انطلاقًا من مقولة كمال أتاتورك الشهيرة "سلام في الداخل سلام في الخارج"، انتهجت تركيا منذ تأسيسها عام 1923 سياسة تقوم على نوع من الانغلاق على الداخل، والابتعاد عن التورط في مشكلات العالمين العربي والإسلامي، خاصة وأنها حددت بوصلتها بالتوجه نحو الارتباط بالغرب. فطوال العقود الماضية، وحتى قدوم حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، بقيت هذه السياسة تحدد خيارات أنقرة وسياستها الخارجية، إلى حد كبير. لكن المتابع للسياسة التركية اليوم سيجد أنها باتت مختلفة تمامًا عما سبق؛ إذ إنها خلال حكم الحزب مرت بعدة مراحل إلى أن أصبحت دولة ماضية في التوجه إلى انتهاج القوة الخشنة Hard Power في سياستها الخارجية تجاه العالم العربي، واستغلال التطورات الجارية في المنطقة بحثًا عن الدور والنفوذ. وهو ما سيشكل على الأرجح مسارات السياسة التركية تجاه أزمات الإقليم في العام 2018.
مقدمات الانتقال
يمكن القول إن السياسة الخارجية التركية الحالية انطلقت من أفكار البروفيسور أحمد داود أوغلو، التي تجسدت في كتابه "العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية"، وهي رؤية تقوم على أن أنقرة دولة فاعلة في محيطها الإقليمي والدولي انطلاقًا من عوامل اقتصادية وسياسية وأمنية، وأخرى لها علاقة بالموقع الجيوسياسي الحيوي، فضلًا عن علاقاتها التاريخية بالجوار الجغرافي.
ومع أن نظرية "صفر المشاكل" التي طرحها أوغلو فشلت في تحقيق هدفها الأساسي "صفر المشكلات مع الجوار"؛ إلا أن جملة الأفكار التي طرحها ظلت تُشكِّل محددات للسياسة الخارجية التركية في النظر إلى القضايا الجارية في المنطقة وكيفية التعاطي معها.
ولعل ما سبق شكّل انعطافة في انتقال تركيا إلى ممارسة القوة الخشنة، انطلاقًا من قناعة تقول إن المشاركة في العمليات الجارية في المناطق المتوترة، وممارسة الدور والنفوذ لرسم الخرائط والمصائر؛ أفضل من الوقوف في مقاعد المتفرجين كما حصل لتركيا خلال الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
وتوضح نظرة بسيطة إلى انتشار القوة العسكرية التركية في الخارج، أننا أمام خريطة واسعة من القواعد والمراكز العسكرية والتدريبية، إذ لأنقرة اليوم قاعدة عسكرية في قطر يرابط فيها قرابة ثلاثة آلاف جندي من القوات البرية والجوية والبحرية، فضلًا عن مدربين عسكريين وقوات عمليات خاصة. كما أن هناك قاعدة عسكرية لها في الصومال، وتحديدًا في خليج عدن، بهدف تدريب أكثر من عشرة آلاف جندي، لتصبح بذلك خامس دولة في العالم لها قواعد عسكرية في القارة الإفريقية.
وبجانب ما سبق، فإن لتركيا قواعد عسكرية في العراق وأذربيجان وألبانيا، ومشاركة عسكرية في قوات حفظ السلام في أفغانستان ولبنان وغيرها من الدول، فضلًا عن عشرات آلاف الجنود في (جمهورية) شمال قبرص.
الانحياز لقطر
مع اندلاع الأزمة الخليجية بمقاطعة ثلاث دول خليجية بالإضافة إلى مصر مقاطعة قطر نتيجة سياستها الإقليمية، لم تنتظر تركيا طويلًا لتعلن وقوفها إلى جانب الدوحة، إذ بعد يومين من الأزمة سارعت أنقرة إلى إعلان دعمها لقطر، وتوجيه الانتقادات لدول المقاطعة.
