تعددت القراءات لمعركة عرسال - القلمون، إنها معركة جميع اللاعبين أو المتصارعين في المسرح السوري. ونتائجها تخدم كل الأطراف. مآل المنطقة إلى حضن النظام عاجلاً أم آجلاً يعزز سيطرته وسيطرة حليفيه الروسي والإيراني على المنطقة الممتدة من حدود لبنان الشرقية وحتى حلب ويرفع حظوظ طهران في ترسيخ نفوذها في «سورية المفيدة» إلى جانب موسكو. فقد ساء الجمهورية الإسلامية إبعاد ميليشياتها من الجبهة الجنوبية بعد اتفاق الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين على وقف النار في المنطقة الممتدة على طول الحدود مع إسرائيل والأردن وحتى المثلث الحدودي في التنف ومحيطها. شعرت بأن البساط يسحب تدريجاً من تحت قدمَيها. فلا بأس إذاً أن تؤكد حضورها والحصول على حصة في سوق توزيع مناطق بلاد الشام وتقاسمها. لذلك بدا أن قرار «تنظيف» هذه المنطقة اتخذه «حزب الله»، فهو لن يعود إلى الداخل خاوي الوفاض إذا قيض لتسوية سياسية أن ترى النور، أياً كان شكل هذه التسوية. بل لا يرغب ربما في إخلاء الساحة السورية ما لم تطمئن إيران إلى نفوذها في المشرق العربي كله، وما لم يطمئن هو أيضاً إلى توظيف نتائج المعركة في ترسيخ نفوذها الراجح في الداخل اللبناني.
والواقع بلدة عرسال، أو جرودها على الأقل، كانت حاضرة دوماً في خريطة الصراع منذ تدخل «حزب الله» في الحرب السورية عام 2012. فالبلدة السنية الأكبر شمال البقاع تشكل عقبة في طريق «انفتاح» السهل اللبناني ذي الغالبية الشيعية على الساحل السوري ذي الغالبية العلوية. لذلك كان الهدف الأول والأخير هو إزاحة هذه العقبة التي شكلت مدداً لمعارضي النظام الذين لجأوا إلى جرودها المتصلة بجرود القلمون الغربي. وتعني السيطرة على هذا الميدان ضمه كاملاً و «نظيفاً» إلى نفوذ دمشق وحليفيها حتى ريف حلب مروراً بحمص وحماة. وتصبح بمعنى آخر «منطقة آمنة» لهؤلاء الحلفاء. ويعني ذلك أن إيران مصممة على عدم إخلاء بلاد الشام، مهما تقدم التفاهم بين الولايات المتحدة وروسيا اللتين قضى اتفاق قمة هامبورغ بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، على منطقة هادئة أخرى بينهما تشمل ريف دمشق وبادية حمص. أي تأمين شروط إسرائيل التي تصر على إبعاد الحضور الإيراني عن حدودها مسافة ترى إليها ضرورة لأمنها. كما تحرص وواشنطن أيضاً على شمول «المنطقة الجنوبية» مطار دمشق. وهو هدف تسعى إليه واشنطن العازمة على قطع إمدادات السلاح والعتاد الإيرانيين من طهران إلى بيروت.
لكن معركة عرسال - القلمون لها وجه آخر أو قراءة أخرى. نتائجها تندرج في اتفاق الرئيسين ترامب وبوتين على ضرب كل القوى المتطرفة في سورية من «داعش» إلى «النصرة» وغيرهما من فصائل متشددة تعوق تفاهمهما على هدنة شاملة تسهل رسم حدود جديدة للخريطة الداخلية لبلاد الشام تبعاً لمكوناتها المختلفة، وتبعاً لمصالح الكبار الدوليين والإقليميين. لذلك ربط التوقيت أيضاً بتمهيد المسرح لقيام منطقة آمنة أخرى على غرار منطقة الجنوب، أو توسيع هذه لتشمل شرق العاصمة وريف حمص ومناطق أخرى وسط البلاد وشرقها. كل ذلك استعداداً لما بعد تحرير الرقة والبحث عن تسوية سياسية توقف الحرب في سورية. وتندرج المعركة أيضاً في سياق الحرب الدائرة منذ مدة بين فصائل في ريف العاصمة وأخيراً في شمال البلاد تتعدد ارتباطاتها الخارجية بين تركيا وقطر من جهة ودول خليجية أخرى. وهذه الدول لم تعترض على توسع النفوذ الروسي في بلاد الشام ما دام أنه يقلص نفوذ خصم عنيد هو الجمهورية الإسلامية التي في المحصلة النهائية لا تلتقي أجندتها في الإقليم مع أجندة موسكو.
