أعلن مدير مكتب التحقيقات الفدرالي كريستوفر راي، في 11 ديسمبر 2024، أنه قرّر تقديم استقالته في نهاية فترة ولاية الرئيس جو بايدن، وذلك قبل تولي الرئيس المنتخب دونالد ترامب منصبه في يناير المقبل، والذي أعلن عن نيته إقالة راي وترشيح الموالي له كاش باتيل لهذا المنصب.
وتأتي استقالة راي بعد قضائه 7 سنوات من ولايته التي تمتد لـ10 سنوات؛ إذ أكد أنه سيتنحى "بعد أسابيع من التفكير الدقيق"، حيث قرر أن الشيء الصحيح للوكالة هو الخدمة فيها حتى نهاية إدارة بايدن، موضحاً أنه سعى طوال فترة تقلّده المنصب إلى إبعاد مكتب التحقيقات الفدرالي عن السياسة حتى عندما حقق المكتب في تُهم طالت ترامب، وأخرى طالت بايدن وابنه.
ومن جانبه، وصف ترامب قرار راي بـــ"يوم عظيم لأمريكا"، معتبراً أن تلك الخطوة "ستنهي تسييس ما أصبح يعرف بوزارة الظلم الأمريكية"، وكتب على منصة "تروث سوشيال": "سنعيد الآن سيادة القانون لجميع الأمريكيين"، زاعماً أنه تحت قيادة راي، قام مكتب التحقيقات الفدرالي بمداهمة منزله بشكل غير قانوني، ومن دون سبب، وقام بالتدخل لعرقلة نجاح الولايات المتحدة الأمريكية.
دلالات الاستقالة:
تعكس تعليقات ترامب المناهضة لمدير مكتب التحقيقات الفدرالي كريستوفر راي، وإعلان الأخير تقديم استقالته في ظل استحالة العمل مع ترامب في ولايته الثانية عدداً من الدلالات لعل أهمها:
1. المخاوف من الاضطرابات السياسية: تُفيد التقديرات بأن راي فكر في الاستقالة من المنصب أكثر من مرة في أعقاب فوز الرئيس دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية، وخاصة أن الأخير أعلن صراحة عن خطته لاستبداله بـكاش باتيل.
وفي هذا السياق، تأكد لـراي أن البقاء في الوظيفة خلال ولاية ترامب الثانية سيعني تعرض مكتب التحقيقات الفدرالي لدوامة من الاضطرابات السياسية، ربما تعصف بقوة عمل المكتب وتعرقل أداء مهامه التنفيذية. وعلى هذا النحو، كان قرار راي واضحاً وهو أنه لا يريد أن يصبح وضعه الوظيفي مصدر إلهاء أو عبئاً على مكتب التحقيقات الفدرالي.
2. تحوّل الوظيفة التنفيذية إلى منصب سياسي: إن استقالة راي تعني أنه لم يرغب في أن يكون في مواجهة مع الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب والجمهوريين الذين يؤيدونه، وتُبشر بعصر جديد في وكالات إنفاذ القانون في البلاد؛ حيث أصبحت وظائف مديريها مناصب سياسية تتغير مع الإدارات المتعاقبة.
فعلى مدى عقود من الزمان؛ تم تعيين مديري مكتب التحقيقات الفدرالي لفترة مدتها 10 سنوات؛ ومن ثم كانوا يستمرون في تقلد مناصبهم مع تغير إدارات البيت الأبيض، كمؤشر على الاستقرار المؤسسي، إلّا أن ظروف رحيل راي بعد 7 سنوات تُنذر بوجود تحولات في البيئة التنفيذية للمؤسسات الأمريكية، مع تحذيرات بأنه في كل مرة يأتي رئيس جديد، فإنه سوف يقوم بمثل هذه الخطوة.
3. رغبة الجمهوريين في إقصاء راي: أشار بعض المشرعين الجمهوريين بالفعل إلى استعدادهم للمضي قدماً في استبدال راي بـباتيل؛ مما يسلط الضوء على أن هذا التطور لا ينبع من خلافات شخصية بين ترامب، ومدير مكتب التحقيقات الفدرالي المستقيل، بقدر ما يرتبط برغبة الجمهوريين في إزاحة راي.
فقبل أيام؛ حثّ السيناتور تشارلز إي غراسلي، الجمهوري من ولاية آيوا، والذي من المقرر أن يتولى رئاسة لجنة القضاء في الكونغرس القادم، راي علناً على التنحي. وكتب غراسلي: "من أجل مصلحة البلاد، حان الوقت لك ولنائبك للانتقال إلى الفصل التالي في حياتكما".
