لطالما كانت العلاقات الروسية - الأمريكية واحدة من أهم قضايا المناظرات في انتخابات الرئاسة الأمريكية على مدار عقود، لكنها لم تثر أبداً ذلك الجدل المحتدم الآن بشأن طبيعة وماهية العلاقة بين المرشح الجمهوري دونالد ترامب، والقيادة الروسية بزعامة الرئيس فلاديمير بوتين، لاسيما في ظل شكوك المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون وإدارة الرئيس أوباما بتدخل روسي لصالح ترامب عبر تصريحات وتسريبات لدعم موقفه الانتخابي في مواجهة منافسته كلينتون.
وعلى الرغم من إعلان الجانب الروسي أن الانتخابات الأمريكية هي شأن داخلي، وأن الكرملين سيتعاطى مع الرئيس الذي سينتخبه الشعب الأمريكي من أي حزب كان، وبالرغم من القناعة السائدة بأن كلينتون تمتلك حظوظاً أوفر لتصبح أول امرأة رئيسة للولايات المتحدة، فإن ثمة رهانات قوية لدى بعض الدوائر السياسية في موسكو على ترامب، حيث يجد خطابه رضا وقبولاً روسياً.
الجدل حول تدخل روسي في الانتخابات الأمريكية
اكتسب الحديث عن التأثير أو التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية هذا العام زخماً وأهميةً متزايدتين؛ ويعود ذلك إلى اعتبارات عدة، وهي:
1- إن أحد المرشحين للرئاسة الأمريكية، وهو الجمهوري دونالد ترامب، نسج علاقات واسعة طيبة مع رجال المال والأعمال والسياسة في روسيا منذ عام 1987. وأكثر من ذلك، صرح ترامب بأنه، في حالة انتخابه، سوف يعمد إلى تحسين العلاقات مع موسكو؛ لأن هذا أمر جيد لبلاده. والواقع أن هذا الاعتبار، دفع "مجلة السياسة الخارجية" Foreign Policy، إلى التساؤل عما إذا كان ترامب عميلاً روسياً أو دُمية في يد رئيسها، بوتين، يستخدمها للتدخل في الشؤون الأمريكية؟!
2- علاقة الود أو الوفاق الظاهرة بين ترامب وبوتين من ناحية، وعلاقة الخصام أو العداء بين الأخير والمرشح الديمقراطي، هيلاري كلينتون، من ناحية أخرى. فقد وصف الرئيس بوتين المرشح الجمهوري بأنّه "شخص لامع وموهوب". ومن جانبه، وصف الأخير بوتين بأنه زعيم قوي ويستحق علامة "ممتاز A" على مقياس القيادة، وعبَّر عن إعجابه بسياسته الصارمة. كما أكد ترامب أنه لا يرى مشكلة في دعوة بوتين إلى واشنطن حال فوزه في الانتخابات الرئاسية.
ولكن ليست العلاقات بين بوتين وكلينتون على ما يُرام، فلم ينس الأول انتقادات كلينتون للانتخابات البرلمانية الروسية عام 2011، عندما كانت وزيرة الخارجية، واعتقاده أن هذه الانتقادات أعطت الإشارة لمعارضيه أن ينزلوا إلى الشوارع احتجاجاً. فضلاً عن مواقفها الشديدة تجاه الملفين السوري والأوكراني، وانتقادها لملف الديمقراطية وحقوق الإنسان في روسيا، ولبوتين نفسه بأنّه يحاول "إعادة إنتاج الاتحاد السوفييتي".
