جاء إعلان رئيس الوزراء اللبناني "سعد الحريري" استقالته في 4 نوفمبر 2017، كاشفًا عن تفاقم التوترات المكتومة في الداخل اللبناني، والتصعيد المتبادل بين القوى الإقليمية، إذ تنطوي استقالة الحريري على رسائل ضمنية من بينها الاحتجاج على سياسات الأمر الواقع التي اتّبعها "حزب الله" اللبناني داخليًّا، ورفض اتجاهات توريط لبنان في الصراعات الأهلية في سوريا والعراق، وتصدع "تسوية الحريري-عون"، بالإضافة إلى محاولة تجنب تحميل لبنان تكلفة قيام "حزب الله" بدور الوكيل في تطبيق السياسات الإيرانية التوسعية في منطقة الشرق الأوسط.
دلالات التوقيت:
تزامنت استقالة "سعد الحريري" من رئاسة الوزراء مع عدة تطورات داخلية وإقليمية ذات دلالات مهمة تتمثل فيما يلي:
1- مرور عام على اتفاق الحريري-عون: جاءت استقالة الحريري بعد مرور عام تقريبًا على اتفاق الحريري-عون في 2016، الذي أنهى فترة الشغور الرئاسي التي امتدت قرابة عامين وأربعة أشهر؛ حيث تم التوافق على انتخاب "ميشيل عون" المدعوم من "حزب الله" رئيسًا للجمهورية اللبنانية بعد موافقة زعيم تيار المستقبل "سعد الحريري".
وتكشف الاستقالة عن وجود مراجعة للاتفاق من جانب "الحريري" وتيار المستقبل، وأن كشف الحساب الأوّلي الذي تم إجراؤه بعد عام من الاتفاق أكد وجود مخالفات واضحة لبنوده الرئيسية، يتصدرها عدم التزام "حزب الله" وحلفائه ببنود التسوية، خاصة في ظل تصاعد التهديدات لسيادة الدولة اللبنانية والمؤسسة العسكرية، وتصاعد تدخلات "حزب الله" في بؤر التوترات الإقليمية.
2- تصاعد التوترات بين "حزب الله" وإسرائيل: لا تنفصل استقالة "الحريري" عن تجدد التوترات المكتومة بين "حزب الله" وإسرائيل، وتصاعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية إلى لبنان نتيجة تعزيز "حزب الله" لقوته العسكرية وتطويره لترسانته الصاروخية، وسعيه للحصول على "سلاح كاسر للتوازن"، على حد تعبير قياداته. ويرتبط ذلك بتوجيه إسرائيل ضربات جوية متتالية لشحنات الأسلحة التابعة للحزب على الحدود السورية-اللبنانية، وهو ما يزيد المخاوف من احتمالات تورط لبنان في مواجهة عسكرية غير محسوبة، خاصة في ظل تصدي قوات الدفاع الجوي التابعة للجيش السوري للهجمات الجوية الإسرائيلية الأخيرة.
3- تصاعد انخراط "حزب الله" في سوريا: تُعد استقالة الحريري بمثابة احتجاج ضمني على محاولات "حزب الله" وحلفائه توريط لبنان في الصراع السوري، وهو ما كشفت عنه صفقات "حزب الله" مع تنظيم "داعش" و"جبهة فتح الشام" (النصرة سابقًا) في أغسطس 2017 والتي أثارت احتجاجات واسعة النطاق في الداخل اللبناني لتعديها على دور الجيش اللبناني في حماية أمن الحدود الوطنية، وجددت المطالبات بضرورة إنهاء "الازدواجية العسكرية" في لبنان.
وعلى مستوى آخر، ترتبط الاستقالة بجهود "حزب الله" وحلفائه لتعزيز العلاقات الرسمية مع النظام السوري، والتي كان من بينها لقاء وزير الخارجية اللبناني "جبران باسيل" مع وزير خارجية النظام السوري "وليد المعلم" في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 سبتمبر 2017.
4- التوافق الإقليمي والدولي على تحجيم "حزب الله": تؤكد العديد من المؤشرات وجود توافق إقليمي ودولي على تحجيم دور "حزب الله"؛ حيث دعا تقرير الأمين العام للأمم المتحدة "أنطونيو جوتيريش"، الصادر في أكتوبر 2017، إلى "نزع سلاح "حزب الله"، لأن تورطه في المنطقة يهدد الاستقرار". كما أقر الكونجرس الأمريكي حزمة عقوبات جديدة على الحزب في 25 أكتوبر 2017 تضمنت حظرًا على إمداده بالسلاح.
وعلى المستوى الإقليمي، عبرت تدوينات وزير الدولة السعودي لشئون الخليج العربي "ثامر السبهان" عبر حسابه على موقع "تويتر" في سبتمبر 2017 عن الرفض السعودي لتصرفات حزب الله؛ حيث هاجم السبهان ارتباط "حزب الله" بالتنظيمات الإرهابية، وقيامه بجرائم ضد الإنسانية في سوريا بدعم من إيران، ولا ينفصل ذلك عن تورط "حزب الله" وإيران في قضية "خلية العبدلي" في الكويت.
