تنفست أسواق النفط العالمية الصعداء في 28 سبتمبر الماضي، حيث ارتفع سعر برميل النفط بحوالي 6% ليقترب من حاجز الخمسين دولاراً. كما توقع عدد من المؤسسات المالية العالمية، مثل جولدمان ساكس، زيادة هذا السعر من سبعة إلى عشرة دولارات في النصف الأول من العام القادم. وكان السبب الرئيس وراء هذه التطورات المهمة هو نجاح الاجتماع الوزاري لدول منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) في الجزائر، بشكل مفاجئ وغير متوقع، في التوصل إلى اتفاق "تاريخي"، لخفض الإنتاج إلى ما بين 32.5 مليون و33 مليون برميل يومياً.
ويعد هذا الاتفاق، الذي شارك فيه أعضاء المنظمة الأربعة عشرة، أول خفض للإنتاج منذ عام 2008، ما يفتح باب الأمل نحو استعادة أسعار النفط العالمية لعافيتها التي تدهورت باستمرار منذ يونيو 2014 عندما كانت تدور حول مستوى 115 دولاراً.
نتائج مهمة
قرر الاجتماع الوزاري لأوبك في الجزائر إنشاء لجنة رفيعة المستوى، تضم ممثلين من الدول الأعضاء، بدعم من أمانة "أوبك"، لدراسة مستوى إنتاج الدول الأعضاء ووضع التوصيات والآليات الخاصة بتنفيذ الاتفاق المذكور. وعلاوة على ذلك، ستقوم هذه اللجنة بوضع إطار مشاورات رفيعة المستوى بين الدول المنتجة للنفط في "أوبك" وخارج المنظمة، بما في ذلك تحديد المخاطر، واتخاذ تدابير استباقية من شأنها ضمان أن تصبح سوق النفط العالمية "متوازنة على أساس مستدام".
وكان العامان الماضيان قد شهدا عديداً من التحديات في سوق النفط العالمية التي نشأت أساساً بسبب الوفرة الواسعة والطفرة التي حدثت في المعروض النفطي، ونتيجة لذلك تهاوت الأسعار أكثر من نصف قيمتها، في حين زادت حالة عدم الاستقرار وتفاقمت حالة التقلبات السعرية في السوق.
وفي هذا الإطار، أشار تقرير للأوبك، في ختام الاجتماع غير العادي بالجزائر، إلى حدوث انخفاض واسع في عائدات الدول المُصدرة للنفط، وأيضاً الشركات الدولية، ما يمثل ضغوطاً واسعة على الوضع المالي للدول والشركات المنتجة، وهو ما يتسبب في عرقلة نموها الاقتصادي. ونوه التقرير إلى أن صناعة النفط في العالم واجهت تخفيضات كبيرة في الاستثمار وعلى نطاق واسع، ما تسبب في تسريح العمالة والتحذير من أخطار كبيرة محتملة بشأن امدادات النفط التي قد لا تُلبي الطلب في المستقبل، ما سيقود إلى تأثيرات ضارة في أمن الامدادات لعدد كبير من الدول.
كما خلص المؤتمر الوزاري لأوبك إلى أن هناك أرضية صلبة ومشتركة لدعم جهود التعاون المستمرة بين المُنتجين داخل وخارج المنظمة على حد سواء، حيث إن ذلك من شأنه أن يساعد على استعادة التوازن والنمو المستدام في السوق. وتم التأكيد على التزام أوبك بالوصول إلى أسواق مستقرة وتحقيق المصالح المشتركة بين الدول المنتجة وتوفير إمدادات آمنة للمستهلكين، مع تحقيق عائد عادل على رأس المال المستثمر لجميع المنتجين.
وفي حين لاحظ المؤتمر أن الطلب العالمي على النفط لا يزال قوياً، فإن توقعات الإمدادات في المستقبل تأخذ منحى سلبياً جراء تخفيضات كبيرة جرت في الاستثمارات وعمليات التسريح الجماعي للعمالة، وهو ما يعكس التحديات الواسعة التي تواجه السوق في المرحلة المقبلة.