ولعل السؤال الأساسي هنا: لماذا وقفت تركيا إلى جانب قطر ووضعت علاقاتها مع دول المقاطعة في امتحان صعب، فعلى الأقل كان يمكن أن تقف على مسافة واحدة من الجميع إن لم نقل تقوم بجهود وساطة ما. ولعل من أهم هذه الأسباب:
1- أن قطر هي الدولة الخليجية الوحيدة التي لها علاقة متينة مع تركيا، وفي حال خسارة الدوحة في الأزمة الجارية، فإن التداعيات ستطال أنقرة، كونها تحتضن الكثير من جماعات الإسلام السياسي، لا سيما جماعة الإخوان المسلمين، ولعلها وحدها ستتحمل لاحقًا مسئولية احتضان هذه الجماعات.
2- أن القاعدة العسكرية الوحيدة لتركيا في الخليج العربي هي في قطر، وإنشاء هذه القاعدة يُعد اختراقًا تركيًّا كبيرًا للمنطقة، إذ يمكن لها أن تمارس من خلالها ضغطًا على الأطراف العربية في الخليج طالما أن الضغط على إيران لا يحتاج إلى مثل هذه القاعدة لأن لها حدودًا برية مشتركة مع إيران.
وفي الواقع، من الواضح أن تركيا اختارت لحظة تفجر الأزمة الخليجية لزيادة نفوذها الإقليمي في هذه المنطقة الحساسة؛ إذ إن موقفها من الأزمة يتجاوز العلاقة الثنائية مع قطر إلى ممارسة دور في أمن الخليج في إطار الانتقال إلى ممارسة القوة الخشنة، وهي رؤية تبلورت بشكل كبير على وقع الأزمتين السورية والعراقية.
وفي هذا الإطار، ينبغي النظر إلى عملية (درع الفرات) كأول عملية عسكرية جاءت خارج الأراضي التركية منذ التدخل العسكري التركي في شمال قبرص عام 1974، ومن ثم عملية إدلب التي جاءت على وقع تفاهمات أستانة مع إيران وروسيا، واللافت في عملية إدلب محاولة تركيا إخراجها عن تفاهمات أستانة، وجعلها عملية عسكرية ضد عفرين وتحديدًا ضد وحدات حماية الشعب الكردية بالتعاون مع الجماعات المسلحة بما في ذلك جبهة النصرة المصنفة في قائمة المنظمات الإرهابية، وذلك في استغلال للموقف الروسي الهادف -بدوره- إلى توظيف دور أنقرة لفرض استراتيجيتها على الأزمة السورية.
حذر في لبنان
تعاملت تركيا مع أزمة استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري قبل أن يتراجع عنها بحذر شديد بسبب سياسة الموازنة بين المصالح وخريطة التحالفات، وقد تجلى هذا الأمر بشكل واضح خلال الزيارة التي قام بها وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل إلى تركيا في 16 نوفمبر الماضي، إذ لم يُدلِ أي مسئول تركي بتصريح يوضح الموقف التركي من هذه الأزمة رغم اجتماع كل من أردوغان ووزير خارجيته بالوزير اللبناني، ولعل مصدر الحذر يعود إلى عاملين:
الأول- العلاقة مع إيران: لقد بات واضحًا أن التقارب التركي مع إيران أصبح عاملًا مؤثرًا إلى جانب العامل الروسي في تحديد السياسة التركية تجاه المنطقة العربية، ولعل حذر التعامل التركي من الأزمة يأتي في إطار موازنة المصالح بين السعودية وإيران بالدرجة الأولى.
الثاني- العلاقة مع لبنان: انطلاقًا من البعد السابق، فإن السياسة التركية تجاه لبنان تتجه إلى ممارسات تصب في صالح القوى المناهضة للسعودية في لبنان، وفي صلب هذا الموقف توجه تركي اقتصادي يتعلق بمشاريع الغاز والنفط في البحر المتوسط حيث يشكل لبنان نقطة أساسية في المشاريع المطروحة إقليميًّا.
القدس وخطاب دعائي
شكّلت قضية القدس بعد الاعتراف الأمريكي بها عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إليها، مناسبة للسياسة التركية في رفع سقف الخطاب الإعلامي والسياسي. وإذا كان مثل هذا الخطاب الشعبي يلقى ترحيبًا في الشارع العربي؛ إلا أن ممارسة مثل هذا الخطاب في السياسة دون خطوات عملية وإجراءات حقيقية أفقدت السياسة التركية المزيد من مصداقيتها في الشارع العربي، خاصة وأن تركيا اعتمدت مثل هذه السياسة طوال السنوات الماضية دون اتخاذ مثل هذه الخطوات.
