أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

اختبار التسوية:

حدود تأثير آلية تبادل الأسرى في تهدئة الصراعات

26 أكتوبر، 2022


أعادت عملية تبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا، بوساطة سعودية وتركية، في شهر سبتمبر 2022، الحديث عن دور مثل هذه الصفقات في تهدئة الصراعات والحروب. إذ تحرص أطراف النزاعات الدولية والحروب الأهلية على الإيقاع بقدر من الأسرى والمحتجزين، وحتى الجثامين وبعض رُفات المقاتلين الذين لقوا حتفهم أثناء الحرب أو العنف، لاستخدامهم كأداة ضغط ومساومة في مرحلة لاحقة، وبالتحديد في مرحلة يصل فيها النزاع إلى النُّضج "Conflict Ripeness"، وهي مرحلة حساسة تأتي مباشرة بعد الوصول إلى ذروة العنف والتصعيد "Hurting Stalemate"، وتتشكل فيها السمات العامة للنزاع، وتظهر تدريجياً مطالب ومصالح الأطراف وأدوار الفاعلين المؤثرين الرئيسيين والثانويين.

وتكمن إشكاليّة مرحلة "نُضج النزاع" في توقيتها المحفوف بالمخاطر، وكونها تُمثل عنق زجاجة في مسار النزاع، فالظروف باتت مواتية لمواصلة التصعيد وغض الطرف عن فرص التسوية السلمية، وفي الوقت نفسه هناك إمكانية مُعلقة على شرطيّ القدرة والرغبة معاً من أجل الوصول إلى تهدئة ما والقبول بوساطة أو مساعٍ حميدة لأطراف ثالثة، وبالتالي حلحلة النزاع ودفعه للأمام وطرح آليات من شأنها تحويل مساره مثل وقف إطلاق النار، والفصل بين القوات المتحاربة، والتوسُّط من أجل إيصال مساعدات إنسانية، وعقد صفقات تبادل أسرى ومحتجزين.

صفقة أوكرانيا:

على الرغم من تصاعد حدة المعارك والقتال بين روسيا وأوكرانيا طيلة الأشهر الماضية وظهور متغيرات جديدة في الصراع مثل الردع النووي والتدمير المُتبادل "Mutual Destruction"، الذي لم يقتصر التلويح به فقط على أحد أطراف الصراع ولكن امتد ليشمل بعض الفاعلين المؤثرين في الصراع وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية وقادة حلف الناتو، فقد جرت عملية تبادل أسرى هي الأوسع نطاقاً منذ بدء هذه الحرب بوساطة سعودية وتركية، حيث أفرجت روسيا على أثرها عن 215 أسيراً أوكرانياً من بينهم قادة عسكريون رفيعي المستوى، كما أفرجت كذلك عن 10 أجانب كانوا مُحتجزين من قِبل قوات انفصالية موالية لها في الداخل الأوكراني، وهم ينتمون لعدة بلدان من بينها الولايات المتحدة وبريطانيا والسويد والمغرب. وفي المقابل، أفرجت أوكرانيا عن 55 أسيراً روسياً بالإضافة إلى السياسي الأوكراني الموالي لروسيا، فيكتور ميدفيدتشوك، على الرغم من توجيهها تهمة الخيانة له.

ولعل ما ساعد على إنجاح الوساطة السعودية والتركيّة، أمران: الأول هو التوقيت الذي بدا فيه أن كل طرف بحاجة إلى التقاط الأنفاس وتهدئة النزاع قليلاً حتى ولو ظهر خلاف ذلك في تصريحات إعلامية أو تعبئة عسكريّة إضافية. أما الأمر الثاني فيعود لمكانة الوسيط والحياد الذي التزمت به كل من السعودية وتركيا تجاه الحرب الأوكرانية منذ اندلاعها، وعدم الالتزام بالعقوبات المفروضة من قِبل واشنطن على موسكو واستمرار تعاملهما المالي مع المصارف الروسية لعدم كسر حاجز الحياد، وهو ما انعكس على مسار الوساطة وقبولها لدى كل من روسيا وأوكرانيا.

