أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

حوكمة الإنترنت:

أبعاد الصراع على إدارة الفضاء الإلكتروني

12 يوليو، 2014


يشهد العالم المعاصر العديد من الصراعات التي تتنوع أطرافها وموضوعاتها وأنماط إدارتها تبعاً لما يشهده المجتمع الدولي من تغيرات. ولقد كان للتطورات المصاحبة للثورة التكنولوجية والمعلوماتية دور في بروز الفضاء الإلكتروني كساحة جديدة للتفاعلات الدولية، تتصارع فيها الدول كما في الساحات التقليدية بصورة تعكس اختلاف الرؤى والمصالح فيما بينها. ومع ظهور الإنترنت، كأحد أبرز مكونات الفضاء الإلكتروني، والتوسع في استخدامه في فترة التسعينيات من القرن الماضي، باتت إدارته وتنظيمه من أهم القضايا التي ينشغل بها المجتمع الدولي، والتي تتصارع القوى الكبرى من أجل ضمان مصالحها فيها. ومثلما تتصدى الصين وروسيا بشكل دائم للهيمنة الأمريكية على السياسة الدولية، تحاولان ذلك أيضاً في الفضاء الإلكتروني، وفي القضايا التنظيمية كافة المتعلقة بالإنترنت أو ما يطلق عليه "حوكمة الإنترنت".

تعريف حوكمة الإنترنت

طبقاً للتعريف الصادر عن منظمة الأمم المتحدة، يشير مفهوم حوكمة الإنترنت إلى "قيام الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني، كلٌ حسب دوره، بوضع وتطبيق مبادئ ومعايير وقواعد وإجراءات لصنع القرار وبرامج مشتركة تشكل مسار تطور واستخدام الإنترنت"، وتجمع ما بين الجوانب التنظيمية التقنية وبين المضمون أو محتوى الإنترنت من معلومات وبيانات.

ونتيجة للطبيعة الخاصة لشبكة الإنترنت، يتسم الإطار التنظيمي لها باللامركزية، إذ تعبر عن نموذج يتعدد فيه أصحاب المصلحة multi stakeholders، ويجمع ما بين الحكومات الوطنية وبين الشركات العاملة في مجال تنظيم الشبكات، وتقديم خدمات الإنترنت، وتسجيل أسماء النطاقات domain names ومنظمات المجتمع المدني وغيرها.

وتتجلى لامركزية حوكمة الإنترنت والإطار التنظيمي التعددي لها في مؤسستين رئيسيتين. تتمثل المؤسسة الأولى في "هيئة الإنترنت للأسماء والأرقام المتخصصة" أو آيكان ICANN، والتي تختص بالجوانب التقنية في تنظيم الإنترنت وإدارة ما يعرف بنظام أسماء النطاقات. فلكل موقع إلكتروني رقم محدد يطلق عليه عنوان بروتوكول الإنترنت IP address يكون على شكل أرقام (مثلاً: 123.45.678.9). ولكن لاستحالة حفظ المستخدمين لهذه الأرقام يتم تحويلها إلى أسماء نطاقات domain names يسهل التعامل معها (مثلاً: sample.com). وعندما يُدخِل المستخدم اسم النطاق الخاص بالموقع تتم ترجمة الاسم إلى أرقام وتحويل المستخدم إلى الموقع عن طريق الاتصال بعنوان بروتكول الإنترنت IP الخاص به. ويقع هذا النظام المشغل لأسماء النطاقات وعناوين بروتوكولات الإنترنت تحت إدارة آيكان.

أما الجهة الثانية فتتمثل في منتدى حوكمة الإنترنت IGF، والذي تم إنشاؤه عام 2006، ليكون إطاراً للتشاور بين كافة الأطراف المعنية وأصحاب المصلحة لتبادل الآراء في مجال إدارة وتنظيم الإنترنت من خلال عقد مؤتمر سنوي ولكن دون أن صدور أي قرارات ملزمة.

