يحتل حزب الله اللبناني موقعًا مهمًا في الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية. فعلى الرغم من اتساع نطاق الجبهات التي تتواجد فيها الميليشيات الموالية لإيران، على نحو بدا جليًا في التطورات الأخيرة التي طرأت على الساحات العراقية والسورية واللبنانية، إلا أن الحزب يظل أكثرها من حيث التهديد بالنسبة لإسرائيل، فهو الميليشيا الوحيدة التي خاضت مواجهة عسكرية مباشرة مع إسرائيل عام 2006 فرضت في وقت لاحق اتفاقًا بين الأخيرة ولبنان، كما أنه اكتسب خبرات عسكرية في ظل مشاركته في الحرب السورية التي فرضت عليه في المقابل ضغوطًا مالية وبشرية لا تبدو هينة.
لكن ذلك في مجمله لا ينفي أن المواجهة بين الطرفين لا تزال محكومة بمتغيرات عديدة لن تُخرِجها عن السيطرة، منها حدود معادلة الاشتباك الجديدة التي يفرضها الطرفان، وتأثير مسار التفاوض الجديد بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران في ضوء جهود الوساطة التي تقودها فرنسا وتتضمن أفكارًا حول فتح خطوط ائتمان لإيران تقدر بنحو 15 مليار دولار مقابل عودتها إلى الالتزام بالاتفاق النووي بشكل كامل، لكنها ما زالت في انتظار موافقة إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وربما تتعثر على ضوء التهديدات المستمرة من جانب إيران بمواصلة تخفيض مستوى التزاماتها في الاتفاق النووي.
معادلات الردع:
تتعامل إسرائيل مع الميليشيات الموالية لإيران في المنطقة في إطار مفهوم "الردع النشط"، الذي يقوم على تقليص قوة هذه الميليشيات وإضعاف قدرتها على شن هجوم يشكل تحديًا دفاعيًا لإسرائيل خاصة بعد المعطيات الجديدة التي أنتجها الصراع السوري والحرب ضد "داعش" في العراق.
ويبدو أن حزب الله يدرك في المقابل أن المعادلة السياسية اللبنانية وعدم القدرة على الحشد العسكري والسياسي على نحو ما جرى في حرب 2006، بالإضافة إلى موقع إيران من التطورات الإقليمية قد يفرض قيودًا على الانخراط في حرب جديدة مع إسرائيل خلال الفترة الحالية.
ولا يبدو أن إيران بدورها تسعى إلى تبني هذا الخيار في المرحلة الحالية، وهو ما انعكس في حرصها على ضبط ردود فعل الميليشيات العراقية عقب الهجمات التي تعرضت لها مواقعها ونسبت إلى إسرائيل.
ووفقًا لتقديرات إسرائيلية، فإن الحزب لا يزال يتعامل مع إسرائيل في إطار "الردع المتبادل"، خاصة أن التطورات الحالية ليست ملائمة بالنسبة له للانخراط في مواجهة مفتوحة مع تل أبيب، على ضوء استمرار مشاركته في الصراع السوري، وما يفرضه ذلك من أعباء سياسية وعسكرية وبشرية عليه، فضلاً عن حرصه على تجنب التأثيرات التي يمكن أن ينتجها ذلك على موقعه داخل خريطة القوى السياسية اللبنانية، خاصة في ضوء التوتر الذي تتسم به علاقاته مع بعض القوى السياسية الأخرى التي رفضت انتهاكه لسياسة "النأى بالنفس" التي اتبعتها الدولة اللبنانية في التعامل مع تطورات الصراع في سوريا.
ورغم تزايد قدرات الحزب خلال الفترة التي أعقبت الحرب الأخيرة مع إسرائيل في عام 2006، فإنه ما زال حريصًا على توجيه رسائل تفيد عدم سعيه إلى توسيع نطاق الضربات المتبادلة بين الطرفين. وقد تضمنت تصريحات أمينه العام حسن نصر الله، في مناسبات عديدة، الإشارة إلى عدم اتخاذ قرار الحرب رغم الاستعداد لها حسب مزاعمه، مبررًا ذلك بإدراكه أن إسرائيل لن تبدأ حربًا على لبنان لأنها، على حد قوله، "عرفت أن جبهتها الداخلية غير مستعدة للحرب"، وهو ما يدخل في إطار الحرب النفسية التي تندرج تحت سياق معادلة "الردع المتبادل".
واللافت في هذا السياق، أنه من الناحية العملية، قد يشكل تنامي خبرات الحزب التي اكتسبها من سنوات الحرب السورية قيدًا على الخيارات المتاحة أمامه في المواجهة مع إسرائيل أكثر من كونها توفر فرصة، بناءً على مؤشرات عديدة، منها أن الحزب خسر، حسب بعض التقديرات، ما يقرب من 2000 مقاتل في الحرب السورية بالإضافة إلى نحو 8000 مصاب، وهو ما فرض أعباءً عسكرية واقتصادية عليه، فضلاً عن أن موقفه من الحرب لا ينفصل عن حسابات إيران ورؤيتها للمسارات المحتملة للتصعيد الحالي مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
وكما سبقت الإشارة، فإن جهود الوساطة التي تبذلها فرنسا عقب انعقاد قمة مجموعة السبع في بياريتز أبقت على احتمالات العودة إلى مسار التسوية الخاص بالملف النووي، رغم تهديدات إيران بمواصلة تخفيض التزاماتها النووية، على نحو يوحي بأنها قد لا تدعم، حاليًا، خيار التصعيد عبر حزب الله ضد إسرائيل.
مسار محتمل:
لكن رغم بقاء هذه المعادلة حتى الآن تحت السيطرة بالنظر إلى الدوافع السابقة، إلا أنه لا توجد ضمانات باستمرار ذلك في المستقبل، لا سيما في ظل حرص الطرفين على وضع خيار الحرب في حساباتهما، بالإضافة إلى استمرار الحشد العسكري من جانب الحزب، على الأقل من الناحية التكتيكية، باتجاه إسرائيل، وهو ما دفع الأخيرة إلى الإبقاء على مستوى الجاهزية الدفاعية من خلال رفع قدرات منظومات الدفاع استعدادًا لاحتمال التعرض لهجوم صاروخي واسع النطاق من جانب الحزب، وربما اتجاه بعض الميليشيات الأخرى إلى الانخراط في المواجهة. إلا أن ذلك في مجمله يظل رهن انتهاء فاعلية عامل الردع أو اختلال معادلاته.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن اندلاع مواجهة بين إسرائيل وحزب الله يظل احتمالاً واردًا، لكن شروطه لم تستوفى بعد بشكل كامل، بما يعني أنه يبقى السيناريو المؤجل الذي يضعه كل طرف في حساباته، فلا شك أن معادلات الحرب لم تعد قائمة فقط على أساس الحسابات الخاصة بالثقل السياسي لحزب الله في لبنان وحجم الترسانة الصاروخية التقليدية التي يمتلكها، وإنما أيضًا على أساس ثقل وميزان قدرات حزب الله ضمن الحسابات الإقليمية لإيران.