وجدير بالذكر أن العديد من الصراعات والحروب في مناطق مختلفة حول العالم، شهدت خلال عام 2022 محاولات ووساطات، بعضها خارجية، بين الأطراف المتصارعة في سبيل التوصل إلى اتفاق لتبادل أسرى ومحتجزين، على أمل أن تؤدي مثل هذه الخطوة، في حالة نجاح إتمامها، إلى التهدئة ووقف إطلاق النار. 


قواسم مشتركة:

يمكن تتبُّع بعض القواسم المشتركة الداعمة لصفقات تبادل الأسرى والمحتجزين على اختلاف قضايا الصراع في كل منها، وذلك على النحو التالي:


1- وجود وسيط محايد ومقبول من أطراف النزاع: يصعُب عملاً على أطراف النزاع التوصُّل لاتفاقات من شأنها تبادل الأسرى قبل الوصول إلى اتفاق جزئي لتسوية النزاع بواسطة طرف ثالث مقبول لديهما. لذا تظل الحاجة قائمة في هذه المرحلة الفارقة إلى وساطة محايدة أو مساعٍ حميدة مؤثرة، من شأنها حلحلة النزاع ودفع الأطراف نحو "أنسنة المصالح"، والقبول بوقف إطلاق النار، والسماح بوصول المساعدات العاجلة، وتبادل الأسرى والمحتجزين، وصولاً إلى تسليم الجثامين ورفات الجنود المقاتلين، تمهيداً لبدء تهدئة جادة تسمح ببذل جهود إضافية من شأنها وضع حد للنزاع القائم. ويُلاحظ أن الوسيط في صفقات التبادل الناجحة هذا العام حظي بالقبول، وهو السعودية وتركيا بالنسبة لصفقة روسيا وأوكرانيا، واللجنة الدولية للصليب الأحمر ومعها الاتحاد الأفريقي بالنسبة لصفقة الحكومة المركزية الإثيوبية وجبهة تحرير تيجراي، وغيرهما.

2- وضع إطار زمني محدد وجدولة متدرجة لعملية التبادل: إن وضع إطار زمني لعملية التدخل السلمي في النزاع وجدولة عملية تبادل الأسرى والمُحتجزين، يصب في صالح إنجاح مساعي التهدئة. فمثلاً، اللجنة الدولية للصليب الأحمر، في وساطتها بشأن ضمان إيصال المساعدات الإنسانية لإقليم تيجراي المحاصَر في مقابل إفراج قادة الإقليم عن مقاتلين تابعين للحكومة المركزية في أديس أبابا، رأت أن مجرد إحراز تقدُّم طفيف ولو بالإفراج فقط عن ألف مقاتل برُتب منخفضة يُعد مكسباً لحين التوصُّل لتسوية أوسع في جولات أخرى تأتي بعد.

3- اختيار توقيت زمني مناسب وأراضٍ محايدة: لا شك أن تحيُّن الوقت المناسب لاختيار الآلية المناسبة في عملية التدخل السلمي، له دور كبير في إنجاح مساعي التسوية، وهو ما ظهر جلياً في التدخل المحسوب للغاية من قِبل السعودية وتركيا في صفقة تبادل الأسرى والمحتجزين بين روسيا وأوكرانيا، سواء من حيث اختيار الزمان أو مكان تنفيذ الصفقة.

4- توافر اعتبارات سياسية: في صفقة تبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا، تم الإفراج عن السياسي الأوكراني الموالي لموسكو، فيكتور ميدفيدتشوك، على الرغم من كونه قيد المحاكمة بتهمة الخيانة العظمى، والحال نفسها بالنسبة لصفقة واشنطن وكابول فيما يخص بشير نورزاي الذي كان معاقباً بالسجن مدى الحياة لاتهامه بتهريب ما قيمته 50 مليون دولار من مخدر الهيروين إلى الولايات المتحدة. وهذا ما يوضح عدم وقوف الاعتبارات القانونية حجر عثرة أمام تنفيذ هذه الصفقات إذا توافرت العوامل السياسية اللازمة لإنجاحها.

