أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

المباني الخضراء:

كيف يتجنب سوق العقارات مخاطر تغير المناخ؟

02 سبتمبر، 2022


يُعتبر القطاع العقاري سبباً رئيسياً في ظاهرة الاحتباس الحراري، وهو أيضاً متضرر منها، حيث ينتج عن النشاط العقاري في العالم - وفق معيار الدورة الكاملة لبناء وتشغيل العقارات- ما يقرب من 39% من إجمالي الانبعاثات العالمية، 11% منها ناتجة عن مواد التصنيع المُستخدمة في المباني (بما في ذلك الصلب والإسمنت)، بينما ينبعث الباقي وهو 28% من المباني نفسها، عبر عملية تزويد المباني بالطاقة. من جهة أخرى، يؤدي التغير المناخي إلى آثار سلبية على صناعة العقارات، حيث يفرض تغييرات في مُتطلبات المُستأجرين والمُستثمرين، وتتغير قيمة الأصول والثروات، وأساليب تطوير وتشغيل العقارات بسبب التغير المناخي، وذلك وفقاً لتقديرات خبراء هذه الصناعة.

ومن ثم، يجد صانعو سياسات القطاع العقاري حول العالم أنفسهم في دائرة مُغلقة، إما الاستمرار في البناء المُعادي للبيئة وتغذية ظاهرة الاحتباس الحراري ما يؤدي إلى انهيار القطاع العقاري، أو على العكس تأسيس مدن ومنشآت صديقة للبيئة تستطيع التكيف مع ظاهرة الاحتباس الحراري، والحفاظ على الثروة العقارية في الأمد الطويل. 

أنماط التأثير:

هناك نمطان رئيسيان لتأثر القطاع العقاري حول العالم بظاهرة الاحتباس الحراري؛ أولهما الأكثر تأثيراً، ويتمثل في حدوث الكوارث الطبيعية من أعاصير وفيضانات وتصحُر مما يهدد الثروة العقارية بشكل مباشر، وثانيهما التضرر التدريجي للعقارات نتيجة الاختلال المناخي وارتفاع تكاليف الإقامة وانخفاض العائد على الاستثمار في العقارات. ووفقاً لبعض الخبراء، فإن تغير المناخ يمس كل جانب من جوانب صناعة العقارات، من ارتفاع الأسعار وامتداداً إلى انخفاض الإقبال على السكن بمناطق بعينها.

وعلى سبيل المثال، في الولايات المتحدة، أدى ارتفاع درجات حرارة الأرض إلى نشاط زائد للأعاصير الساحلية على مدار العشرين عاماً الماضية، وارتفاع مستوى سطح البحر، ما أهلك عقارات بملايين الدولارات على طول الساحل الغربي للبلاد. وفي المُجمل، تُظهر التوقعات العالمية أن الفيضانات الساحلية تهدد غرق منازل تؤوي 300 مليون شخص حول العالم بحلول عام 2050.

وفي المناطق التي لم تتعرض لكوارث طبيعية، ولكنها تُصنف ضمن المناطق عالية المخاطر، ترتفع تكاليف صيانة المُمتلكات وأقساط التأمين وتكاليف التدفئة والتبريد، بالتزامن مع انخفاض الطلب وتراجع أسعار العقارات، وذلك بخلاف المناطق المُستقرة التي شهدت زيادة في أسعار العقارات والإيجارات من دون زيادة التكاليف؛ مما يخلق حالة أشبه بالهجرة البطيئة.

ووفقاً للوكالة الدولية للطاقة، هناك ما قيمته 7.5 تريليون دولار من العقارات يمكن أن "تنقطع بها السُبل"، حيث ستشهد هذه الأصول عمليات تخفيض كبيرة في القيمة نظراً لمخاطر المناخ؛ مما يجعل العقارات أحد أكثر القطاعات تضرراً من الاحتباس الحراري. 

وأحدث التغير المناخي تحولاً هائلاً في تقييم العقارات، فقد انتهت دراسة استقصائية أجراها باحثون في جامعة نيويورك إلى أن كل خبير مالي يرى أن أسعار الأصول العقارية الحالية تعكس مخاطر المناخ "أكثر من اللازم" يقابله 67 خبيراً مالياً يعتقدون أن أسعار الأصول العقارية لا تعكس مخاطر المناخ "بشكل كافٍ". وتوصلت الدراسة نفسها إلى أن كل خبير مالي يرى أن أسعار الأسهم تعكس مخاطر المناخ "أكثر من اللازم" يقابله 20 خبيراً يعتقدون أن أسعار الأسهم لا تعكس مخاطر المناخ "بشكل كافٍ"؛ مما يعني وجود انحراف بين التقييم النموذجي لسعر العقار والسعر الفعلي، بحسب الخبراء.

