أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

استراتيجية الهروب:

لماذا لجأت بعض دول المنطقة لـ "نظرية المؤامرة" في أزمات الحرائق؟

22 أغسطس، 2021


شهدت العديد من دول العالم خلال الفترة الأخيرة، موجات غير مسبوقة من الحرائق الهائلة التي اجتاحت آلاف الهكتارات من الغابات، وامتدت من سيبيريا إلى بوليفيا وولاية كاليفورنيا الأمريكية، مروراً بالجزائر وتونس والمغرب في شمال أفريقيا، ولبنان وتركيا واليونان وإيطاليا في منطقة شرق البحر المتوسط. وقد أسفرت هذه الحرائق عن خسائر مادية وبشرية فادحة؛ بسبب تمددها وتجددها لفترات زمنية طويلة في بعض هذه الدول. 

وعلى الرغم من أن المنظمات الدولية المعنية تربط بين هذه الحرائق والتأثيرات المدمرة للتغيرات المناخية على كوكب الأرض، فقد تبنت بعض الدول في المنطقة "نظرية المؤامرة" في تفسيرها لاندلاع هذه الحرائق.

التفسير الأممي:

تُرجِع الأمم المتحدة الأسباب العلمية لاندلاع الحرائق، إلى ارتفاع درجات الحرارة والجفاف على المستوى العالمي، وذلك على نحو ما جاء في التقرير الذي نشرته المنظمة الأممية عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC)، يوم 9 أغسطس 2021، تحت عنوان: "النشاط البشري يحرك الاحتراز العالمي على نحو لا لبس فيه، وبمعدل غير مسبوق". وأوضح التقرير، الذي أعدّه 234 عالماً من 66 دولة، أن التأثير البشري أدى إلى تدفئة المناخ بمعدل غير مسبوق، حيث تجاوزت درجات الحرارة خلال العقد الأخير فقط (2011-2020) تلك التي امتدت قروناً متعددة. وحذَّر التقرير من زيادة درجة الحرارة العالمية على مدى الأعوام الـ 20 المقبلة، إلى أكثر من 1.5 درجة مئوية. 

فيما ذكرت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO)، في يونيو الماضي، أن العالم قد يصل إلى هذه الزيادة في غضون 5 سنوات فقط، علماً بأن زيادة درجة الحرارة العالمية بمقدار درجة مئوية واحدة فقط قد تؤدي إلى زيادة في المساحات المحترقة في الغابات إلى 6 أضعاف مما هي عليه الآن، وفق بعض التقديرات.

تسييس متكرر:

لم تكن تقديرات المنظمات الدولية بشأن تأثيرات التغيرات المناخية والاحتباس الحراري، سبباً كافياً بالنسبة لدول المنطقة في تفسير اندلاع هذه الموجات الهائلة والمتتالية من الحرائق خلال الأسابيع الماضية، وإنما لجأ بعضها لتبني ما يُسمى بـ "نظرية المؤامرة"، وإلقاء اللوم على جهات أخرى اتهمها بإشعال هذه الحرائق. وقد ظهر ذلك في الحالات التالية:

1- ربط الحرائق بـ "تنظيمات إرهابية" في تركيا: أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في كلمة أمام حشد من المواطنين في إحدى الولايات المتضررة من الحرائق، في مطلع أغسطس الجاري، عن بدء التحقيق في مؤشرات حول صلة الإرهاب بحرائق الغابات في تركيا. وفي 11 أغسطس الجاري، ذكر أردوغان في حديث تليفزيوني أن "المخابرات التركية قد علمت بوجود بعض المتسببين في الحرائق والذين لهم صلة ببعض المنظمات الإرهابية، كما كانت الحال في حرائق غابات هطاي العام الماضي 2020". 