5- دفع جهود صُنع السلام: إن عملية تبادل أسرى بين الحكومة الشرعية في اليمن وميليشيا الحوثيين في مُنتصف العام الجاري، كان أحد أهم أهدافها بث الثقة وخلق نوع من الاعتماد المُتبادل بين الطرفين لفتح الباب أمام المبعوث الأُممي إلى اليمن، هانس جروندبرج، لدفع جهود السلام والجلوس على طاولة المفاوضات لتسوية الأزمة سياسياً بعيداً عن الخيار العسكري.

عراقيل النجاح:

ثمة عدد من التحديات أو العراقيل التي قد تقف في طريق عقد المزيد من صفقات تبادل الأسرى والمحتجزين في الحروب والصراعات القائمة، ولعل أبرزها ما يلي:


1- عدم وجود بيانات مُتاحة للأسرى والمحتجزين: يحدث ذلك أحياناً بصورة طوعية من الأسير/ المُحتجز لكي يُفلت من محاكمات غير عادلة. ويعتبر غياب البيانات عائقاً لوجيستياً كبيراً أثناء عملية التحضير للصفقة، ويُثقل كاهل فريق التدخل إلى أن يتم توفير كشوف بديلة.

2- المُماطلة وعدم الرغبة في الاستجابة لآليات تهدئة الصراع: ذلك مَردّه في بعض الأحيان إما إلى ضغوط خارجية يُمارسها فاعلون مؤثرون على طرف أو أكثر من أطراف الصراع، أو إلى ضغوط داخلية لمواصلة القتال وعدم الاستجابة لمساعي تهدئة الصراع إلا بعد تحقيق مكاسب أكبر على الأرض. ومثال على ذلك، ميليشيا الحوثيين التي اعتادت المُماطلة والتسويف في مفاوضات تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار مع الحكومة الشرعية، بل والمساومة بوضع شروط تعجيزية تضمن للميليشيا الحصول على مكاسب اقتصادية أو عسكرية، مع انتظارها كذلك التعليمات الواردة من إيران باعتبارها الداعم الرئيسي للوكيل الحوثي في حرب اليمن.

3- تعقُّد الحالة الصراعيّة ووجودها كجزء من صراع أكبر: تواجه صفقات تبادل الأسرى والمحتجزين بين حكومة أوكرانيا وإقليمي دونيتسك ولوغانسك، معضلة كونها حالة صراعية قضيتها الانفصال بداعي حق تقرير المصير ضمن حالة صراعية أكبر هي الصراع الروسي-الأوكراني والذي يُعتبر الصراع الأوسع مدى من حيث الفاعلين الدوليين على مستوى العالم حالياً.

4- تشرذم أطراف الصراع وعدم وجود قيادة مُوحدة: عادةً ما يحتاج الوسيط إلى قيادات موحّدة قادرة على الوفاء باتفاق التسوية بما فيه صفقات تبادل الأسرى والمحتجزين، وفي حال وجود أكثر من قيادة لطرف وأكثر من أطراف الصراع، تصعب معرفة المسؤول من كل طرف عن الوفاء بالاتفاق، وعدم المماطلة في أمد تنفيذه.

5- غياب الوسيط الضامن لتنفيذ الصفقة: تلعب مكانة الوسيط ونفوذه هنا الدور الأبرز في طمأنة أطراف الصراع على مستقبل اتفاق التسوية بما فيه صفقة التبادل، فالوسيط في تلك الاتفاقات يضمن ليس فقط تنفيذ بنود الاتفاق بحسب الجدول الزمني، ولكن أيضاً عدم الارتداد مرة أخرى وعمل ما يناقض بنود الاتفاق.

ختاماً، قد تلعب آلية تبادل الأسرى والمحتجزين دوراً محورياً في كبح النزاعات والصراعات والتخفيف من حدتها، شريطة أن تُجرى من خلال وساطة مقبولة وموثوق في حيادها أو مساعٍ حميدة محل تأييد. ولعل هدف تبادل الأسرى والمُحتجزين الرئيسي هو إعطاء الجميع فرصة لاختبار مسار التسوية السلمية للنزاع ولو بصورة جزئية، ومن ثمّ البناء عليه بصورة بَنّاءة في اتفاق آخر أعم وأشمل.