لذلك طالت الاستعدادت لهذه المعركة ورافقها جدل في مسألة عودة التواصل الرسمي بين بيروت ودمشق وحرب نفسية وإعلامية وشحن مذهبي وعنصري متبادل بين مكونات لبنانية وبين بعضها وقوى ومنابر سورية. كانت هناك اعتراضات وتحذيرات وجهها أكثر من طرف دولي وإقليمي ومحلي. الولايات المتحدة حذرت من خوض الجيش اللبناني المعركة إلى جانب «حزب الله»، أو بالتنسيق الكامل بينهما. توعدت بوقف المعونات العسكرية واللوجستية التي تقدمها إلى المؤسسة العسكرية، وبوقف خطة لتطوير المطارات العسكرية في رياق والقليعات وحالات. وحذرت في المقابل، من التعرض لمخيمات النازحين السوريين في محيط البلدة الكبيرة، بعد مواجهة بين الجيش وعناصر مندسة في المخيمات وما تلا ذلك من انتقادات لأداء العسكر مع معتقلين. ومعروف أن واشنطن لا ترغب في دفع النازحين إلى ما وراء الحدود قبل قيام مناطق آمنة حقيقية تقيهم انتقام النظام. وكذلك فعلت دول خليجية تضع الحزب أيضاً على «لائحة الإرهاب»، وذهب بعضها إلى تحذير لبنان من تحمل تبعات وصفه دولة «راعية للإرهاب».
مع انتهاء معركة الجرود اللبنانية والسورية، ستعزز إيران وحلفاؤها حضورهم في المنطقة الغربية من سورية، علماً أن الحرب للسيطرة على الحدود الشرقية مع العراق لم تنته بعد. لذلك من المبكر الفصل في نجاعة النهج الذي تتبعه إدارة الرئيس ترامب التي قدمت إلى الكرملين هدية قيّمة بوقف البرنامج السري لـ «السي آي إي» لتسليح المعارضة الذي كان يعمل من تركيا والأردن وكان هذا شرط الرئيس بوتين للاتفاق على هدنة الجنوب، وقد رحبت موسكو بالخطوة التي اعتبرتها دوائر أميركية «نصراً» لها. بينما يعلن مايك بومبيو مدير الاستخبارات المركزية أن أي تلميح إلى أن روسيا كانت حليفاً للولايات المتحدة في سورية لا يؤكده ما يحدث على أرض الواقع»! وأكد أن ما تقوم به بلاده في سورية حيث بات لها أكثر من عشر قواعد، ينطلق من مصالحها وليس مصالح روسيا». وشرح أن مصلحة أميركا «أكبر من أن تكون محصورة بسورية، مصلحتها تكون في شرق أوسط أكثر استقراراً لتكون أميركا أكثر أمناً». ولا يعرف كيف سينظر المسؤول الأميركي إلى نتائج معركة عرسال والقلمون، وهو يتحدث عن الإعداد لاستراتيجية جديدة لمواجهة إيران، مرجحاً أن تشكل «تحولاً جوهرياً» إزاءها. وحذر من خطر تمددها من العراق إلى سورية حيث صار لها «موطئ قدم».
والسؤال هنا هل تأخرت إدارة الرئيس ترامب في تبني خطة عملية جديدة إزاء طهران هدفها الأول والأخير قطع الجسر الذي يصل بين العاصمة الإيرانية ودمشق عبر الحدود العراقية، وكذلك تقليص نفوذها في سورية. أم أنها بتعزيز قواتها في بلاد الشام ودعمها الكرد و «قوات سورية الديموقراطية» ستعزز مشروع روسيا قيام سورية فيديرالية؟ عندها لن تكون هي وحدها الفائز، سيقاسمها الآخرون مناطق البلاد، وحتى اعتمادها على الأكراد قد لا يقود إلى تكرار تجربة كردستان حيث لها كلمة مسموعة في اربيل. الأمر سيكون رهناً بوفائها بوعدها إياهم بكيان ذاتي شرق نهر الفرات على أن توفر لهم طريق تواصل مع عفرين غرب النهر. وترجمة هذا الوعد ستعمق سوء الفهم وانعدام الثقة بينها وبين أنقرة التي قد لا تسهل، بعد معركة الجرود اللبنانية والسورية، «تنظيف» الشمال السوري، خصوصاً إدلب وريفها من «النصرة» وأخواتها. بل قد تقدم مثل هذه الهدية إلى موسكو. وقد تحدثت تقارير إعلامية من تركيا عن أن روسيا تبدو مستعدة هي الأخرى للعب ورقة الكرد: تغري حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان بتسهيل دخول قواته عفرين، في مقابل توليه المعركة المقبلة في الشمال الغربي لسورية. كما أن لديها خياراً آخر، لديها علاقات طيبة مع الأكراد وهي قادرة على منافسة الولايات المتحدة على بناء حلف متين معهم إذا حنثت هذه بوعودها. فهل يصدق خصوم الرئيس ترامب في توقعاتهم بفشل سياسته حيال سورية والشرق الأوسط عموماً؟
*نقلا عن صحيفة الجياة