تشهد العلاقات الإيرانية - الأذربيجانية توتراً متصاعداً في الفترة الأخيرة، والسبب المعلن لهذا التوتر المستجد هو فرض أذربيجان رسوماً جمركية على الشاحنات الإيرانية التي تنقل النفط والبضائع عبر المناطق التي أُنشأت عقب حرب ناغورنو قره باغ الأخيرة بين أرمينيا وأذربيجان، لكن الاتهامات المتبادلة بين طهران وباكو، والتصريحات النارية لمسؤولي الجانبين، والمناورات التي أجرتها كل من إيران، ومن ثم تركيا وأذربيجان، في الأيام القليلة الماضية، تؤكد أن أسباب الأزمة الناشبة بينهما تتجاوز قضية الرسوم الجمركية، خاصة أن العلاقات بين إيران وأذربيجان طوال العقود الماضية كانت سلبية وتعاني غياب الثقة لأسباب عديدة.
أسباب التوتر:
لا يمكن فهم التوتر المستجد بين باكو وطهران، بعيداً عن الصراعات التاريخية الجيوسياسية في منطقة القوقاز، وهي صراعات لها علاقة بالطموحات الكبرى لكل من إيران وروسيا وتركيا، بوصفها دولاً إقليمية معنية بترتيب المشهد السياسي والأمني والاقتصادي في هذه المنطقة الحساسة التي شهدت سلسلة حروب بين أرمينيا وأذربيجان خلال العقود الماضية، كانت آخرها قبل نحو سنة، خرجت فيها أذربيجان بانتصار كبير مقابل هزيمة قاسية لأرمينيا. ومن هذه النقطة بالضبط يمكن النظر إلى أسباب التوتر الجاري بين إيران وأذربيجان، ومن أهم هذه الأسباب ما يلي:
1- تحولات جنوب القوقاز: حرّكت نتائج الحرب بين أرمينيا وأذربيجان العوامل الجيوسياسية في منطقة جنوب القوقاز لصالح كل من أذربيجان وتركيا على حساب إيران. وتأسيساً على ذلك، تحركت أنقرة وباكو معاً لتعزيز نفوذهما في هذه المنطقة، فيما وجدت إيران نفسها في موقع اللاعب الإقليمي الذي ينبغي عليه تحمل المتغيرات والأعباء والتحولات.
وقد ترتب على ذلك ممارسة أذربيجان سيادتها وتطبيق قوانينها في المناطق التي سيطرت عليها خلال الحرب الأخيرة مع أرمينيا، وتجسد هذا الأمر في فرض رسوم جمركية على الشاحنات الإيرانية التي تمر عبر قره باغ إلى أرمينيا ومنها إلى جورجيا وروسيا وأوروبا. بيد أن ما يزعج إيران أكثر من هذا الإجراء الأذري هو إقامة ممر بري بين تركيا وأذربيجان وهو ممر (زنغزور) الذي يُعرف بالممر التركي، وبسببه فقدت إيران ميزات هائلة؛ أهمها خسارة الرسوم التي كانت تفرضها على الشاحنات التركية المتجهة إلى أذربيجان وتركمانستان، وستكون خسارة إيران مضاعفة إذا ما نفذت تركيا وأذربيجان خططهما في هذه المنطقة، لاسيما إقامة خط سكك حديد يربط بين البلدين عبر أرمينيا.
2- تصاعد النزعة القومية لدى الأذريين في إيران: يشعر النظام الإيراني بقلق شديد من تعاظم النزعة القومية لدى الأذريين في البلاد، حيث يُقدر عددهم بنحو 30 مليون نسمة، وهؤلاء يتعاطفون مع أذربيجان لأسباب قومية وثقافية ولغوية، ولهم تطلعات قومية تصل إلى حد المطالبة بالانفصال عن إيران، فيما لا تتوانى الأخيرة عن اتهام أذربيجان بدعم ما تسميهم بـ "الانفصاليين الأذريين" في شمال غرب إيران، حيث كانت لهم جمهورية مستقلة عام 1946 قبل أن تنهار عقب تخلي الاتحاد السوفييتي عنها والهجوم الكبير الذي شنه الجيش الإيراني ضدها.