تحديات صعبة
كان الهدف الأساسي لاجتماع أوبك في الجزائر، حسبما أكد وزير الطاقة الجزائري نور الدين بوطرفة، هو تحقيق استقرار أسعار النفط، خاصةً أنه إذ استمر إنتاج النفط العالمي بوضعه الحالي، فإن الأسعار ستبقى عند مستويات متدنية حتى عام 2018، ما سينعكس سلباً على الاستثمارات في قطاع النفط وعلى اقتصادات الدول المنتجة بصفة خاصة، والاقتصاد العالمي عامة. وأشار الوزير الجزائري إلى أن "سعر برميل النفط عند 50 – 60 دولاراً سيعد سعراً عادلاً، وسيساهم في استقرار اقتصادات الدول المنتجة للخام".
وبالرغم أن ما تحقق من اتفاق في الجزائر، وما تبعه من تطورات في السوق العالمي للنفط، يثبت أن منظمة أوبك لا تزال مؤثرة في السوق، بيد أن الطريق على ما يبدو ما يزال طويلاً وشاقاً أمام دول المنظمة من أجل نقل هذا "الاتفاق" إلى "التطبيق" خلال الشهرين المقبلين، حتى اجتماع أوبك المقبل في فيينا في 30 نوفمبر القادم. إذ توجد أسئلة عديدة لا تزال تحتاج إلى إجابات، منها على سبيل المثال: من الذي سيقوم بالتخفيض؟ وبأي كم؟ فلا شك أن تحديد "الكوتا" الفردية للدول الأعضاء في أوبك سيكون أمراً عسيراً في ظل المتاعب الاقتصادية التي تعاني منها معظم دول المنظمة.
وثمة تحد آخر يواجه أوبك يتمثل في تحديد آلية التطبيق والمراقبة. وهنا يثور التساؤل التالي: هل سيتم اعتماد بيانات الإنتاج من أطراف ثانوية مستقلة أم سيتم قبول البيانات الوطنية الرسمية التي تصدرها كل دولة؟ أيضاً من التساؤلات التي تحتاج إلى إجابة: متى سيبدأ تفعيل خفض الإنتاج على أرض الواقع من جانب دول أوبك؟ ومتى سيشعر العالم بتداعيات ذلك؟ وهنا لا يُتوقع أن يبدأ تنفيذ اتفاق الجزائر قبل 30 نوفمبر المقبل، هذا إذا ما تمكنت دول أوبك، أصلاً، من الإجابة على التساؤلات السابقة فيما يتعلق بالحصص وآلية التنفيذ. وبالتالي فإن الخفض لن يظهر أثره، على الأرجح، في السوق العالمية للنفط قبل بداية العام المقبل.
نجاح مشروط
الشكوك والهواجس والأسئلة التي تدور حول إمكانية نجاح أوبك في تنفيذ اتفاق الجزائر على أرض الواقع في الأيام المقبلة، لا تقلل من الإنجاز الذي توصل إليه أعضاء المنظمة، والذي يعتبر أول خفض للإنتاج منذ عام 2008. ويعكس النجاح في الجزائر استشعار المُنتجين بالخطر ورغبة الجميع في التعاون لاستعادة الاستقرار في السوق وتحقيق تعاف في مستوى الأسعار يدعم اقتصاديات الدول المنتجة.
