تشهد الأزمة اليمنية تحولات دراماتيكية في الآونة الأخيرة، بعد إجبار الحوثيين الرئيس عبد ربه منصور هادي على الاستقالة من منصبه، وسيطرتهم على كافة مفاصل الدولة، حيث انقلبت هذه الجماعة على المسار الديمقراطي، وأصدرت ما يسمى "إعلاناً دستورياً" في السادس من فبراير الجاري لإدارة البلاد، شمل حل البرلمان وتشكيل مجلس بديل من 551 عضواً يقوم بانتخاب مجلس رئاسي مكون من خمسة أفراد تحت رقابة "اللجنة الثورية" الحوثية، ويقوم أعضاء المجلس بترشيح شخصية لرئاسته، وحدد الإعلان الدستورى المرحلة الانتقالية في اليمن بعامين, يجري بعدها التصويت على مسودة الدستور بعد تعديلها, ثم إجراء الانتخابات.
ونظراً لما تنطوي عليه هذه التطورات من انقلاب حقيقي على السلطة الشرعية في اليمن، وإلغاء تفاصيل العملية السياسية التي كانت جارية في البلاد، فإن الأمر يقتضي قراءة في جذور الأزمة اليمنية، وأسباب تفاقمها، وتداعياتها الإقليمية، خاصةً على أمن الخليج تحديداً، وصولاً إلى استشراف مستقبل الأوضاع في اليمن.
ثلاثة جذور للأزمة اليمنية
يتطلب فهم المشهد السياسى اليمني المعقد, ومحاولة فك طلاسمه، الرجوع خطوات قليلة إلى الوراء، للتعرف على التحديات الداخلية التي تعد بمثابة جذوراً للأزمة، والتي أدت بدورها إلى توتر الأوضاع وتأزم الموقف الراهن. وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى ثلاثة تحديات رئيسية عانت منها اليمن، وهي:
1- التناحر بين التيارات السياسية: يعد واحداً من أهم العناصر المهددة للاستقرار السياسي في اليمن, إذ يشهد المسرح اليمني طيفاً واسعاً من القوى المتنافسة للسيطرة على الحياة السياسية والأمنية والاقتصادية, والتي أصبح الأمر بالنسبة لهم بمثابة "مباراة صفرية النتائج". والشخصية المهيمنة في هذه الصراعات هي الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح الذي حصل على العفو الكامل خلال انتقال السلطة, ما مكنه من الحفاظ على الكثير من نفوذه حتى بعد خروجه من الحياة السياسية، خاصةً في ظل امتلاكه وعائلته شبكة من الموالين يتولون مناصب بارزة في الحكومة والجيش والقيادات القبلية.
2- التدهور الاقتصادي: تعتبر اليمن أفقر بلدان العالم العربي، فمنذ بداية احتجاجات عام 2011, شهد الوضع الاقتصادي بها مزيداً من التدهور, بعد أن أصبحت منشآت النفط هدفاً مفضلاً للجماعات الإرهابية. كما أضرت الاضطرابات السياسية النسيج القبلي الهش الذي يعد بمثابة دعامة للاستقرار الاقتصادي, وفى عدة حالات اشتعلت المواجهات القبلية من أجل السيطرة على الموارد المتضاءلة.
ومن هنا, فإن الاعتبارات الاقتصادية كانت عقبة خطيرة في برنامج الفيدرالية, وذلك مع تخوف الشمال والجنوب من أن الحدود المقترحة صُممت لانتهاك حقوقهم الاقتصادية.
3- تمرد الشمال والجنوب: تُهدد طموحات تقرير المصير للانفصاليين في الشمال والجنوب بالأساس استقرار وتكامل اليمن. ففي الشمال, واجهت اليمن تمرداً شيعياً واسع النطاق يقوده الحوثيون، متمركزين في إقليم صعدة منذ عام 2004، وقد أعرب الحوثيون عن رفضهم للنظام الفيدرالي المقترح، معتبرين أنه محاولة لتدمير قدرتهم الاقتصادية وتقويض نفوذهم.
وبخلاف الصراع في الشمال, يحدق الخطر بوحدة اليمن من الجنوب، فمنذ أوائل التسعينيات, مثلت الوحدة بين الشمال والجنوب مصدراً لعدم الاستقرار، إذ خلقت هيمنة الشمال في اليمن الموحدة الشعور بالتهميش من قِبل الجنوبيين. وقاد ذلك عام 1994 إلى حرب أهلية بين الشمال والجنوب. وقد أعطت الموجة الثورية عام 2011 فرصة أخرى للجنوبيين للانفصال، ومثَّلت طموحاتهم الانفصالية عاملاً أساسياً في قرار مؤتمر الحوار الوطني لتحول اليمن إلى النظام الفيدرالي.