وعلى وقع تداعيات انتصار أذربيجان في الحرب الأخيرة مع أرمينيا، يبدو المشهد الأذري في إيران أمام حالة من الصعود، وهو ما يدفع طهران إلى اتخاذ سلسلة إجراءات أمنية تجسدت في المناورات التي أجرتها للمرة الأولى على الحدود مع أذربيجان، الأمر الذي استدعى مناورات تركية - أذربيجانية في المنطقة الحدودية مع إيران، وسط تهديدات وتصريحات نارية متبادلة من مسؤولي إيران وأذربيجان. كما سبق ذلك، إجراء مناورات مشتركة بين تركيا وباكستان وأذربيجان على شكل بروز محور يثير انزعاج إيران.
3- مخاوف إيرانية من العلاقات بين أذربيجان وإسرائيل: على الرغم من العلاقات المتينة بين أذربيجان وإسرائيل، تقول طهران إن حرب قره باغ الأخيرة طورت هذه العلاقة بشكل كبير، وباتت تل أبيب قوة موجودة على الأراضي الأذرية لأسباب تتعلق بالملف النووي الإيراني، ورصد حركة الصواريخ الإيرانية. وفي العمق أصبحت إيران تجد نفسها محاصرة من جهة أذربيجان خاصة بعد اغتيال العديد من العلماء النوويين الإيرانيين في الداخل، وسلسلة العمليات التي استهدفت المنشآت النووية الإيرانية، وهي في كل هذا ترى الدور الملحوظ لإسرائيل من جبهة أذربيجان، فيما تعتقد الأخيرة أن الحديث الإيراني عن نفوذ تل أبيب في أذربيجان ليس سوى شماعة للتصعيد ضدها وتبرير مناوراتها العسكرية على الحدود.
4- الطموحات القومية للأتراك والإيرانيين: تدرك إيران أن القوة الإقليمية التي تقف وراء أذربيجان هي تركيا، وأن الأخيرة لها طموحات قومية كبرى، وهذا المسعى يشكل تحدياً لطهران ليس في القوقاز فحسب، بل في الداخل الإيراني نفسه أيضاً. كما أن هذا التوجه القومي التركي يُحرك العوامل المماثلة لدى إيران، وبالتالي لم يكن غريباً أن بعض وسائل إعلام طهران أصبح يتحدث عن أن أذربيجان نفسها كانت جزءاً من إيران قبل أن تسيطر عليها روسيا القيصرية عام 1911، وهو ما يزيد من المشاعر القومية لدى جميع الأطراف، ويشجع عوامل الصدام.
محددات التهدئة:
يُوحي التصعيد الجاري بين إيران وأذربيجان بأن العلاقات بينهما دخلت مرحلة جديدة؛ عنوانها الأساسي "التوتر". لكن على الرغم من ذلك، قد تكون هناك محددات مساعدة للتهدئة وصولاً إلى تفاهمات بين الدولتين، ولعل من أهم هذه المحددات الآتي:
1- العامل الروسي في التهدئة: تسعى موسكو في إطار رؤيتها الأوراسية إلى استيعاب كافة الأطراف التي تشملها هذه الرؤية في إطار صراعها مع الغرب، وهي بحكم دورها التاريخي الفاعل في القوقاز مرشحة للقيام بدور التهدئة بين كل من إيران من جهة، وتركيا وأذربيجان من جهة ثانية. وقد بدا هذا الأمر جلياً خلال الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبداللهيان، إلى موسكو في 6 أكتوبر الجاري والحديث الذي تسرب عن مقترح من نظيره الروسي، سيرغي لافروف، عن آلية اقترحتها موسكو تقوم على إطلاق صيغة (3 + 3) أي دول جنوب القوقاز الثلاث (جورجيا وأرمينيا وأذربيجان) والدول الثلاث المجاورة (روسيا وتركيا وإيران)، لمعالجة المشكلات القائمة بينها، وهو ما قد يلقى قبولاً من الأطراف المعنية بالتصعيد الجاري في القوقاز؛ تطلعاً إلى التهدئة والتعاون والمشاريع الإقليمية.
2- دبلوماسية المصالح بين إيران وتركيا: تدرك طهران حجم التأثير التركي على أذربيجان، كما تدرك أهمية استمرار التعاون مع أنقرة في الملفات الساخنة في المنطقة، من سوريا وصولاً إلى القوقاز ومروراً بالعراق وملفات التعاون الثنائي لاسيما الطاقة. وعليه، لم تتأخر إيران في طرق باب أنقرة عندما أرسلت نائب وزير خارجيتها علي باقري كني إلى هناك يوم 7 أكتوبر الجاري؛ في محاولة للتوصل إلى رؤية مشتركة بخصوص التصعيد الجاري في جنوب القوقاز. كما كان لافتاً عدم إطلاق تركيا طوال الأيام الماضية أي تصريحات مستفزة للجانب الإيراني بخصوص هذا التصعيد، خلافاً للسياسة التركية المتبعة في سوريا والعراق وليبيا وغيرها من مناطق النزاعات التي تدخلت فيها أنقرة.