2- الإشارة إلى "أياد إجرامية" في حرائق الجزائر: اتهم رئيس الوزراء الجزائري، أيمن بن عبدالرحمن، في 10 أغسطس الجاري، ما سماها بـ "أياد إجرامية" بالتسبب في إشعال الحرائق في بلاده، مضيفاً أنه بالرغم من أن الظروف الطبيعية تساعد على انتشار الحرائق فإن الأيادي الإجرامية ليست ببعيدة عنها، وأن التحقيقات الأولية أثبتت أن أماكن انطلاق هذه الحرائق كانت مُختارة بشكل دقيق لصعوبة وصول الإسعافات والنجدة إليها.

3- تحميل "أطراف مجهولة" مسؤولية حرائق تونس: اتهم الرئيس التونسي، قيس سعيد، "أطرافاً" لم يُسمِها بافتعال الحرائق في مرتفعات تونس وغاباتها شمال البلاد ووسطها، قائلاً إن "القوات المسلحة سوف تتصدى لهم وتحاسبهم". كما قال الناطق باسم الحماية المدنية، معز بو تريعة، في تصريحات صحفية، يوم 13 أغسطس الجاري، إن التحقيقات ما زالت مستمرة للكشف عن أسباب هذه الحرائق، لافتاً إلى أنه غير مستبعد أن تكون الحرائق مفتعلة نظراً لتوقيت اندلاعها وللمناطق التي اندلعت فيها وتقاربها زمنياً وحدوثها في توقيت متأخر من الليل.

4- اتهام "جهات" بافتعال حرائق لبنان: مُنيت غابات عكار في لبنان وتحديداً غابات القبيات وعندقت وأكروم، بخسائر فادحة جراء الحريق الهائل الذي اندلع في 5 أماكن بها. وفي هذا الصدد، اعتبر رئيس بلدية عندقت، عمر سعود، في 28 يوليو الماضي، أن "الحريق مفتعل وهناك جهات عملت على إضرام النيران في أكثر من مكان، وفي الوقت الذي كنا نعمل على إخمادها"، من دون أن يحدد تلك الجهات، وطالب بفتح تحقيق فوري حول هذا الأمر.


اعتبارات مختلفة:

يمكن تفسير لجوء بعض دول المنطقة لـ "نظرية المؤامرة" وتحميلها أطرافاً أخرى مسؤولية اندلاع الحرائق أو على الأقل مسؤولية استمرارها وانتشارها على نطاق أوسع، في ضوء بعض الدوافع والاعتبارات، ومنها الآتي:

1- التغطية على الفشل في إدارة أزمة الحرائق: فقد واجه الرئيس التركي، أردوغان، حالة استياء داخلي واسعة النطاق على خلفية إخفاقه في إدارة أزمة الحرائق بالبلاد، ووُجِهت له اتهامات بأن ترويجه لافتعال هذه الحرائق يهدف إلى إخفاء عجز حكومته عن القيام بمهامها. 

ووفقاً لما ضجت به وسائل التواصل الاجتماعي من تعليقات، فقد تركزت أوجه إخفاق النظام التركي في إدارته لأزمة الحرائق في 3 اتجاهات رئيسية، وهي:

أ- توجيه الاهتمام بمشروعات البنية التحتية في اسطنبول وأنقرة، وإهمال باقي المناطق التي خسرت مساحات خضراء شاسعة بعد الحرائق التي عجزت السلطات المحلية فيها عن السيطرة عليها. 

ب- عدم الاستعداد المُسبق للحكومة التركية في التعامل مع مثل هذه الأزمات، وعدم توافر الإمكانيات اللازمة لذلك، خاصة ما يتعلق بطائرات إطفاء الحريق، على الرغم من أن الغابات تُشكل ثلث مساحة البلاد، وهو ما اضطر تركيا إلى الاعتماد على مساعدة دول الاتحاد الأوروبي وروسيا وإيران في إطفاء الحرائق.