أسباب التصعيد الراهن
شهد منحنى الأزمة اليمنية صعوداً باتجاه الفوضى وعدم الاستقرار عندما استولى المتمردون الحوثيون على العاصمة صنعاء في سبتمبر 2014، إلا أن السبب الرئيسي في الأزمة الراهنة كان عرض مشروع الدستور يوم 17 يناير الماضي، إذ نصت المادة 391 من مسودة الدستور على تقسيم الدولة اليمنية الاتحادية في المستقبل إلى ست مناطق فيدرالية, وهو التقسيم الذي رفضه الحوثيون بالرغم من أنهم لا يرفضون النظام الفيدرالي في حد ذاته, ولكنهم يرفضون تقسيم منطقة الشمال التي يسعون للسيطرة عليها إلى ثلاث مناطق فيدرالية مختلفة.
وفي اليوم الذي قُدمت فيه مسودة الدستور، خطف الحوثيون "أحمد عوض بن مبارك" - مدير مكتب الرئيس عبد ربه منصور هادي-، وفي الأيام التي تلت ذلك تصاعد الوضع في صنعاء، وقام المقاتلون الحوثيون باحتلال القصر الرئاسي. وعند قيامهم بذلك حصلوا على دعم من الوحدات العسكرية الموالية للرئيس الأسبق علي عبد الله صالح.
ورغم توصل الرئيس منصور هادي إلى اتفاق مع الحوثيين يوم الأربعاء 21 يناير، من بين بنوده إعادة النظر في مسودة الدستور، وأن يحصل بعض الحوثيين المعينين على وظائف في الوزارات في مقابل الإفراج عن أحمد عوض بن مبارك، وانسحاب الحوثيين من القصر الرئاسي، فإن الحوثيين انقلبوا على ذلك وحاصروا منزل الرئيس، فقدم هادي استقالته مساء اليوم التالي، وذلك بعد وقت قصير من تقديم الحكومة استقالتها، كي "لا تكون طرفاً في ما يجري من أحداث".
دلالات الانقلاب الحوثي
ثمة دلالات عكستها الخطوة الانقلابية التي قام بها الحوثيون مؤخراً من خلال إصدار ما أسموه "الإعلان الدستوري، ومنها الآتي:
1- الانحراف عن المسار الديمقراطي: فالإعلان لا يتضمن أي علاقة بالدستور بما يحرف عملية التحول الديموقراطي عن مسارها، وينهي الطبيعة السلمية للثورة اليمنية، ويقوض أسس الشراكة السياسية. كما أن هذا "الإعلان الانقلابي" جعل للحوثيين الولايتين الدينية والسياسية؛ "الولاية الدينية" لعبد الملك الحوثي، و"الولاية السياسية" لمحمد الحوثي.
2- سيطرة "اللجان الثورية": أطلق هذا الإعلان المزعوم، ما يطلق عليها “اللجان الثورية”، وهي قوات الحوثيين، في معظم مقررات بنوده؛ وهو ما يعني أن الحاكم الفعلي سيكون "اللجان الثورية" التي يرأسها محمد الحوثي، وبالتالي سيكون أعضاء مجلس الرئاسة والمجلس الوطني تحت رحمة لجان الحوثيين.
3- دور "علي عبد الله صالح" في الانقلاب: ثمة اتهامات للرئيس الأسبق صالح بأن له دوراً كبيراً في الانقلاب الأخير، وأن قادته العسكريين صامتون لتحين اللحظة المناسبة لاندلاع صراع بين الحوثيين والمكونات السياسية السنية والقبائل؛ بحيث يُمكنهم التدخل حينئذ، ووضع القوى السياسية والإقليمية بين خيارين: إما الحرب الأهلية بنكهة طائفية ومناطقية، أو القبول بصالح وحزب المؤتمر كخيار وحيد لإدارة المرحلة.
4- الحراك الشعبي ضد الحوثيين: فالقبائل في مأرب وسبأ وحضرموت وعدن وتعز وصنعاء، رفضت الاعتراف بقرارات الحوثيين، وخرجت مسيرات لتقول "لا للانقلاب"، وأكدت تمسكها بمخرجات مؤتمر الحوار، محذرة من أن الإعلان الدستوري للحوثيين قد يقود لحرب أهلية، وطالبت دول مجلس التعاون الخليجي بعدم التخلي عن اليمن.
5- الرفض الدولي: فقد أغلقت العديد من الدول العربية والغربية سفاراتها في اليمن بعد انقلاب الحوثيين، كما أقر مجلس الأمن يوم 15 فبراير الجاري قراراً بالإجماع يدين استيلاء الحوثيين على السلطة، وطالبهم برفع الإقامة الجبرية عن الرئيس عبد ربه منصور هادي ورئيس الوزراء خالد بحاح، كما أدان استعمال القوة ضد التظاهرين السلميين.
التداعيات الإقليمية للأزمة اليمنية
تطرح الأوضاع السياسية والأمنية غير المستقرة في اليمن العديد من التساؤلات حول ماهية الدور الذي تلعبه قوى إقليمية في الدفع بتلك الأزمة؛ وفي مقدمتها إيران الفائز الوحيد منها، فعند الحديث عن التدخلات الخارجية في الفوضى اليمنية، دائماً ما يُشار إلى الدور الإيراني, في ظل ربط تمرد الحوثيين بالتوجه الإيراني الهادف إلى تعزيز دور طهران الإقليمي من خلال دعم الأقليات الشيعية, بما يخدم البعد الاستراتيجي الإيراني في المنطقة.