3- البحث عن اتفاقيات جديدة بين إيران وأذربيجان: ثمة من يرى أن أهداف التصعيد الجاري بين إيران وأذربيجان لا ترتقي إلى مستوى الانخراط في حرب بينهما، وأن الهدف الأساسي له علاقة بمحاولة إيران ضمان مصالحها، لاسيما التجارية في جنوب القوقاز، ويتمثل هذا الهدف في ضمان مرور شاحناتها عبر قره باغ كما كان في السابق. وهذا الأمر يتطلب توقيع اتفاقية مع أذربيجان تتنازل الأخيرة بموجبها عما تعتقده أنه حق ممارسة السيادة على المناطق التي سيطرت عليها خلال الحرب الأخيرة مع أرمينيا، وهو ما يعني إبقاء التواصل التجاري بين إيران وروسيا وأوروبا عبر هذه المنطقة.
استراتيجيات متناقضة:
في الواقع، بالرغم من المحددات السابقة التي قد تحد من التصعيد الجاري في القوقاز، فإن الاستراتيجيات المتناقضة لإيران من جهة، وتركيا وأذربيجان من جهة ثانية؛ قد تبدو كفيلة بإبقاء هذا الصراع محتداً في المرحلة المقبلة، لاسيما في ظل الطموحات الكبرى لأنقرة والمشاريع التي تطرحها على شكل تحول جيوسياسي.
وقد بدا هذا الأمر جلياً من ملامح التقارب الجاري بين تركيا وأذربيجان مع أرمينيا، وطرح مشاريع مشتركة في مجال النقل والمواصلات وإقامة ممرات إقليمية وسماح أرمينيا لطائرات أذربيجان بالمرور في أجوائها للرحلات الجوية الأذرية بين باكو وناخيتشيفان، وهو ما يعني إمكانية تبلور شراكة بين أنقرة وباكو ويريفان بالرغم من الخلافات التاريخية بينها، ومثل هذه الشراكة ستعمق من جروح إيران في جنوب القوقاز وربما يدفعها إلى المزيد من التصعيد.
خيار الحرب:
ثمة من يرى أن إيران قد تشعل حرباً حدودية مع أذربيجان لأسباب كثيرة، إذ إنها باتت ترى نفسها محاصرة من القوقاز، وتخسر كل يوم ميزات تجارية هائلة مع هذه المنطقة الحيوية، كما تجد نفسها أمام مشاريع إقليمية تأخذ من دورها ومكانتها، وأكثر ما تخشاه أن تنتقل تداعيات كل هذه التطورات إلى الداخل الإيراني.
ولعل ما يثير غيظ إيران هو موقف روسيا التي تشرف على الممرات والمناطق الحساسة في قره باغ، بمعنى أن التحولات الجارية في جنوب القوقاز تجري بإشرافها، والمشكلة أن هذه التحولات تتزامن مع أخرى ليست لصالح طهران، مثل التقارب الباكستاني مع حركة طالبان بعد سيطرتها على أفغانستان، والتقارب بين عدد من الدول العربية وإسرائيل بعد اتفاقيات السلام الموقعة بين الطرفين، والتقارب التركي مع مصر ودول الخليج العربية. ويأتي كل ذلك بالتزامن مع تفاقم الوضع الداخلي في إيران، على وقع تعثر المفاوضات النووية حتى الآن، واستمرار العقوبات الغربية على طهران، وتزايد نقمة الداخل الإيراني.
وعليه، هناك من يرجح خيار إشعال إيران حرباً محدودة مع أذربيجان، ويرى هؤلاء أن هدفها قد يكون توجيه رسالة صارمة للأذريين في الداخل الإيراني بأن التطلع إلى ما وراء الحدود ممنوع، قبل بحث طهران عن اتفاقيات جديدة تضمن مصالحها في جنوب القوقاز، وذلك دون أن يعرف أحد كيف ستخمد النار التي ستشعل على الحدود، بسبب تعقيدات الصراع، وتضارب المصالح والاستراتيجيات، وتداخل التاريخ والجغرافيا وسط تأجيج المشاعر القومية في هذه المنطقة الحساسة والملبدة بالغيوم.