمي.

3- تبادل التجارب في آليات وأدوات تدبير ومواجهة التطرف والإرهاب، وهنا وجب الاستفادة من التجربة المغربية الرائدة في محاصرة التشدد وتأهيل وإدماج المتشددين، وفق مقاربة متعددة الأبعاد (أمنية، قانونية، دينية وثقافية، سياسية).

ختامًا، إن أي استراتيجية وطنية لإدماج المقاتلين الإرهابيين العائدين من ساحات القتال، لا تستقيم إلا بمعالجة الظروف المؤدية للتطرف والإرهاب، واستئصال البيئة الحاضنة للفكر المتطرف، وبناء قدرات الدولة على منع الإرهاب ومكافحته، في احترام تامٍّ لالتزامات الدولة تجاه حقوق الإنسان وسيادة القانون، مع التأسيس لشراكة إقليمية تنبني على التعاون وتبادل المعلومات في الميدان الأمني، في إطار الاستراتيجية الدولية لمكافحة الإرهاب.