حرصت إيران خلال الفترة الأخيرة على توجيه رسائل إلى القوى الإقليمية والدولية المعنية بأزمات المنطقة تفيد أن نفوذها الإقليمي في المنطقة مستمر ويتصاعد رغم كل الضغوط التي تتعرض لها، على خلفية العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية ضدها منذ انسحابها من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018. ومن دون شك، لا يمكن فصل ذلك عن مجمل التطورات التي طرأت على الساحتين الإقليمية والدولية خلال الفترة الأخيرة وكانت لها علاقة بالتصعيد الحالي بين واشنطن وطهران، والذي امتد إلى كل الملفات، وفي مقدمتها البرنامج النووي والصواريخ الباليستية والدور الإقليمي.
اعتبارات عديدة:
كان لافتًا أن إيران أبدت اهتمامًا واسعًا بالزيارة التي قام بها زعيم التيار الصدري في العراق مقتدى الصدر، ومشاركته في مراسم عزاء ليلة الحادية عشر من محرم التي حضرها المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي، في 10 سبتمبر الجاري. إذ أشارت اتجاهات إيرانية عديدة إلى أن هذه المشاركة، التي حظيت بتغطية إعلامية بارزة، جاءت عقب تطورات عديدة منها الزيارة التي قام بها الرئيس السوري بشار الأسد إلى طهران، في 25 فبراير 2019، وبعدها اللقاءات التي جمعت بين خامنئي ووفد من حركة "حماس" برئاسة نائب رئيس المكتب السياسي صالح العاروري في 22 يوليو الماضي، ثم وفد من حركة "الحوثيين" المتمردة برئاسة المتحدث باسمها محمد عبد السلام، في 13 أغسطس الفائت.
كما توازت تلك الزيارة مع تصريحات جديدة أدلى بها الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله، في 10 سبتمبر الجاري، أكد فيها ارتباطه بإيران وولائه للمرشد خامنئي. وتوافق ذلك في مجمله مع إطلاق حركة "حماس"، في 10 سبتمبر الجاري، صاروخًا على مدينة اشدود خلال مهرجان انتخابي شارك فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو استعدادًا للانتخابات التي سوف تجرى في 17 من هذا الشهر، على نحو أدى إلى إجلاءه من المكان سريعًا.
ويمكن القول إن إيران سعت إلى إبراز تلك التطورات في هذا التوقيت تحديدًا لاعتبارات عديدة، يتمثل أبرزها في:
1- رسائل مضادة: حاولت إيران، عبر إلقاء الضوء على زيارة مقتدى الصدر ومشاركته في هذه المناسبة، توجيه رسائل تفيد أن مجمل التكهنات التي تشير إلى وجود خلافات واسعة بين الصدر وطهران لا تتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض. إذ اعتبرت اتجاهات عديدة في الفترة الماضية أن مقتدى الصدر يسعى إلى الاحتفاظ بمسافة في علاقاته مع إيران، على عكس القوى السياسية والميليشيات الشيعية العراقية الأخرى. ورغم أن ذلك لا يمكن تجاهله بالفعل، إلا أنه لا ينفي في الوقت نفسه أن الصدر كان حريصًا على تأسيس علاقات قوية مع النظام في طهران، باعتبار أن نفوذه في العراق وموقع تياره على خريطة القوى السياسية سوف يرتبط، في قسم منه، باتجاهات علاقاته مع طهران.
وهنا، لا يمكن إغفال أن تلك الزيارة جاءت في وقت يتعرض فيه النفوذ الإيراني في العراق لضغوط قوية، على خلفية الضربات العسكرية التي تستهدف مواقع تابعة للميليشيات الشيعية الموالية لطهران، ولا سيما ميليشيا "الحشد الشعبي"، والتي تنسب في مجملها إلى إسرائيل. كما أنها تأتي في الوقت الذي تبدي إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اهتمامًا بمتابعة هذا النفوذ بالتوازي مع توجيهها تحذيرات من العواقب التي يمكن أن تترتب على استهداف مصالحها في العراق سواء من قبل إيران بشكل مباشر أو عبر وكلائها من الميليشيات الشيعية.
2- استغلال إقالة بولتون: لم تكتف طهران بإبداء ترحيبها بالقرار الذي اتخذه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 10 سبتمبر الحالي، بإقالة مستشار الأمن القومي جون بولتون من منصبه، بل إنها سعت إلى ترويج مزاعم بأن أحد الأسباب التي دفعت في هذا الاتجاه هو عدم قدرة الإجراءات التي اتخذتها واشنطن على احتواء دورها في المنطقة، بالتوازي مع التصعيد في الاتفاق النووي.
ومن هنا، يبدو أن إيران سوف تتجه خلال المرحلة القادمة إلى إبراز دورها بشكل كبير في الملفات الإقليمية المختلفة، لا سيما أنها ترى، حسب رؤية اتجاهات عديدة، أن خيار الحرب مع واشنطن بات بعيدًا بعد إقالة بولتون، الذي كان يدفع في هذا الاتجاه، حسب تصريحات المسئولين الإيرانيين وفي مقدمتهم وزير الخارجية محمد جواد ظريف.
3- توسيع المواجهة مع إسرائيل: حاولت إيران الرد على الضربات العسكرية التي نسبت إلى إسرائيل واستهدفت مواقع تابعة للميليشيات الحليفة لها في العراق وسوريا ولبنان خلال الفترة الأخيرة، بتأكيد أن أية مواجهة محتملة ومباشرة معها سوف تدفع طهران إلى الإيعاز لتلك الميليشيات بالانخراط فيها، على نحو سوف يساهم في توسيع نطاق المواجهة بشكل قد لا يتوافق مع الحسابات الأمنية لتل أبيب.
4- تحسين شروط التفاوض: لا يمكن فصل محاولات إيران إبراز نفوذها في المنطقة عن حرصها على تحسين موقعها التفاوضي قبل أن تقبل بخيار التفاوض مع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. فرغم أن إيران ما زالت تبدي، على الأقل علانية، رفضًا لدعوات التفاوض سواء التي وجهتها الولايات المتحدة الأمريكية أو التي طرحت بالتوازي مع جهود الوساطة التي تقوم بها فرنسا، إلا أنها لم تعد تستبعد هذا الخيار كلية، خاصة في ظل التداعيات القوية التي تفرضها العقوبات الأمريكية عليها، والتي أدت إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية الداخلية التي تواجهها إيران في الوقت الحالي دون أن تنجح السياسات التي اتخذتها الحكومة في تقليص حدتها.
وقد أشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 12 سبتمبر الجاري، إلى أن "إيران تريد عقد لقاء معنا". ويبدو أن ذلك يرتبط بجهود الوساطة التي تبذلها فرنسا، والتي هيأت مجالاً لتبادل رسائل بين الطرفين، خاصة بعد انعقاد قمة مجموعة السبع في بياريتز، خلال الفترة من 24 إلى 26 أغسطس الفائت.
وقد توازى ذلك مع إصرار طهران على اتخاذ خطوة ثالثة بتخفيض مستوى التزاماتها النووية، في 6 سبتمبر الجاري، من خلال رفع القيود المفروضة على البحث والتطوير في برنامجها النووي.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن إيران سوف تسعى خلال المرحلة القادمة إلى مواصلة الترويج لدورها في المنطقة، بالتوازي مع استمرار التصعيد مع الولايات المتحدة الأمريكية، استعدادًا للخيار الذي تفضله، رغم رفضها العلني له، وهو التفاوض مع واشنطن.