3- ثالث الاعتبارات التي أكسبت موضوع التأثير الروسي أهميةً في الانتخابات الأمريكية يتعلق برجال ترامب، الذين أُثيرت تساؤلات بشأن علاقاتهم بشخصيات مُقربة من الإدارة الروسية. وفي مقدمة هؤلاء بول مانافورت، رئيس الحملة الانتخابية لترامب والذي استقال الأسبوع الماضي بعد أيام من تقليص صلاحياته خلال عملية تغيير في قيادة الحملة، والذي عمل لنحو عقد كامل مستشاراً سياسياً للرئيس الأوكراني السابق، فيكتور يانكوفيتش، الموالي لروسيا، وساعده في حصول حزبه على الأغلبية البرلمانية، وهو شخصياً في الفوز بالانتخابات الرئاسية، قبل أنْ يُطاح به إثر انتفاضة شعبية في عام 2014، ما اضطره إلى اللجوء إلى روسيا.
4- آخر هذه الاعتبارات وأهمها يتعلق بعملية القرصنة الإلكترونية لحواسب اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي، واختراق البريد الإلكتروني للعديد من المسؤولين فيها، وتسريبها إلى "ويكيليكس" الذي نشرها عشية مؤتمر الحزب الديمقراطي في فيلادلفيا، في 25 يوليو الماضي. وتكشف التسريبات تواطؤ قياديين كبار في الحزب لمصلحة كلينتون ضد ساندرز خلال الانتخابات الديمقراطية التمهيدية لاختيار المرشح الرئاسي، وأنهم حرضوا الناخبين في ولايات الجنوب المحافظة ضد ساندرز من خلال إثارة مسألة انتمائه للديانة اليهودية وأفكاره اليسارية المتطرفة.
وثمة اقتناع بين خبراء التقنية ورجال السياسة وأجهزة المخابرات الأمريكية بأن الروس وراء عملية القرصنة تلك، حتى أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما أشار إلى إمكانية ذلك.
وليس هناك جديد في هذا الاتهام على الإطلاق؛ فقد سبق أن تردد أن الروس تجسسوا على مجريات العملية الانتخابية الأمريكية للحزبين الجمهوري والديمقراطي، وآخرها في العامين 2008 و2012. ولكن الجديد هو التسريب الذي أدى إلى الإساءة للحزب الديمقراطي، وهدف إلى حدوث شِقاق داخله، لكي يستفيد منه المرشح الجمهوري. كما أن الجديد هو دعوة ترامب للروس إلى البحث عن آلاف الرسائل الإلكترونية المحذوفة من الخادم الخاص بهيلاري كلينتون، عندما كانت وزيرة الخارجية، ونشرها. وهذه أول مرة في التاريخ الأمريكي أن يدعو مرشح رئاسي دولة أجنبية، ناهيك عن كونها الخصم الرئيسي، إلى التجسس على بلاده. صحيح أن الرجل أكد أن دعوته تلك كانت من قبيل السخرية، إلا أنها دفعت بالبعض إلى الربط بين الطرفين (الروس وترامب) في عملية القرصنة والتسريب، وهو الأمر الذي نفاه الأخير بشدة.
لماذا يدعم بوتين المرشح الجمهوري؟
وفقاً لاستطلاع رأي أجرته مؤسسة YouGov لصالح جريدة Handelsblatt الاقتصادية الألمانية في أبريل 2016، كانت روسيا الدولة الوحيدة المشمولة في الاستطلاع التي تتمنى فوز ترامب بالرئاسة الأمريكية. وطبقاً للاستطلاع، الذي أُجري على 20 ألف شخص من البالغين بدول مجموعة العشرين (G20)، تفوق ترامب على هيلاري كلينتون في روسيا، بفارق بلغ 21 نقطة، بينما تفوقت الأخيرة بفارق كبير في 15 من الدول العشرين.