العقارات صديقة البيئة: 

بات لتغير المناخ تأثير أكبر من أي وقت مضى على عملية اتخاذ القرار بالنسبة للمُستأجرين الذين يبحثون عن مكان للعيش فيه، حيث استطلعت "برايس ووتر هاوس" رأي 600 خبير عقاري، أكدوا تزايد الطلب على المكاتب والمساكن صديقة البيئة حول العالم، حيث يتطلع المُستأجرون إلى خفض تكاليف التشغيل ودعم أهداف المسؤولية البيئية والاجتماعية للشركات، كما أن المُستأجرين على استعداد لدفع المزيد مقابل بعض الخصائص صديقة البيئة.

في السياق نفسه، وفقاً لاستطلاع أجراه موقع LettingaProperty.com البريطاني المُتخصص في العقارات، فإن أكثر من نصف المُستأجرين في بريطانيا على استعداد لدفع تكاليف إضافية للسكن بمنازل صديقة للبيئة، حيث يفضل 98% من المُستأجرين العيش في منزل مُوفر للطاقة، ويرغب 52% في دفع 10% تكاليف إضافية من أجل القيام بذلك. بينما 8% من المُستأجرين على استعداد لدفع 20% إضافية إذا كان ذلك يعني أنه يمكنهم استئجار منزل صديق للبيئة.

ولتلبية هذا الطلب، تتوسع الشركات حالياً في تبني المواصفات الصديقة للبيئة في بناء العقارات؛ مثل استخدام الزجاج المُزدوج، وعازل للحائط، وصناديق إعادة التدوير، والمصابيح المُوفرة للكهرباء LED، والعدادات الذكية، وأجهزة تنظيم الحرارة الذكية، والألواح الشمسية، والمراحيض الموفرة للمياه؛ مما يساعد على إبقاء المباني أكثر برودة واستدامة.

وفي ضوء تلك المعطيات، تتوقع مؤسسة التمويل الدولية، التابعة للبنك الدولي، أن يبلغ سوق العقارات صديقة البيئة حوالي 24.7 تريليون دولار في الاقتصادات الناشئة بحلول عام 2030. وستحظى منطقتا شرق وجنوب آسيا بالحصة الأكبر من هذه الاستثمارات، بقيمة 17.8 تريليون دولار؛ نتيجة الزيادة الكبيرة في معدلات الانتقال إلى المُدن (التحضر)، واستحواذها على نصف سكان الأرض تقريباً.

عوائد مُتوقعة:

يُدرك أصحاب المصالح، بما في ذلك الشركات، مع مرور الوقت، أن المباني صديقة البيئة أو ما يُمكن أن يُطلق عليها "المباني الخضراء" هي أصول أعلى قيمة وأقل خطورة من المباني ذات الهياكل القياسية، هذا إلى جانب استرداد قيمة الاستثمار في وقت أقصر بسبب خفض استهلاك الطاقة والمياه وغيرها من تكاليف التشغيل. كما قد تُحقق المباني الخضراء عادةً أقساط بيع أعلى وتجذب المزيد من المستأجرين وتحتفظ بهم لفترة أطول، ما يضمن تدفقاً أكثر استمرارية للإيرادات، بالإضافة إلى الهدف الأسمى للحكومات والشركات بتحقيق "الحياد الكربوني".

ووفقاً لتقديرات البنك الدولي، فإن التكاليف التشغيلية للمباني الخضراء أقل بنسبة 37% مقارنةً بالمباني التقليدية، وتُحقق أقساط بيع أعلى بحوالي 31%، ومعدلات إشغال أعلى بنسبة 23%، ودخل إيجاري أعلى بنسبة 8%، وهذا كله مقابل تكاليف إضافية 12% فقط عند البناء.

وعلى الرغم من التوقعات المُتفائلة للبنك الدولي بخصوص العقارات صديقة البيئة، فإن إجمالي حصتها بلغت 423 مليار دولار من أصل 5 تريليونات دولار تم إنفاقها على تشييد المباني وتجديدها في عام 2017. ولكن البنك الدولي يتوقع أن يتم اجتياز الكثير من العوائق التي تمنع نمو العقارات صديقة البيئة، ومن أهمها انخفاض كفاءة آليات التمويل العقاري في كثير من البلدان الناشئة، وضعف استهلاك السندات والقروض الخضراء التي تدعم الأنشطة مُنخفضة البصمة الكربونية، والبنية التشريعية الضعيفة لقطاعات الطاقة في الاقتصادات الناشئة، والتي لا تتناسب مع متطلبات اتفاقية باريس للمناخ، التي وقعتها 195 دولة.

ويُحقق البناء صديق البيئة عائداً استثمارياً مرتفعاً مقارنةً بتكاليفه، وأصبح أكثر ملاءمةً لإسكان محدودي الدخل. وتشير شركة حلول الإسكان (IHS)، وهي شركة تطوير إسكان لذوي الدخل المُنخفض بجنوب أفريقيا، إلى أن التكلفة الإضافية للبناء وفقاً للمعايير صديقة البيئة تبلغ حوالي 270 دولاراً لكل وحدة سكنية، ما يُمثل أقل من 1% من تكلفة البناء، ولكن هذه الزيادة الطفيفة في الإنفاق تزيد العائد بقيمة تتراوح بين 20% و30%.