وقد تجدد هذا الأمر في قضية القدس عندما أعلن أردوغان وعلى الهواء مباشرة أنه سيقطع العلاقات مع إسرائيل إذا ما قرر ترامب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، لكن مثل هذا الأمر لم يحصل، وهو ما جعل من قمة منظمة التعاون الإسلامي التي دعت إليها تركيا مجرد قمة عادية ليست بحجم قضية القدس التي هي قضية عربية وإسلامية جامعة وتتعرض لخطر مصيري. ولعل جوهر المشكلة هنا هو السياسة التركية تبحث عن مداخل للدور والنفوذ أكثر من الموقف الأخلاقي والسياسي الذي تعلنه عند الحديث عن القضية الفلسطينية.
دلالات التحول
في الواقع، لا يمكن النظر إلى التحول التركي نحو القوة الخشنة بعيدًا عن جملة من العوامل الداخلية التي هيأت لمثل هذا الانتقال، ولعل من أهم هذه العوامل:
أولًا- أن تركيا طورت خلال السنوات الماضية بشكل كبير صناعاتها العسكرية في مجال الطائرات والمروحيات والصواريخ والبواخر، وغير ذلك من الأسلحة والمعدات العسكرية المتطورة.
ثانيًا- أن الاقتصاد التركي القائم على الاستثمار بنسبة 75 بالمئة يواجه عقبات كبيرة، وهو في تطلعه إلى تحقيق إنجازات اقتصادية بات يركز على مشاريع مد خطوط أنابيب النفط والغاز والصناعات العسكرية بدلًا من الصناعات التحويلية والزراعة والسياحة والمشاريع العقارية والعمرانية الضخمة.
ثالثًا- أن التطورات الدراماتيكية التي يشهدها العالم العربي في السنوات الأخيرة، بدءًا مما جرى في ليبيا مرورًا باليمن وسوريا وصولًا إلى الأزمة الخليجية، كل ذلك دفع أنقرة إلى بلورة رؤية تقوم على أن أزمات المنطقة مترابطة ومخططة تخضع لحسابات المصالح والدور والنفوذ.
رابعًا- أن تركيا ترى أن الصراعات التي تشهدها سوريا والعراق مخططة من الخارج، وأن هدفها إقامة دولة كردية، أي أنها تستهدف تركيا في الأساس، وعليه كثيرًا ما تبني تحالفاتها وسياساتها على هذا الأساس.
وفي هذا الإطار ينبغي النظر إلى التوتر في العلاقة مع الإدارة الأمريكية في ظل رفض الأخيرة التجاوب مع المطلب التركي الدائم بوقف دعم الأكراد بالسلاح والمعدات العسكرية.
وفي الواقع، من الواضح أن تركيا تريد من انتقالها إلى القوة الخشنة تحقيق هدفين أساسيين:
الأول- التأكيد على دورها كدولة إقليمية كبرى لا يمكن تجاهل دورها في الأحداث الجارية في المنطقة ومحاولة القوى الدولية الكبرى رسم خريطة جديدة للمنطقة، ولعل هذا ما يفسر حديث أردوغان الدائم عن أن ما يجري في المنطقة حاليًّا سيحدد ملامح المرحلة المقبلة لقرن من الزمن.
الثاني- استغلال الأزمات الجارية في المنطقة لبلورة دور تركي عبر نسج التحالفات مع القوى الإقليمية والمحلية، وهي في كل ذلك تبحث عن النفوذ والمصالح الاقتصادية انطلاقًا من أنها قوة قائدة في الشرق الأوسط ومؤثرة في أحداثها كما يطمح أردوغان.
فيما يبقى السؤال الأساسي خلال العام 2018 متعلقًا بعلاقة الاستراتيجية التركية الجديدة بمنظومة العلاقات التركية التقليدية المرتبطة بالحلف الأطلسي، وكيفية تأثير ذلك على السياسة الخارجية التركية التي تترنح على وقع التجاذب بين موسكو وواشنطن، فضلًا عن متغيرات الداخل التركي التي تبقى تشكل الهاجس الأساسي لأردوغان في كل حركة وخطوة منذ الانقلاب العسكري الفاشل في منتصف يوليو الماضي.