4. تعقيد العلاقة بين الرؤساء ومكتب التحقيقات: إن استقالة راي تؤكد حقيقة مفادها أن التعاون بين الرؤساء الأمريكيين المنتخبين ومكتب التحقيقات الفدرالي ليس سلساً دائماً، ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك، فضيحة ووترغيت التي أطاحت في نهاية المطاف بالرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، وفي العقود التي تلت ذلك، كان الساسة الأمريكيون مترددين في إثارة خلافات مع تلك الوكالة؛ خوفاً من اتهامهم بإساءة استخدام سلطتهم من خلال توجيه أو تعطيل التحقيقات والملاحقات الجنائية، إلّا أنه من الواضح أن ترامب لا تعنيه الانتقادات أو التُّهم بقدر ما يهمه تشكيل فريق تنفيذي يدين بالولاء له.
علاقة مُتوترة:
تؤشر استقالة رئيس جهاز التحقيقات الفدرالية الأمريكية على النهج غير الودي بين ترامب وبعض الوكالات الأمنية الاستخباراتية، والذي بدأ منذ فترة ولايته الأولى، وتمثل فيما يلي:
1. العداء مُبكراً: بدأ العداء بين ترامب ومجتمع الاستخبارات الأمريكي بشكل مبكر، قبل حتى تقلده مهامه الرئاسية بشكل رسمي، وذلك لاعتقاد ترامب أن مكتب التحقيقات الفدرالي تجسس على حملته الرئاسية لعام 2016. وفي هذا التوقيت، كان المكتب قلقاً بشأن أنشطة بعض مساعدي الحملة، بما في ذلك الجنرال مايكل فلين، رئيس وكالة استخبارات الدفاع منذ يوليو 2012، وحتى 2014، والذي أحاطت حوله الشكوك بتواصله مع جواسيس روس رفيعي المستوى في عام 2016.
وجدير بالذكر أنه خلال فترة ولايته الأولى؛ أبدى ترامب رأيه خلال مؤتمر صحفي في مقر وكالة المخابرات المركزية، بأن ضباطها متورطون في مؤامرة خلف الكواليس ضده، وقال إن هذه المؤامرة ذكّرته بأساليب أدولف هتلر في تشويه سمعة الخصوم خلال الرايخ الثالث.
2. الخلاف بشأن التدخل الروسي في انتخابات 2016: إن مواقف العديد من كبار مسؤولي الاستخبارات بشأن قضية التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016، كانت من أكثر الأمور التي وسعت الفجوة بين ترامب ومجتمع الاستخبارات الأمريكي، وبما أن ترامب كان على يقين بأنه فاز في تلك الانتخابات دون مساعدة روسية، فقد دخلت علاقاته مع مدير وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) جون برينان، إلى جانب مدير مكتب الاستخبارات الوطنية جيمس كلابر، في حالة من الانهيار.
3. التهاون مع المعلومات السرية: لم تكن أزمة قرار ترامب الاحتفاظ بوثائق سرية للغاية في منتجعه في فلوريدا بعد مُغادرته البيت الأبيض، الأزمة الوحيدة التي أثارت مخاوف مجتمع الاستخبارات الأمريكي، فالحقيقة أن ترامب لم يكن يعبأ بمخاطر الإفصاح عن سرية المعلومات. فعلى سبيل المثال، اتُهم في عام 2017 بالكشف عن معلومات استخباراتية إسرائيلية شديدة الحساسية لكبار المسؤولين الروس خلال جلسة في المكتب البيضاوي. وفي 2019، غرد بصورة مصنفة سرية لموقع إطلاق صواريخ إيرانية التقطها قمر اصطناعي أمريكي.
4. رفضه للتقارير الأمنية والاستخباراتية: معروف عن ترامب رفضه للتقييمات التي لا تتناسب مع رؤيته الخاصة للعالم، وأشهرها رفضه إجماع الاستخبارات بشأن تورط روسيا في انتخابات 2016، ونتيجة لذلك، أطلعه مسؤولو الاستخبارات بشكل أقل على الموضوعات التي كانوا يعرفون أنها ستُثير مقاومته خلال فترة ولايته الأولى.
وهكذا؛ يتضح أن علاقة ترامب بوكالات الاستخبارات كانت متوترة خلال فترة ولايته الأولى؛ فقد نظر إليها باعتبارها "دولة عميقة" غير جديرة بالثقة عازمة على تقويضه، وما يزيد الأمر تعقيداً هو وعوده بتطهير وإصلاح تلك المؤسسات خلال فترة ولايته الثانية، وهو الأمر الذي يثير قلق منتقديه ومعارضيه؛ خشية من أن إجراءات التطهير قد تقوض مهنية هذه المؤسسات؛ ومن ثم المكانة العالمية للبلاد.
