بات الفضاء الخارجي أحد موارد القوة التي تسعى الدول لامتلاكها لتعزيز قدرتها التنافسية، والدفاع عن مصالحها ومكانتها في النظام العالمي، بعد أن أصبح هذا المورد متداخلاً على نحو وثيق مع القدرات العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية للدول. إذ إن امتلاك التقدم الفضائي، سواء عبر إطلاق الأقمار الصناعية والصواريخ والنظم المضادة لها، يعزز قدرة الدول على تطوير فعالية جيوشها وبناء ردع استراتيجي للخصوم. وإذا أُضيف إلى ذلك، ما تتيحه الأقمار الصناعية من قدرات للدول على جمع البيانات والمعلومات، فإن الأمن الفضائي للدول بات غير منعزل عن أمن الأرض التي تخضع لسيادتها.
وبينما اقتصرت قوة الفضاء الخارجي إبان الحرب الباردة على قوى عظمى، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي السابق، إلا أن تفكك الأخير سمح بهيمنة أمريكية في هذا المجال سرعان ما واجهت تحدياً صينياً وروسياً خلال العقدين الأخيرين، في ظل انتقال النظام العالمي من هيمنة القطب الواحد إلى تعددية قطبية. وتمددت أيضاً قوة الفضاء على نطاق جغرافي أوسع في العالم، لترتادها دول عديدة تراوحت قوتها بين الصغيرة والمتوسطة، خاصة أن موارد القوة – أياً كان شكلها - باتت تخضع أكثر من الماضي لمبدأ الانتشار العالمي، في ظل العولمة وثورة التكنولوجيا والاتصالات، وتآكل السيادة، وغيرها.
لذلك، لم تعد النظرة لإطلاق الأقمار الصناعية، ورحلات اكتشاف المريخ، شأناً يخص الدول الغربية، بل إن هناك دولاً شرق أوسطية أصبحت تسعى لبناء نفوذ ومكانة في هذا المجال الفضائي، مثل دولة الإمارات والسعودية ومصر وتركيا، وغيرها. بل إن الفواعل دون الدول، مثل الشركات التجارية الكبرى وجدت في الفضاء مورداً اقتصادياً أدمجته في السوق الرأسمالية العالمية، سواء عبر الرحلات التجارية الترفيهية، والبحث عن فرص تكنولوجية، من قبيل تأسيس شركات إنترنت الفضاء وغيرها.
في ظل هكذا توسع لقوة الفضاء الخارجي، بدت عسكرته انعكاساً للصراع الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والقوى الصاعدة عالمياً، كالصين وروسيا؛ إذ يلفت الخبراء إلى مخاطر التسلح الفضائي بين هذه القوى، وإمكانية نشوب حروب في المستقبل، في ظل امتلاك موسكو وبكين أنظمة صاروخية مضادة للأقمار الصناعية، ناهيك عن توقعات أمريكية بأن بكين ستكون المنافس الأبرز لواشنطن في مجال إطلاق الأقمار الصناعية بحلول عام 2040.
ومع ذلك، برزت اتجاهات سلمية مدنية عالمية تدعو إلى اعتبار المورد الفضائي فرصة للمجتمع الدولي للتعاون في مواجهة الظواهر التي تهدد أمن الدول والمجتمعات، إذ يمكن مكافحة الإرهاب عبر تحديد نظم تحديد المواقع، بما يساعد الجيوش الوطنية على محاربتها بفعالية، كما يمكن بناء قدرة استباقية على الاستجابة لتغيرات المناخ عبر نظم المعلومات الفضائية، فضلاً عن مساعدة قوات حفظ السلام على تفعيل مهامها في مناطق الصراعات، وغيرها.
ومن هنا، صارت هناك نقاشات عديدة في مراكز الفكر والدراسات الغربية حول سبل التنظيم القانوني الدولي للفضاء الخارجي، فبالرغم من وجود معاهدات متعددة في إدارة هذا المجال، ومنها معاهدة الفضاء الخارجي لعام 1967 التي تحظر استخدام أسلحة الدمار الشامل في الفضاء؛ فإن ثمة احتياجاً لإطار قانوني عالمي مُلزم لتنظيم الاستخدامات سواء العسكرية أو المدنية للفضاء الخارجي. صحيح أن البعض لا يرجح حدوث حرب مستقبلية في الفضاء، معتبراً التسلح الفضائي بغرض الردع، إلا أن توسع الدول في الاستخدامات السلمية للفضاء، والنظر له كمورد اقتصادي مضاف لقوتها، قد يؤدي مستقبلاً إلى نشوب منازعات فيما بينها.
لقد برزت الرؤية السلمية للفضاء كمجال يمكن عبره تنمية المجتمعات ودعم التعاون والسلام العالمي في معرض "إكسبو 2020 دبي"، إذ سعت الدول المشاركة في هذا الحدث العالمي إلى طرح ابتكاراتها ومشاريعها المستقبلية في الاستخدامات المدنية، لاسيما المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، ونظم الملاحة العالمية، والهواتف الجوالة، ورسم الخرائط، وجمع البيانات، وغيرها.
وفي هذا الإطار، يطرح مركز "المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة" في أبوظبي ملفاً خاصاً – ضمن سلسلة "ملفات إكسبو" - يضم تحليلات ومقالات وعروض نُشرت في إصدارات المركز وعلى موقعه الإلكتروني حول الفضاء الخارجي، محاولاً تحليل قضايا عديدة في هذا الصدد، ومنها طبيعة الصراع على الفضاء بين القوى الكبرى وأهدافه، واتجاهات التسلح الفضائي، والإشكاليات القانونية لتنظيم تلك الصراعات. ويولي الملف أيضاً اهتماماً بالسباق الإقليمي لامتلاك أقمار صناعية في الفضاء، خاصة في ظل التجربة الإماراتية اللافتة في هذا المجال، كما يتناول الملف الفرص السلمية لتوظيف الفضاء في مجالات، مثل حفظ السلام والرحلات الترفيهية والموارد الاقتصادية.