أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

الأولوية رقم 1

متى تستقر مصر أمنياً؟

04 أغسطس، 2014


** نشر هذا المقال في دورية (اتجاهات الأحداث) الصادرة عن مركز المستقبل، العدد الأول ، أغسطس 2014، ص 21 ـ 23.

مصر دولة مهمة في المنطقة، ومصطلح "مهمة" يمكن قياسه علمياً، فهو يرتبط بمعادلات لعناصر قوة الدولة بصفة عامة، وجداول مؤشرات تحدد قوتها في "سنة معينة". لكن الأهمية عموماً تعني قدرة ما على التأثير في التفاعلات المحيطة بها، سواء كان هذا التأثير يرتبط بدعم أو إيذاء.

وقد ظهر في الفترة الأخيرة أن تداعيات ضعف مصر أكثر حدة من تأثيرات قوتها، وهي المشكلة التي ظهرت بأشكال مختلفة في حالات العراق وسوريا، وبدرجة ما ليبيا واليمن، التي أدت انهيارات الدول فيها إلى نتائج كارثية على شعوبها والدول المجاورة لها وتوازنات الإقليم، وهي كلها حالات تنطبق عليها المقولة الشهيرة "إذا لم تهتم بها، فسوف تهتم هي بك".

لقد مرت مصر خلال السنوات الثلاث الماضية بواحدة من أعقد عمليات "التحول" التي يمكن أن تمر بها دولة، إذ شهدت سلسلة تقلبات حادة وسريعة، ساد في ظلها انطباع بأن مصر قد انتهت، وأن "ستاراً حديدياً" سوف يسدل حولها لزمن طويل، كما حدث لدول أوروبا الشرقية بعد أن اجتاحتها الشيوعية. وكاد القطاع الأكبر من مواطنيها أنفسهم– في ظل حكم الإخوان المسلمين– أن يفقد الثقة تماماً في عودة الدولة التي تعرضت مؤسساتها ومجتمعها وهويتها لضغط يشبه ضغوط "الاحتلال الأجنبي". وتعترف القيادات المصرية بأن مصر تمر بواحدة من فترات الضعف التاريخية لها حالياً، وبدا الشعب المصري وكأنه يبحث عن "عصا سحرية" لتجاوز تلك الحالة.

أثار هذا الوضع أسئلة كبرى تتعلق بمستقبل الدولة في مصر، ومستقبل نظامها السياسي، ودورها الإقليمي. وتظل قضية استعادة الأمن أحد أهم مفاتيح هذه المرحلة، فهي الأولوية "رقم 1" في مصر، فبعودته تعود هيبة الدولة وأمن المواطن، كما سينسحب ذلك على تنشيط الاقتصاد وانضباط المجتمع، فمتى يمكن أن يتحقق الأمن في مصر؟

لا يوجد أمن كامل

هناك محددان يحكمان هذا الموضوع، الأول هو أن إجابة "سؤال متى" لا تعنى بتحديد توقيت معين لتحقيق الاستقرار الأمني في مصر، وإنما بظروف معينة يمكن الحكم في حال توفرها أن الاستقرار قد بدأ يتحقق، وأن مصر تتجه لأن تكون دولة طبيعية.

المحدد الثاني هو أن الاستقرار الأمني لا يعني "أمناً كاملاً"، فسوف تظل هناك مشكلات أمنية طوال الوقت، كما يحدث في أي دولة، لكنها ستكون مشكلات يمكن التعايش معها، ولا تطرح سيناريوهات سيئة.

وبالرغم من اعتماد تقييم حالة الأمن على مؤشرات محددة، فإنه– وبصرف النظر عن المؤشرات– "شعور"، فعندما يتحقق الأمن سيسود شعور بتحققه.