الصراع حول حوكمة الإنترنت

تعد حوكمة الإنترنت من أبرز القضايا الخلافية بين القوى الكبرى في العصر الحديث، خاصة بين الولايات المتحدة من ناحية وبين الصين وروسيا من ناحية أخرى. فكل طرف يسعى لفرض سيطرته ورؤيته بما يحقق مصالحه على القواعد المنظمة للإنترنت، والحيلولة دون هيمنة الآخر عليها، غير أن الأوضاع القائمة لاتزال في صالح الولايات المتحدة، ومن هنا تبرز أهم عناصر الصراع والتي يمكن توضيحها بإيجاز فيما يلي:ـ

أولاً: الصراع من أجل تعزيز سيادة الدولة

ترفض الصين وروسيا النموذج الحالي لحوكمة الإنترنت، والذي يقوم على إطار متعدد الأطراف يجمع ما بين فاعلين من الدول وفاعلين من غير الدول على قدم المساواة. فكما أُشِير سابقاً، لا تعطي الكيانات الرئيسية المسؤولة عن إدارة الإنترنت للدول وضعاً خاصاً، وتفرض عليها التشاور والتفاوض مع فاعلين من غير الدول، ومشاركتهم في سلطة اتخاذ القرار في كل ما يتعلق بتنظيم الإنترنت.

وهنا تجد الصين وروسيا صعوبات في التعامل مع أطراف تفرض الدولتان عليهم قيوداً في الداخل، أي تضطران إلى التشاور مع الكيانات الحالية المُوكَل لها إدارة الإنترنت. فبالإضافة إلى عدم توفر الخبرة الكافية لدى الصين وروسيا في التعامل مع هؤلاء الفاعلين، يظهر عامل آخر يدفع الدولتين إلى مواجهتهم، وهو تبني أغلبهم مواقف ورؤى مؤيدة لسياسات ومصالح الولايات المتحدة. ويأتي ذلك نتيجة لمواقف الولايات المتحدة الداعمة لتعزيز وتفعيل دور المؤسسات غير الحكومية في كل ما يتعلق بتنظيم وإدارة الإنترنت. ومن ثم يجد الفاعلون من غير الدول من أصحاب المصلحة في مجال حوكمة الإنترنت أنفسهم أقرب لرؤى وسياسات الولايات المتحدة منها إلى روسيا والصين.

ولقد ترتب على ذلك أن سعت الصين وروسيا، بالتعاون مع دول أخرى كالبرازيل والهند وجنوب أفريقيا، سعياً حثيثاً إلى نقل جزء من آليات إدارة الإنترنت من المؤسسات القائمة إلى الاتحاد الدولي للاتصالات ITU التابع للأمم المتحدة، وتوسيع اللوائح الخاصة بعمله، فيما يطلق عليه "لوائح الاتصالات الدولية ITRs"، بحيث تشمل بعض الجوانب التي تشرف عليها حالياً هيئة آيكان.

وترى الصين وروسيا في إعطاء الاتحاد الدولي للاتصالات دوراً أكبر في حوكمة الإنترنت ما يحقق مصالحهما بتعزيز سيادة الدولة في إدارة الإنترنت، في مقابل إضعاف دور الفاعلين من غير الدول. فالاتحاد هو مؤسسة حكومية بالأساس تمتلك فيها المنظمات غير الحكومية فقط حق حضور الاجتماعات دون أن يكون لها الحق في التصويت أو طرح تعديلات على ما يصدر من قرارات. وعلى الرغم من أن هذه الغاية لم تتحقق بعد، فإن هذه المجموعة من الدول لا تكف عن المطالبة في كافة المشاورات والمؤتمرات المتعلقة بحوكمة الإنترنت بأن يكون للأمم المتحدة دور محوري في إدارة الإنترنت، والدفع نحو تعزيز دور الدولة.

ثانياً: التصدي للسيطرة الأمريكية على آيكان

تعد قضية السيطرة الأمريكية على آيكان من أبرز القضايا الخلافية في مجال حوكمة الإنترنت، والتي تتجلى فيها صورة من صور صراعات الهيمنة في الفضاء الإلكتروني. فلقد تأسست آيكان في ولاية كاليفورنيا في عام 1998 بناءً على عقد مع وزارة التجارة الأمريكية، وهو ما ترتب عليه خضوع أعمالها وأنشطتها للإشراف من قبل الولايات المتحدة منذ تأسيسها. وتجد العديد من دول العالم، وعلى رأسها الصين وروسيا، في ذلك ما يهدد مصالحها بشكل مباشر.