ولم يكن هذا التطور المهم ليتحقق دون "التحول الاستراتيجي" الذي يبدو أنه قد طرأ على موقف المملكة العربية السعودية، أَكبر المنتجين للنفط داخل منظمة أوبك، حيث جاء على لسان وزير الطاقة السعودي خالد الفالح إنه ينبغي السماح لإيران ونيجيريا وليبيا بالإنتاج "بالمستويات القصوى المعقولة" في إطار أي اتفاق على تحديد سقف للإنتاج. وهي تصريحات تعكس تحولاً عن موقف الرياض السابق بضرورة الاحتفاظ بحصتها الريادية في السوق على حساب إنعاش الأسعار، مع إلزام إيران بتثبيت إنتاجها في معدلاته الحالية أي عند حوالي 3.6 مليون برميل يومياً، وهو الأمر الذي كانت ترفضه طهران، التي أكدت مراراً على حقها في العودة إلى مستويات الإنتاج قبل فرض العقوبات الدولية عليها.
وربما التحول في الموقف السعودي يرجع إلى المصاعب الاقتصادية التي تواجه الرياض حالياً، خاصةً وأنها سجلت في عام 2015 عجزاً قياسياً في ميزانيتها بلغ 98 مليار دولار، ما دفعها الى اتخاذ إجراءات تقشفية شملت تخفيض رواتب موظفي الحكومة.
على أية حال، يمكن القول إن اتفاق الجزائر الذي أعلنته أوبك حول خفض الإنتاج لوقف تراجع الأسعار، يعزز دور المنظمة على الصعيد السياسي والاقتصادي العالمي، خاصةً وأنه يسمح للمنظمة باستعادة وظيفة "المراقبة" للسوق النفطية العالمية، وهي الوظيفة التي فقدتها منذ فترة طويلة. كما أن هذا الاتفاق يعكس الجهود التي بذلها عدد كبير من دول أوبك، بلا كلل، للتوصل إلى توافق لضمان استقرار السوق النفطية في المستقبل. ولكن يبقى أن يكون تنفيذ هذا الاتفاق جيداً وبشفافية كبيرة، حتى لا يكون مجرد "ذراً للرماد" في عيون هؤلاء الذين أعلنوا "وفاة أوبك إكلينيكياً".
وفي هذا السياق، سوف تتركز أنظار العالم على الاجتماعات القادمة للمنظمة، خاصةً اجتماع فيينا في 30 نوفمبر القادم، حيث من المفترض أن يحدد هذا الاجتماع حصة كل دولة في الخفض، كما أنه سيوضح إذا كان هناك وضع استثنائي لأي دولة أم لا؟ ومن الضروري تحديد حصة كل دولة من دول أوبك في الإنتاج بشكل واضح، لأن حالة الغموض قد تقود إلى عودة المستويات المنخفضة للأسعار، كما أنها قد تنعكس سلباً على مناخ الثقة بالسوق خاصةً فيما يتعلق بجدية التعاون بين المنتجين.
كما سيكون من الضروري على أعضاء أوبك، التي تنتج فقط 40% من الإنتاج العالمي للنفط، أن تتعاون مع باقي منتجي النفط من خارج أوبك، خاصةً روسيا، من أجل الانضمام إلى اتفاق خفض الإنتاج. فالنجاح الذي حققته أوبك في الجزائر سوف يتوقف، إلى حد بعيد، على موقف روسيا خلال الفترة القادمة. وحتى الآن يبدو موقف موسكو غامضاً، حيث أعلن وزير الطاقة الروسي، ألكسندر نوفاك، أن بلاده ستكشف عن اقتراحها للحد من إنتاج النفط بعد القرار النهائي لمنظمة أوبك، والمتوقع في نهاية نوفمبر القادم.
وما قد يبعث على التفاؤل في هذا الصدد، هو تزايد احتمالات التنسيق بين موسكو والرياض من أجل خفض أو تثبيت الإنتاج في الفترة القادمة، وبالتالي تحقيق الاستقرار في أسعار النفط العالمية، خاصةً بعد أن أسست الدولتان مجموعة عمل مشتركة لبحث سبل التعاون المشترك في هذا المجال. وقد بدأت هذه المجموعة فعلياً بالعمل حالياً، وسيلتقي الفريق المشترك للمجموعة خلال النصف الأول من شهر أكتوبر الجاري.