وبداية، فإن الغايات الأساسية لأي دولة في العالم تتمثل في الحفاظ على وحدة الدولة وسيادتها على أراضيها وقدرتها على الدفاع عن نفسها، مع تحقيق الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي والتماسك الاجتماعي والانفتاح الثقافي وأحياناً المكانة الإقليمية. ويضاف لحالة مصر حالياً هدفا العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وتتمثل مشكلة مصر في نقطتين:

1 ـ إن كيان الدولة ذاته قد هُدد، يتضمن ذلك وحدة أراضيها على النحو الذي أثير بشأن سيناء، وحدودها الجغرافية التي اخترقت من كل اتجاه، ومواردها الطبيعية، ويتضمن ذلك مياه النيل، ومؤسساتها الرئيسية التي تعرضت (باستثناء الجيش) لحالة كسر حقيقية، وهويتها المدنية التي واجهت تحدي "أخونة مصر"، ثم تماسكها الاجتماعي الذي تم تجاوز المساس به كل الخطوط الحمراء، وأخيراً مكانتها الإقليمية التي تمثل جزءاً من مفهوم الدولة في الثقافة المصرية. بذلك يتمثل الهدف الرئيسي لنظام ما بعد 30 يونيو 2013 الحالي في "استعادة الدولة".

2 ـ إن هناك تعدداً غير مسبوق في مصادر واتجاهات التهديدات Threats الموجهة لكيان الدولة والمخاطر Risks المؤثرة على مصالحها الحيوية، بحيث يمكن رصد قائمة طويلة من التهديدات يمكن اختصارها في أن "حالة حرب" تشن على الدولة من الخارج من جانب تحالف استهدف مصر على غرار ما حدث تقريباً في عام 1840 في عصر محمد علي باشا، بالتوازي مع حالة عدم استقرار متعددة المستويات غير مسبوقة تاريخياً في الداخل، بما أدى إلى "ضغط عنيف على حالتها الأمنية"، في وقت كانت الدولة فيه– كما سبق القول– في أضعف حالاتها.

خمسة تهديدات رئيسية

في هذا الإطار، يوجد مدخلان معروفان لتحديد التهديدات الأمنية، أولهما واسع يعتبر كل تحد أو خطر أو مشكلة في أي مجال من المجالات قضية أمن قومي. وثانيهما ضيق يقصر التهديدات والمخاطر على ما يمس كيان (بقاء) الدولة ومصالحها الحيوية، ويرتبط مباشرة بحالات أو احتمالات استخدام القوة العسكرية والعنف الداخلي.

وسوف يتم الاعتماد على المدخل الثاني، الذي يشير إلى أن المشكلات الأمنية المباشرة التي تواجه مصر في الوقت الحالي، كالتالي:

1 ـ الأعمال العنيفة لعناصر جماعة الإخوان المسلمين ضد الدولة والمجتمع في مصر. فقد أدى خروج الجماعة من السلطة إلى عنف مفتوح، يتخذ شكل احتجاجات شوارع، وقطع طرق، وإحراق سيارات، واستهداف مؤسسات واغتيالات أمنية وأعمال إرهاب بدائي. يضاف لذلك ما تقوم به الكيانات المتحالفة مع الجماعة (أنصار بيت المقدس)، من إرهاب منظم، ثم ما يفعله حلفاؤها الدوليون من محاولات اختراق وتشويه وإضرار بدولة 30 يونيو.

2 ـ العنف المسلح لجماعات الإرهاب التكفيرية المنظمة في شمال سيناء. وقد بدأت تلك الأعمال في عهد نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، مستهدفة مدن سيناء الرئيسية، ثم تفاقم الموقف بعد ثورة 25 يناير، كما ظهر في عمليات تفجير خطوط الغاز قبل أن تتحول سيناء في ظل حكم الإخوان إلى "بؤرة إرهابية" تتدفق إليها عناصر وتنظيمات خطرة من الأنفاق والحدود والجبال والسجون، بل والمطارات برعاية رسمية، لتبدأ أعنف مواجهات مسلحة، لم تشهد سيناء مثيلاً لها منذ عام 1973.