ويعزى ذلك بالأساس إلى اختلاف الرؤى بين الولايات المتحدة وبين هذه الدول في كيفية إدارة الإنترنت؛ ففي حين تدعو الولايات المتحدة لضمان حرية الإنترنت، وعدم فرض أي قيود على مستخدميه، على اعتبار أن ذلك حق أصيل من حقوق الإنسان، نجد أن الصين وروسيا من أكثر الدول التي تفرض قيوداً على استخدام مواطنيها للإنترنت، وتفرض رقابة صارمة على المواقع التي يُسمح لهم بدخولها. ولكن تقف الصين وروسيا مغلولة الأيدي غير قادرة على نقل ما تفرضه من قيود داخلية على الإنترنت إلى المستوى الدولي بسبب دور آيكان، وسيطرة الولايات المتحدة عليها. فحتى وإن استطاعت أن تمنع مواطنيها من الدخول لمواقع معينة، فهي لا تستطيع أن تمنع إنشاء هذه المواقع بالأساس.

ولذا كثرت الاحتجاجات الصينية الروسية في السنوات الأخيرة - مصحوبة باعتراضات من دول أخرى - على هيمنة الولايات المتحدة على آيكان، وانتشرت الدعوات المطالبة بضرورة نقل اختصاصات آيكان إلى الأمم المتحدة حتى يكون لهم دور أكبر في التأثير على ما تتخذه من قرارات بشأن الجوانب التقنية لتنظيم الإنترنت.

تسريبات سنودن ومستقبل حوكمة الإنترنت

لقد أثار ما كشفه إدوارد سنودن، الموظف السابق بوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، في يونيو 2013 عن قيام الولايات المتحدة بالتجسس على ملايين الأشخاص على مستوى العالم، بما في ذلك عدد من الزعماء في دول حليفة، جدلاً واسعاً حول مستقبل حوكمة الإنترنت؛ إذ أدت هذه التسريبات إلى زعزعة الثقة في دور الولايات المتحدة في حماية حرية الإنترنت وخصوصية مستخدميه، ونزعت الشرعية عن الدور الذي تلعبه في مؤسسات حوكمة الإنترنت وعلى رأسها آيكان، كما كان من شأن ذلك أن يُعلِىَ من الأصوات الداعية إلى إنهاء سيطرة الولايات المتحدة على آيكان، وإعادة النظر في الأسس الحالية الحاكمة لإدارة كل ما يتعلق بالإنترنت.

وكرد فعل على هذه الأزمة، أعلنت الولايات المتحدة في مارس 2014 عزمها إنهاء إشرافها نهائياً على آيكان فور انتهاء عقدهما في سبتمبر 2015، ولكن تباينت ردود الأفعال على هذه الخطوة، فمن جهة رحب البعض بقرار الولايات المتحدة على اعتبار أنه يدحض دعاوى الهيمنة الأمريكية على مؤسسات تنظيم الإنترنت ويعزز من حرية مستخدميه بحيث ينتهي تماماً أي شكل من أشكال المركزية في القرارات المتعلقة بإدارته.

ومن جهة أخرى، تخوف البعض من أن ذلك سوف يفتح المجال أمام الصين وروسيا إلى السعي لأخذ مكان الولايات المتحدة في آيكان ونقل أطر حوكمة الإنترنت إلى الأمم المتحدة، بحيث تبسط هي سيطرتها على القواعد المنظمة للإنترنت بما قد يتعارض مع اعتبارات حقوق الإنسان، إذ يرى هؤلاء أن الولايات المتحدة كانت هي الضامن لحرية الإنترنت والحائل دون فرض قيود عليه من خلال آيكان، فضلاً عما تفرضه من آليات للمحاسبة والمساءلة لكل ما يتعلق بأنشطته. ولكن في غياب الدور الأمريكي، قد يُفتح المجال لسياسات من شأنها تحقيق مصالح الصين وروسيا في فرض رقابة على الإنترنت لم تكن تستطع أن تفرضها من قبل لوجود عائق السيطرة الأمريكية، بالإضافة إلى تهميش أصحاب المصالح من غير الدول.

وبوجه عام، يمكن القول إن حوكمة الإنترنت كجزء من القضايا التنظيمية للفضاء الإلكتروني ستبقى ساحة للتنافس ما بين القوى الكبرى تعكس تباين المصالح والسياسات، وتقدم صورة أخرى من صور صراعات الهيمنة التي يشهدها العصر الحديث، ولكن في مساحة أخرى تختلف في طبيعتها وخصائصها وأنماط إدارة التفاعلات فيها عن الساحات التقليدية.