وكشفت المؤشرات سالفة الذكر عن خلاصة واحدة مفادها تصاعد تهديدات "حزب الله" للاستقرار داخليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، وإصراره على اتخاذ الدولة اللبنانية غطاءً لتنفيذ هذا الدور الإقليمي، على الرغم من كل محاولات إدماجه والتعامل معه كحزب سياسي، والتغاضي عن الممارسات العنيفة التي تورط فيها بفترات سابقة.
عودة حالة 2005:
ركز خطاب الاستقالة الذي ألقاه "سعد الحريري" عبر قناة "العربية" على الدور الذي قام به "حزب الله" في تفجير التوترات والانقسامات في الداخل اللبناني؛ حيث أكد أن الحزب "خلال العقود الماضية استطاع فرض أمر واقع في لبنان بقوة سلاحه الذي يزعم أنه سلاح مقاومة، وهو الموجَّه إلى صدور السوريين واليمنيين، فضلًا عن اللبنانيين"، وأنشأ "دولة داخل الدولة، وسيطر على جميع مفاصلها".
واعتبر الحريري أن الحزب لا يعدو كونه "الذراع الإيراني، ليس في لبنان فحسب؛ بل في البلدان العربية".
وركزت انتقادات الحريري على التدخلات الإيرانية في لبنان والدول العربية؛ حيث أشار إلى سياسات إيران العدوانية في المنطقة العربية، واتهم "حزب الله" بتوريط لبنان في الصراعات الإقليمية، وتفجير "عداوات لا طائل منها" مع الدول العربية، ومحاولة "خطف لبنان من محيطه العربي والدولي".
بيد أن الأمر اللافت في خطاب "الحريري" تَمَثَّل في المقاربة بين الأوضاع الحالية في لبنان والفترة التي سبقت اغتيال والده رفيق الحريري عام 2005، والإشارات المتتالية إلى وجود محاولات خفية لاستهداف حياته، وتهديد أمنه الشخصي.
كما تم الكشف لاحقًا عن تعطيل أبراج المراقبة في موكب "سعد الحريري" أثناء التنقل داخل لبنان، وهو ما يؤكد تزايد احتمالات تجدد الاغتيالات السياسية التي ارتبطت بتفاقم الانقسامات الداخلية والاستقطاب الإقليمي حول لبنان، وهو ما دفع "سعد الحريري" إلى تأمين خروجه من لبنان لتفويت الفرصة على محاولات إعادة لبنان إلى مرحلة عدم الاستقرار السياسي والأمني التي أعقبت اغتيال "رفيق الحريري" في عام 2005، والتي كادت أن تؤدي إلى تفجر مواجهات داخلية غير محسوبة بين التيارات اللبنانية.
حسابات الداخل والخارج:
ترجع استقالة "الحريري" من رئاسة الوزراء إلى عدة أسباب ترتبط بتعقيدات المعادلات الداخلية والإقليمية والدولية، وتتمثل أهم هذه الدوافع فيما يلي:
1- مخالفة مبادئ التسوية: حيث كان مبدأ "النأي بالنفس" عن الأزمة السورية هو أحد أهم بنود تسوية الحريري-عون، وأحد أهم الخطوط الرئيسية لسياسة الحكومة اللبنانية على المستوى الخارجي وفق ما تم الاتفاق عليه.
وعلى مدار عام كامل، لم يتم الالتزام بهذا المبدأ من جانب جبهة الثامن من آذار، حيث قام معظم وزراء هذا الفريق بزيارات رسمية إلى النظام السوري، وهو ما تسبب في احتجاج رئيس الوزراء "سعد الحريري"، خاصةً عقب لقاء وزير الخارجية اللبناني "جبران باسيل" (وهو صهر رئيس الجمهوري ميشيل عون) مع وزير خارجية النظام السوري "وليد المعلم"، وذلك دون استشارة أو إعلام رئيس الوزراء الذي أعلن عدم موافقته على هذا التصرف.
2- تصاعد التوترات الإقليمية: تُعد الأزمة الراهنة في لبنان بمثابة تطبيقٍ لما حَذَّرَ منه كتاب "حذارِ من الدول الصغيرة: لبنان ساحة معارك الشرق الأوسط"، الصادر في عام 2010، حيث أشار الكتاب إلى أن بعض هذه الدول قد تُشكِّل تهديدًا لأمن واستقرار القوى الإقليمية الكبرى، وهو ما يبدو واضحًا في حالة "حزب الله" الذي يسعى للهيمنة على لبنان، وتحويلها إلى مصدر لتهديد الدول العربية ضمن مشروع إيران الإقليمي.