3 ـ الاختراقات المكثفة لحدود مصر الدولية من كل الاتجاهات. فقد وجدت مصر نفسها محاصرة "بدائرة نار"، أدت إلى الضغط على حدودها من جانب حركات مناوئة كحماس، أو دولة فاشلة في ليبيا، أو نظام محتقن في السودان. أدى ذلك إلى اختراقات واسعة النطاق، عبر أنفاق الحدود ودروب الصحراء، لتهريب الأسلحة والسلع والبشر "المتطرفين". يضاف إلى ذلك محاولات التهريب المكثفة عبر الموانئ والمطارات، والمياه الإقليمية. وكان أخطر ما جرى أمنياً هو انتشار الأسلحة "غير الخفيفة" والمتفجرات المتطورة داخل مصر.

4 ـ تصاعد الإجرام الجنائي داخل مصر. فقد أدى انهيار وزارة الداخلية واستهداف أقسامها وسجونها خلال ثورة 25 يناير، وأجواء انكسار هيبة الدولة بعد الثورة عموماً، إلى ما سمي "انفلاتاً أمنياً"، قاد إلى تزايد "مخيف" في أعمال الإجرام المعتادة التي تمس الأمن العام، وتحول بعض أشكاله التقليدية إلى أعمال منظمة، مع ظهور جرائم غير معتادة في مصر، كالخطف للفدية، والسطو المسلح، وسرقة السيارات، والمشاحنات الجماعية، وبعض الجرائم "غير المقبولة اجتماعياً"، وهي أمور تمس مباشرة أمن المواطنين.

5 ـ احتمالات تفاقم مشكلة سد النهضة مع إثيوبيا. فبالرغم من أن تلك المشكلة لا تبدو كواحدة من المؤشرات الدالة على الاستقرار الأمني أو عدمه في مصر، فإن السيناريوهات المتعلقة بمساراتها التالية إيجاباً أو سلباً، في اتجاه التسوية أو الصدام، سوف تحدد المدى الذي ستصبح فيه مصر دولة طبيعية عموماً. فتكاد تكون هذه القضية الحالة الوحيدة التي قد تثير احتمالات حرب بالنسبة إلى مصر، حتى وإن كان لا يفكر أحد فيها أو يخطط لها.

معايير الاستقرار الأمني

في إطار ذلك، فإن تحقق الاستقرار الأمني في مصر يعتمد على تمكن الدولة من التعامل مع تلك التهديدات أو المخاطر بفعالية. وهنا تطرح أسئلة فرعية كثيرة تتعلق بالقدرة المتوفرة على القيام بذلك، أو الإرادة القوية في حالة توفر القدرة، أو المهارة اللازمة في حالة توفر القدرة والإرادة. وهنا لا يمكن تقييم الموقف ببساطة، لكن يمكن رصد ما يلي:

1 ـ إن القدرات الأمنية في مصر قد تصاعدت بشكل سريع في وقت قياسي، بما في ذلك إعادة بناء الأمن الوطني وتطوير تسليح وتدريب و"مظهر" الشرطة، وتشكيل قوات خاصة متطورة للاقتحام والانتشار السريع، والتعاون بين المؤسسة العسكرية والشرطة المدنية والأمن القومي، ودعم الأوضاع الحياتية لأفراد جهاز الشرطة، والاهتمام بأسر الشهداء. وبالرغم من وجود بعض المشكلات، إلا أن قوات الأمن في مصر حالياً مختلفة.

2 ـ إن الإرادة الأمنية قد تدعمت بشدة، خاصة في ظل "رئاسة عبد الفتاح السيسي"، مع توفر غطاء قانوني ينهي مسألة "الأيدي المرتعشة". ووضح ذلك على المستويات كلها، بداية من الطريقة التي تنفذ بها عمليات القوات المسلحة في سيناء، ومروراً بما تقوم به الشرطة العادية من عمليات إنهاء الإشغالات والتعديات في الشوارع، وصولاً إلى مواجهة عنف الإخوان في الجامعات والشوارع لفترة طويلة.

3 ـ إن تطورات المهارات الأمنية تبدو واضحة في عمليات نوعية أدت إلى تصفية تنظيم التفجيرات الكبيرة في "القناطر الخيرية"، ونجاح عمليات ضد خلايا إرهابية صغيرة قادت إلى منع كوارث حقيقية، والحملات المتتالية لضبط الخارجين عن القانون، مع حماية العمليات الانتخابية المتتالية وأهمها انتخابات الرئاسة 2014، بدون تجاوزات كبيرة، ما أدى إلى تحسن سريع في الوضع الأمني.