وبالتالي يبدو أن الرئيس بوتين يود لو انتخب ترامب رئيساً للولايات المتحدة، وليس في هذا ما هو جديد أيضاً؛ فلطالما رحب الروس بالمرشحين الجمهوريين على نظرائهم الديمقراطيين؛ لأسباب كثيرة منها أن الأولين لا يتدخلون في الشؤون الداخلية الروسية باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
علاوة على ذلك، ثمة دوافع منطقية قد تُفسر رغبة بوتين تلك، وتتعلق بالمواقف التي أعلن عنها ترامب، بل ودفع الحزب الجمهوري إلى تبني بعضها، والتي تصب في المصالح الروسية. فالمرشح ترامب يرى أنه من الأفضل تحسين علاقات بلاده بروسيا، وقد أعلن الرجل أنه في حالة أصبح رئيساً للولايات المتحدة، فقد ينظر في الاعتراف بضم موسكو لشبه جزيرة القرم، ويحاول التوافق مع روسيا بخصوص الملف السوري؛ إذ دعا ترامب الولايات المتحدة إلى مغادرة سوريا وترك روسيا لتقاتل "داعش".
كما أكد أنه سوف يخفف الأعباء الأمريكية في إطار حلف "الناتو"، وأن الولايات المتحدة لا يجب أن تنهض لحماية الدول الأعضاء متى طلبت ذلك، وأن على الأخيرة أن تدفع مقابل الحماية الأمريكية لها. بطبيعة الحال، أسعدت هذه التصريحات كثيراً الرئيس الروسي الذي دخل حروباً في شرق أوروبا بسبب خشيته من توسيع الحلف، وأثارت شكوك أعضاء الحلف في شرق أوروبا حول التزام واشنطن بالدفاع عنها.
ويتصل بما سبق دفاع ترامب عن سياسات انعزالية في مجال السياسة الدولية. صحيح أن هذه السياسات، والانسحاب التدريجي من الانغماس في شؤون أقاليم العالم المختلفة، بدأ في الفترة الثانية لإدارة أوباما، إلا أن تعزيزها سوف يخدم المصالح الدولية الروسية. وقد أوحى ترامب بالتركيز على الشؤون الداخلية، لاسيما في ملف الهجرة. وقد تختبر الولايات المتحدة فترة من عدم الاستقرار نتيجة لذلك. ولا يهتم ترامب كثيراً بتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان في الخارج، وتتوافق رؤيته، إلى حد كبير، مع الرئيس بوتين فيما يتعلق بملف الراديكالية الإسلامية والإرهاب.
أدوات التأثير الروسي
يمتلك بوتين أدوات إعلامية في الولايات المتحدة (قناة روسيا اليوم، ووكالة أنباء سبوتنيك) تعلن، مراراً وتكراراً، تفضيلها الواضح للمرشح الجمهوري، بل إن "سبوتنيك" أكدت أنها أثبتت ادعاء ترامب فيما يتعلق بأن أوباما هو مؤسس تنظيم "داعش".
ويٌضاف إلى ذلك ما سبق الإشارة إليه من إحاطة ترامب نفسه برجال، حتى بعد استقالة مانافورت، ذوي علاقات واسعة برجال المال والأعمال والحُكم في روسيا، ناهيك عن عملية القرصنة الالكترونية على الحزب الديمقراطي. وقد وعد موقع ويكيليكس بنشر مزيد من الرسائل الإلكترونية، مثيراً التوقعات حول مفاجأة محتملة في أكتوبر المقبل.
وفي ضوء ترجيح استطلاعات الرأي العام حتى الآن لانتخاب هيلاري كلينتون، ليس ثمة تأكد فيما إذا كان التأثير الروسي على هذه الانتخابات سوف يأتي بنتائجه المرجوة، وإن كانت صحيفة (واشنطن بوست) الأمريكية قد ذكرت أن تفضيل بوتين للمرشح الجمهوري ترامب سوف يضر بالأخير ويؤثر بالسلب عليه في سباق الانتخابات الأمريكية. ويبقى الأثر الروسي المرجح حصوله في هذه الانتخابات هو التعريض بالعملية الديمقراطية الأمريكية، ولعل ذلك كان هو الهدف الحقيقي وراء التسريبات الأخيرة، ووراء المواد الإعلامية الكثيرة التي تنشرها "روسيا اليوم" و"سبوتنيك" عن الانتخابات الأمريكية.