وفي هذا الصدد، لم تقنع المقاربة التي تبناها رئيس الجمهورية اللبنانية الجديد حول سلاح "حزب الله"، الدولَ العربية التي صنَّفت الحزبَ كجماعة إرهابية، حيث برر "ميشيل عون" سلاح "حزب الله" باحتياج الدولة اللبنانية له في ظل "ضعف الجيش اللبناني"، وفي تصريحات أخرى اعتبر أن حل قضية سلاح الحزب مرهون بتطورات "الصراع العربي الإسرائيلي".
ومما زاد الأمور تعقيدًا، تصريحات الرئيس الإيراني "حسن روحاني" حول هيمنة طهران على مكامن صنع القرار في لبنان، وتصريحات مستشار المرشد الإيراني للشئون الدولية "علي أكبر ولايتي" خلال زيارته لبنان في 3 نوفمبر 2017، عن أن "الانتصارات التي تحققت في سوريا والعراق هو انتصار لمحور المقاومة"، بالتوازي مع التصعيد الخطابي من جانب "حزب الله" ضد عددٍ كبيرٍ من الدول العربية.
وقد أدى هذا السلوك المتمادي من قبل "حزب الله" ورعاته الإقليميين إلى ترجيح خيار المواجهة لدى الدول العربية، وهو ما تجلى في المواقف المعلنة لبعض المسئولين بالدول العربية، وتصريحات قيادات تيار المستقبل في لبنان حول اقتراب المواجهة مع "حزب الله"، وإعادة النظر في الشراكة السياسية معه.
المسارات المحتملة:
ستؤدي استقالة "الحريري" إلى تزايد تعقيدات الأوضاع في الداخل اللبناني، ومن المرجَّح أن يحكم خيارات القوى الداخلية والإقليمية اتجاهان رئيسيان:
1- إعادة إنتاج التسوية: ويتوقف هذا السيناريو على عقلانية وواقعية قيادة "حزب الله" والتحالف الذي يقوده، بالإضافة للحسابات الإيرانية، وتقوم هذه المقاربة على تقديم الحزب تنازلات متعددة لبناء الثقة، على غرار التنازلات التي قبلها "الحريري" سابقًا في اتفاق العام الماضي، وقد يكون في صدارة هذه التنازلات القبول بحكومة جديدة لا يكون الحزب ممثلًا فيها، وإعادة الاعتبار لمبدأ النأي بالنفس من خلال الانسحاب من سوريا، والكف عن التدخل في الشئون الداخلية للدول العربية.
2- تفجر الأزمات الداخلية: يُعد هذا السيناريو الأكثر سوءًا بالنسبة للدولة اللبنانية؛ حيث سيؤدي تعنت "حزب الله" واتجاهه للتصعيد إلى تفجر عدة أزمات دستورية وعسكرية.
فعلى الصعيد الدستوري، هناك احتمال بتشكيل حكومة أمر واقع محسوبة على "حزب الله" تتسبب في تفجر عدم الاستقرار في لبنان ومنطقة الشرق الأوسط، وتؤدي إلى تعطيل إجراء الانتخابات التشريعية المقبلة في مايو 2018، مما يتسبب في عرقلة عملية انتقال السلطة.
وعلى المستوى العسكري، قد يتسبب "حزب الله" في توريط لبنان في مواجهات عسكرية جديدة مع إسرائيل بسبب إصرار قيادة الحزب على تطوير ترسانتها العسكرية لبناء معادلة للردع في مواجهة تل أبيب، في مقابل سعي الأخيرة لاستباق هذه الاحتمالية وتوجيه ضربات استباقية لتدمير ترسانة الحزب، بالإضافة إلى تصاعد الضغوط الإقليمية والدولية على لبنان بسبب تدخلات "حزب الله" العسكرية في سوريا ولبنان واليمن وتهديداته لأمن الدول العربية.
ولا ينفصل ذلك عما ذكره "روبرت كابلان" في كتابه "انتقام الجغرافيا" حول الانعكاسات السلبية لسياسات إيران الإقليمية ورعايتها للإرهاب عبر تحالفها مع "حزب الله" على قوة إيران الإقليمية ذاتها، حيث أكد "كابلان" أن الدور الإقليمي لإيران سيظل محدودًا طالما اتبعت نفس السياسات العدوانية القائمة على تصدير الإرهاب التي تدفع دول الشرق الأوسط للتحالف لمواجهة تهديداتها الإقليمية.
وختامًا يمكن القول: إن استقالة الحريري بمثابة إنذار أخير لحماية الاستقرار الداخلي في لبنان التي تقوم بدور "الدولة الحاجز" عبر الفصل بين مصادر التهديد الإقليمية والمنطقة العربية، كما تؤكد الاستقالة وسياقاتها أن التصدي للسياسات العدوانية لإيران وحلفائها ورعايتهم للإرهاب لا يزال في صدارة أولويات الأمن الإقليمي بمنطقة الشرق الأوسط.