في هذا الإطار، فإن المعايير العامة للحديث عن استقرار حالة الأمن في دولة مثل مصر، تتمثل فيما يلي:

1 ـ إحداث تقدم مستمر، حتى ولو كان شديد البطء في التعامل مع الحالة الأمنية بقبضة ثابتة، بحيث تصبح حالة الأمن يومياً أفضل من السابق، مع ثقة نسبية لدى قطاع كبير من المواطنين بأن اليوم التالي سيكون أفضل من اليوم السابق. وبالرغم من أن اتجاهات التحسن التدريجي تتحرك مثل قطع الشطرنج أحياناً، أي ليس للأمام دائماً، فإن المسار العام يجب أن يكون للأمام، فمشكلة مصر هي الصعود والهبوط المتتاليين طوال الوقت. وعادة ما يترافق ذلك مع صدمات صغيرة "إيجابية"، تتمثل في قرارات جريئة أو عمليات نوعية أو حركات غير تقليدية، تحول الدولة إلى "حالة الهجوم" أو المبادرة باستمرار.

2 ـ انتهاء أي احتمالات لحدوث اضطرابات واسعة النطاق ذات أبعاد سياسية، وفقاً لنظرية الثورة الثالثة. فبالرغم من أن فكرة الثورة لم تعد واقعية لأسباب كثيرة، فإن فكرة الاضطرابات واسعة النطاق لاتزال واردة. وسوف تصبح الدولة طبيعية إذا تقلصت مثل تلك الاحتمالات، ويتحقق ذلك إذا تمكنت الدولة وتحالفاتها الحالية مما يلي:

• إنهاء المشكلات الهيكلية، والتفاعل مع الكيانات المنظمة، ثم عدم ارتكاب الأخطاء الكبرى، التي دفعت ملايين البشر للخروج إلى الشوارع عامي 2011 و2013. ويتعلق ذلك بجوانب غير أمنية للأمن، كالاقتصاد، والعمل، والخدمات، والإدارة، ونمط الحياة، إضافة إلى "ممارسة السياسة". ولا يتصل الأمر هنا بحلول حاسمة، وإنما تقدم في اتجاهها، مع "أمل" ما يحتاجه الشعب المصري حالياً، وأن يتم ذلك خلال عام واحد.

• تمكن الدولة، بكل مؤسساتها وقواها السياسية والاجتماعية والثقافية، من احتواء أعداد كبيرة من المصريين لا يوجد لهم مسمى محدد أو واحد، يزحفون بسرعة إلى كل التجمعات، منذ ثورة القاهرة الثانية ضد الفرنسيين عام 1800، حتى ثورات القرن الحادي والعشرين، وأهمهم حالياً أولاد الشوارع، والفئات المهمشة، وعصابات الأحياء، والأسراب الهائمة، والكتل السائلة، وصولاً إلى روابط المشجعين، ودعاة الفوضوية، والثوار المحترفين، فهم مكون رئيسي لاحتجاجات الشوارع وتجمعات الميادين.

أما بالنسبة للمشكلات الأمنية المحددة، فإن هناك استراتيجيات فعالة للتعامل مع تنظيمات شمال سيناء، لكنها تحتاج إلى وقت، وهناك حلول للحد من مشكلات أمن الحدود، لكنها تحتاج إلى قدرات إضافية. وتظل المشكلات الحقيقية ترتبط باضطرابات الإخوان والإجرام الجنائي، وسوف تتقلص الأخيرة مع مزيد من التحول من "حالة الثورة" إلى حالة الدولة، وتبقى مسألة الإخوان في حاجة إلى توجهات غير تقليدية، بالرغم من أن قوة الدفع الخاصة بها بدأت تصل إلى مراحلها الأخيرة. ومن ثم إذا كان من الممكن الإجابة على سؤال "متى يستتب الأمن في مصر؟" بالإشارة إلى مدى زمني محدد، فإنه يقيناً شهور وليس سنوات.