ومما لا شك فيه أن ما يحدث في اليمن يمثل تهديداً مُباشراً لأمن المنطقة، لاسيّما دول الخليج ومصر، وذلك نتيجة تهديد المجرى الملاحي في مضيق باب المندب، وهو الأمر الذي يعني تحكم الحوثيين – ومن خلفهم داعمهم إيران - في حركة البترول من دول الخليج للعالم الخارجي، فضلاً عن وجود خطورة على حركة الملاحة في قناة السويس. أما الفوضى اليمينة فتطرح تحديات إضافية أمام المملكة العربية السعودية التي تكاد تحاط بأزمات من الجنوب (اليمن) ومن الشمال (داعش العراق)، فالانقلاب الحوثي الكامل أصبح يمثل مشكلة ضخمة أمام أمن دول المنطقة برمتها.
ويمكن القول إن خطورة الانقلاب في اليمن يتمثل في كونه "ورقة إيرانية" لابتزاز دول الخليج والسعودية تحديداً باعتبارها منافساً إقليمياً، وكذلك ابتزاز واشنطن في عدة ملفات، ومنها الملف النووي، خاصةً أن أنصار إيران (الحوثيين) استولوا على بعض الأجهزة الأمنية التي كانت توفر المعلومات الاستخباراتية اللازمة للهجمات الأمريكية ضد تنظيم "القاعدة" في اليمن.
ومن ناحية أخرى، فإن الاضطرابات اليمنية تتيح لتنظيم "القاعدة فرصة التقاط أنفاسه، وربما يستغل الأحداث الجارية، ويُفاجئ العالم باحتلال مدينة مأرب، وإحكام السيطرة عليها، وإعلان "دولة القاعدة" في الجزيرة العربية، والتحالف مع "داعش" وغيرها من التنظيمات الإرهابية.
مستقبل الأزمة اليمنية
ثمة مخاوف حقيقية من انزلاق اليمن بسرعة كبيرة نحو الفوضى القاتلة وتحوله إلى دولة فاشلة أخرى يعمّها العنف في الشرق الأوسط. وما يعزز ذلك أن الشعب اليمني يعاني من البطالة والقهر وسوء الأوضاع المعيشية, ومن السهل استقطابه للقتال في صفوف تنظيمات متطرفة.
وبالتالي، فإنه في حال عدم تحرك المجتمع الدولي لوضع حد لممارسات الحوثيين ومنع طهران من مواصلة أدوارها التخريبية في اليمن، فإن الأزمة اليمنية ستكون مُقبلة على مزيدِ من التصعيد، بحيث يوجد سيناريوهان كلاهما سيؤدي إلى زيادة الصراعات الحالية داخل اليمن، والتي قد تتطور إلى صراعات إقليمية.
أولها "سيناريو الحرب الأهلية"، حيث تخرج كل الأطراف حاملة السلاح في محاولة لحصول كل منها على موقع داخل مفاصل الدولة المنهكة. والسيناريو الثاني مترتب على الأول وهو "الانفصال"، بعد أن تفقد كل محافظة ومنطقة أملها في الارتباط بدولة مركزية، وذلك سيدفع القبائل إلى المحافظة على مناطقها خالية وبعيدة عن نفوذ أي قبيلة أو جماعة تحاول الهيمنة عليهم.
وفي هذا الصدد، يُعد التدخل العسكري في اليمن مستبعداً في الفترة الحالية على الأقل، لأسباب عدة، وهي:
1- اعتراض روسيا على اتخاذ مجلس الأمن قراراً تحت البند السابع والخاص باستعمال القوة لإعادة الأمور إلى مسارها الصحيح في اليمن.
2- الدول الغربية ستتفادى تورط السعودية وإيران بشكل مباشر في المواجهة المسلحة باليمن، لأن ذلك سوف يترتب عليه نتائج اقتصادية سلبية، أبرزها ارتفاع أسعار النفط في السوق الدولية، نظراً لما تمثله كل من الرياض وطهران من ثقل في إنتاج النفط بمنطقة الشرق الأوسط.
3- انشغال مصر بالجبهة الداخلية، ومواجهة الخطر "الداعشي" على الحدود الليبية بعد مقتل 21 مصرياً على يد هذا التنظيم الإرهابي.
4- التحالف الدولي مازال عاجزاً حتى اللحظة - وربما على المدى القريب - عن القضاء على تنظيم "داعش"، أو الحد من نفوذه في العراق وسوريا.
5- توجيه ضربات جوية للمناطق والمنشآت التي يسيطر عليها الحوثيون، قد لا يُنهي الصراع في اليمن، بل ربما تتحول ساحة الصراع الداخلي إلى حرب عصابات.
وفي هذه الحالة ستُشل الحياة الاقتصادية في اليمن أكثر مما هي عليه الآن، كما يخشى أن تُستهدف منشآت النفط كنوع من الانتقام من قِبل الحوثيين إذا ما استشعروا أن الضربات الجوية تستهدف إبادتهم، وهو ما يعني فقدان اليمن أهم المرافق الاقتصادية.