ج- التخبط في إدارة الأزمة، فبعد أن أرجع أردوغان السبب الرئيسي لمشكلة نقص طائرات إطفاء الحريق إلى عدم تمكن جمعية الملاحة الجوية التركية من تحديث أسطولها وتقنياتها، عاد وقال لاحقاً في حديث تليفزيوني "لا صحة للشائعات التي تقول إنه لا توجد مروحيات إطفائية.. الطائرات منتشرة في العديد من المدن التركية، ولكن بعض الأشخاص أعينهم لا ترى ذلك". كما أن مشهد رمي الرئيس التركي أكياساً من الشاي للسكان أثناء قيامه بجولة في إحدى المناطق الأكثر تضرراً، زاد كثيراً من حدة الاستياء الشعبي إزاء إدارته للأزمة.

2- مواجهة الانتقادات الداخلية من قوى المعارضة: بدا ذلك في الحالة التركية أيضاً، حيث وجَّه أكبر حزبين معارضين، هما "الشعب الجمهوري" و"الشعوب الديمقراطي"، اتهامات حادة للنظام التركي على خلفية إدارته لأزمة الحرائق. وعلى الرغم من أن هذه الاتهامات استندت إلى مبررات قوية، تتمثل في عدم قدرة النظام الحاكم على حماية الشعب التركي من الحرائق؛ فإنها هدفت في الوقت ذاته إلى التأثير سلباً على نسبة التأييد الداخلي للنظام الحالي، الذي يخوض انتخابات رئاسية وتشريعية في غضون عامين. 

وفي السياق ذاته، واجهت الحكومة الجزائرية انتقادات حادة من جانب أحزاب المعارضة في البلاد؛ بسبب عدم اتخاذ أي تدابير استباقية من طرف السلطات المعنية، بالإضافة إلى عدم استخلاص الدروس من الحرائق التي اجتاحت الجزائر في السنوات السابقة. وربما هذا ما يفسر حرص الرئيس تبون، على الإعلان بنفسه، في 12 أغسطس الجاري، عن إلقاء القبض على 22 شخصاً مشتبهاً فيهم في حرائق الغابات، وتأكيده مرة أخرى أنه تقف وراءها "أياد إجرامية"، في محاولة لتخفيف حدة اللوم الذي تواجهه الحكومة الجزائرية وتحميلها مسؤولية عدم الاستعداد المسبق في التعامل مع هذه الحرائق. وكان لافتاً في هذا السياق حديث تبون عن "ضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية والتصدي لكل المغرضين الذين يعملون على بث الفرقة بين الجزائريين".

3- الطابع المتزامن للحرائق: يمكن القول إن اندلاع الحرائق في بعض دول المنطقة بشكل متزامن وفي أماكن مختلفة وبعيدة عن بعضها، فضلاً عن تركزها في بعض المناطق التي يصعب الوصول إليها؛ دفع بعض الحكومات إلى ترجيح "نظرية المؤامرة". فعلى سبيل المثال، وصل عدد الحرائق في الجزائر إلى 99 حريقاً عبر 16 ولاية، ووقع معظمها في منطقة القبائل الجبلية التي يَصعُب الوصول إليها. 

وعلى الرغم من الانتقادات الحادة التي وجهتها المعارضة إلى النظام الجزائري، فإن الطابع التسلسلي والمتزامن للحرائق، دفع بعض جبهاتها، مثل جبهة القوى الاشتراكية، إلى عدم استبعاد ما أسمته "مقاصد إجرامية مشبوهة لأصحاب المخططات الدنيئة التي تستهدف الوطن والشعب"، ومطالبتها بفتح تحقيق جدي وفوري عن الملابسات والأسباب الكامنة وراء هذه الحرائق المتكررة، وإطلاع الرأي العام على نتائجها، مع أخذ إجراءات صارمة ضد المتسببين فيها.

4- توظيف أزمة الحرائق في صراعات داخلية: كشف عن ذلك، مثلاً، التصريح المثير للجدل الذي أدلى به رئيس بلدية عندقت في لبنان، عمر سعود، بقوله إن "حرائق عندقت والقبيات مفتعلة، وإنه قد يكون أحد أسبابها هو تهجير أهل المنطقة بعدما عجزت الحروب عن ذلك"، وهو التصريح الذي بسببه وجهت له اتهامات بإثارة فتنة طائفية، ما استدعى توضيحاً لاحقاً من سعود عبر بيان، أكد فيه أن ما كان يقصده هو أن الحرائق التي شهدتها لبنان مفتعلة فقط.