وفي إندونيسيا، أفاد مشروع Citra Maja Raya أن التكلفة الإضافية للتدابير صديقة البيئة بلغت 4.7% من إجمالي تكاليف البناء، واستطاع المشروع استرداد التكاليف نتيجة العائد المُرتفع في فترة 1.8 سنة فقط، بعدها أصبح المشروع يُحقق أرباحاً أعلى من المباني التقليدية، بالإضافة إلى وفورات تكاليف المرافق التي بلغت 30%.

مُمارسات عالمية:

وفقاً للمؤسسة الأمريكية لاعتماد العقارات صديقة البيئة (National Green Building Standard)، فإن الولايات المتحدة تتصدر القائمة كأكبر سوق للعقارات صديقة البيئة، حيث أضافت 26 مليون متر مربع من العقارات صديقة البيئة في عام 2021، تليها الصين بأكثر من 14 مليون متر مربع، ثم كندا والهند، وتحتل دولة الإمارات العربية المُتحدة المركز الثامن عالمياً، وهي الدولة الشرق أوسطية الوحيدة بقائمة العشرة الكبار.

وتتسابق حالياً كثير من دول العالم في سن تشريعات وإقرار حوافز لدعم الإنشاءات صديقة البيئة. فعلى سبيل المثال في الهند، تلتزم الحكومة بتطبيق التصنيف الأخضر للتقييم المُتكامل للسكن (GRIHA) في المباني الحكومية وكثير من المباني الخاصة. ووفقاً لهذا التصنيف، يتم مراعاة البيئة في جميع التفاصيل من البناء إلى التشغيل، وإعادة تدوير النفايات، وحتى الهدم، بالإضافة إلى حملات توعية ضخمة أتت ثمارها بعد عقدين من الزمان. ويشتمل تصنيف (GRIHA) على جميع التفاصيل حتى النباتات والحيوانات في موقع البناء، ودرجة نقاء الهواء بعد الإنشاء. 

وأيضاً يوجد في دولة الإمارات نحو 63.96 مليون متر مربع من المساحات التي جرى بناؤها وفق لوائح المباني الخضراء، وهذا بفضل أنظمة التصنيف المحلية. وجدير بالذكر أن الإمارات تخطط لاستثمارات بقيمة إجمالية تبلغ 600 مليار درهم (حوالي 163.5 مليار دولار) حتى منتصف القرن الحالي لتحقيق هدف خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 70%، وتحسين كفاءة الطاقة بنسبة 40%. 

وبشكل عام، لا تختلف الممارسات العالمية الصديقة للبيئة بشكل كبير بين دولة وأخرى، ولكن يمكن تقسيمها حسب أصحاب المصالح في قطاع العقارات، على النحو التالي: 

1- الحكومات: تلتزم الحكومات في عدد كبير من الاقتصادات بالمعايير البيئية في إنشاء المباني العامة، وتُقدم حوافز ضريبية على المباني وأجهزة التدفئة والتبريد صديقة البيئة، وحوافز غير مالية مثل التصاريح العاجلة والتفضيلية، كما تعتمد أنظمة المُلصقات والشهادات الإلزامية الخاصة بتوفير الطاقة.

2- المُستثمرون والمُمولون: في بعض الأسواق، بدأت البنوك والصناديق الاستثمارية في تثقيف المُطورين والعُملاء حول فوائد البناء صديق البيئة على المدى الطويل، وتقديم شروط تمويل مُحفزة لبناء وتملك المنازل صديقة البيئة. كما يعتمد المُمولون بشكل متزايد على مصادر أرخص لرأس المال من خلال سوق السندات الخضراء، ويدمجون مخاطر تغير المناخ في تقييمات الأصول والمحافظ، ما يدفع المُطورين لتبني سياسات صديقة للبيئة.

3- المُطورون العقاريون: يدمج المُطورون "الميزات الخضراء" في مواصفات المشروع والعقود والتصميم، وتوصيل البيانات حول فوائد المباني صديقة البيئة للعملاء والمُمولين للحصول على فواتير مرافق وصيانة مُنخفضة. في الوقت ذاته، يهتم المُصممون بإعادة تقديم تصور لتصميم المدن للتصدي لتغير المناخ، وكان ضمن أهم الأفكار الحديثة؛ الإعداد لكيفية تفكيك المباني وإعادة تدويرها في نهاية دورة حياتها، أو تحويلها لأغراض أخرى، وإنشاء المزيد من أماكن التجمع والاختلاط من دون الحاجة إلى سيارات، ودمج الطبيعة في تصميم المدن.

ختاماً، من المُتوقع خلال الأربعين عاماً المُقبلة أن يتم تشييد 230 مليار متر مربع من المباني الإضافية وفق برنامج الأمم المتحدة للبيئة، ما يقتضي من أصاحب المصالح التكاتف جميعاً لتبني معايير أكثر صرامة وتنفيذ مشاريع عقارية أقل تلويثاً وأكثر صداقة للبيئة.