تسييس مُحتمل:
بالنسبة لوكالات مجتمع الاستخبارات الأمريكية، فإن بداية إدارة ترامب الثانية على الأرجح ستشهد محاولته إعادة ضبط علاقة صعبة في كثير من الأحيان مع هذه المؤسسات، وفيما يلي، أبرز الملامح المحتملة لنهج ترامب المتوقع تجاه المؤسسات الأمنية الاستخباراتية الأمريكية:
1. قدر من التبعية للبيت الأبيض: يوصي مشروع 2025 الذي أعدته مؤسسة التراث البحثية المحافظة الأمريكية بوضع مكتب مدير الاستخبارات الوطنية تحت سيطرة البيت الأبيض مباشرة، فضلاً عن إلغاء شرط تأكيد مجلس الشيوخ للمدير المعين، ويتوقع المراقبون أن إدارة ترامب ستنهي ما يُسمى بنهج هيلمز (Helms approach) المتمثل في وجود قادة مجتمع استخباراتي مستقلين يتحدثون بالحقيقة للسلطة؛ ومن ثم تتوالى الترجيحات بأن ترامب سوف يعتمد على معيار الولاء في كل اختياراته، وهو ما انعكس في الترشيحات خلال التوقيت الراهن.
وعندما يتعلق الأمر بسلطة الرئيس على مجتمع الاستخبارات، فإن القانون يسمح بقدر كبير من السلطة التقديرية للرئيس، مع إعطائه الحرية الكاملة إذا اختار توسيع عدد المعينين السياسيين في مكتب مدير الاستخبارات الوطنية ووكالة المخابرات المركزية وغيرها من الوكالات.
2. توظيف مُجتمع الاستخبارات لأغراض سياسية: يروج الديمقراطيون لخطورة أن يحوّل ترامب الأجهزة الأمنية الأمريكية إلى أسلحة "انتقامية" ضد المعارضين السياسيين المحليين، مع احتمالية أن يحرف نتائج الاستخبارات لصالح القادة الاستبداديين، ويقوض تبادل المعلومات مع حلفاء الولايات المتحدة. على الجانب الآخر؛ هناك اتجاه يدفع بأن الرئيس بايدن وإدارته هم من أدخلوا السياسة والتوجهات الحزبية إلى وكالات الاستخبارات، وليس ترامب؛ وأن الأخير –أي ترامب- كان أكثر ميلاً إلى تجاهل الاستخبارات بدلاً من تسييسها.
في المقابل؛ حاول بايدن تسييس وكالات الاستخبارات الأمريكية لتحقيق استراتيجيته الكبرى المتمثلة في الترويج لفزاعة روسيا، والحفاظ على الوضع القائم مع تسييس التقارير الأمنية التي تفضي بضرورة انسحاب الولايات المتحدة من مناطق الصراع والأقاليم الملتهبة مثل الشرق الأوسط؛ وهو ما انعكس في سياسة فك الارتباط التي أقرها بايدن في شهوره الأولى من ولايته الرئاسية.
3. صعوبة تجاوز الخط الأحمر: من الخطأ الاعتقاد بأن ترامب سوف يتجاوز الخط الأحمر فيما يتصل بعلاقاته مع المؤسسات الأمنية، فما زال المجال السياسي الأمريكي يخضع لقيود دستورية وتنظيمية، وعلى رأسها الدستور الأمريكي؛ حيث توفر ضوابطه وتوازناته درعاً وقائية فريدة ضد إساءة استخدام السلطة السرية، فهو الضامن الأول لعدم تآكل المبادئ العامة للبلاد.
وهناك رادع مهم آخر ضد إساءة استخدام السلطة الاستخباراتية يتمثل في الروح المهنية لضباط الاستخبارات. فهم يدركون أنه إذا طلب منهم البيت الأبيض مخالفة القانون، فإن لديهم عدة سبل يلجؤون إليها لمقاومة ذلك. فعلى سبيل المثال، فلكل وكالة استخبارات مفتش عام يمكن إبلاغه في حالة تلقي أوامر غير مناسبة. وإضافة إلى ذلك، هناك أعضاء لجان في الكونغرس الأمريكي قادرون على الرد على أي تجاوزات، ولا يحبون رؤية الكونغرس مهاناً أو ضعيفاً أمام تجاوزات السلطة التنفيذية.
4. تراجع أهمية التقارير الاستخباراتية اليومية: من المُرجّح أن يواصل ترامب ممارسته في ولايته الأولى المتمثلة في التقليل من شأن الموجز اليومي للرئيس وغيره من التقارير الاستخباراتية، مُفضّلاً الاعتماد على المستشارين السياسيين، وقبل كل شيء، غرائزه الخاصة كمحرك لسياساته الخارجية والأمنية، ومهما كانت التقارير التحليلية دقيقة وفي الوقت المناسب، فقد يتم تجاهلها إذا لم تعجب ترامب والمقربين منه.
وفي التقدير، يمكن القول إنه ومهما كانت الإجراءات التي سيتخذها ترامب والخاصة بالمجمع الأمني الاستخباراتي، فإنها ستكون امتداداً لحالة التسييس التي بدأتها إدارات أخرى لهذه المؤسسات؛ ومن ثم فإن إجراءات ترامب قد تكون اختلافاً في الدرجة ليس أكثر، أما نجاح وفعالية الوكالات الأمنية فسيظل مرهوناً بمتانة الضوابط والتوازنات الحكومية التي أُنشئت عند ولادة الجمهورية الأمريكية في عام 1787، ولاسيما تلك الموجودة بشكل صريح في الدستور الأمريكي.