وفي تونس، على الرغم من أن الرئيس قيس سعيد لم يحدد ماهية الأطراف المسؤولة عن اندلاع الحرائق، فإن البعض لم يستبعد أن يكون الهدف الرئيسي من تورط بعض الجهات في إشعال هذه الحرائق، هو تفاقم الأزمات والتحديات الداخلية التي يواجهها الرئيس سعيد في المرحلة الحالية بعد القرارات الاستثنائية التي اتخذها في 25 يوليو الماضي.


انعكاسات مضادة:

على الرغم من تعدد الروايات الرسمية التي تبنتها حكومات بعض دول المنطقة بشأن تحميل أطراف أخرى مسؤولية اندلاع الحرائق، فإنه من الصعب أن تصمد هذه الروايات، كما أنها لم تلق صدىً إيجابياً داخلياً في هذه الدول، على الأقل لسببين رئيسيين، هما:

1- إن ما شهدته بعض دول المنطقة، هو جزء من كل، ولم يكن مشهداً حصرياً خاصاً بها فقط، فقد اندلعت الحرائق في العديد من الدول في قارات (آسيا وأوروبا وأفريقيا وأمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية)، مما يصعب معه التغاضي عن الأسباب المرتبطة بالتغيرات المناخية، والتسليم بأن ما شهدته دول المنطقة كان "مفتعلاً"، وإن كان من غير المستبعد أن تثبت التحقيقات فيما بعد تورط جهات ما، ربما تعمدت استمرار الحرائق أو تجددها لأطول فترة ممكنة، لتحقيق أهداف مرتبطة بصراعات أو خصومات سياسية أو غيرها.

2- إن الروايات الرسمية بشأن افتعال الحرائق لم تُسهِم في خفض حدة الانتقادات الشديدة التي ضجت بها وسائل التواصل الاجتماعي في الدول التي شهدت الحرائق، بل على العكس، حمَّلت ردود الفعل الداخلية حكومات دول المنطقة المسؤولية الكاملة، سواء من حيث عدم الاستعداد المسبق للأزمة، أو من حيث الإدارة غير الرشيدة لها. فعلى سبيل المثال، بعد أن تداولت وسائل إعلام موالية للرئيس التركي، أردوغان، أنباءً عن تورط مقاتلين من حزب العمال الكردستاني في حرائق البلاد، اضطرت لاحقاً إلى حذفها بعد تعرضها لموجة من السخرية والانتقادات الداخلية، لاسيما أن المناطق التي شهدت الحرائق تقع جنوب وجنوب غرب تركيا، بينما المناطق الكردية تقع جنوب شرق تركيا.

الخلاصة، يمكن القول إن تبني "نظرية المؤامرة" في تفسير اندلاع الحرائق التي شهدتها بعض دول المنطقة، يمكن النظر إليه على أنه وسيلة للهروب من هذه الأزمة، وعدم الرغبة، أو عدم القدرة على تحمل تبعاتها، سواء من حيث حدة الانتقادات الداخلية بسبب الإدارة السيئة للأزمة، أو من حيث توظيفها سياسياً من قِبل قوى المعارضة. ولكن كل هذا لا ينفي مسؤولية الحكومات في بعض دول المنطقة عن الإخفاق أو أوجه القصور التي شابت إدارتها لأزمة الحرائق.

وعلى صعيد آخر، فإن التقديرات الدولية التي تُحذِر من تأثيرات أشد خطورة للتغيرات المناخية خلال السنوات القادمة، وما قد يترتب عليها من تضاعف مساحات المناطق المُعرضة لخطر اندلاع الحرائق؛ يجب أن تكون بمنزلة جرس إنذار خطير لدول المنطقة، على نحو يفرض عليها الاستعداد المسبق والجيد لمواجهة أزمات مستقبلية مماثلة.