على نحو مغاير لما هو سائد من حديث معتاد من قبل الدولة المصرية أو المؤسسات الدينية والشخصيات العامة والمثقفة عن ضرورة "تجديد الخطاب الديني"؛ دعا الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى "ثورة دينية" على نصوص إسلامية أدى تأثيرها إلى إيجاد عداوة مستمرة بين العالم الإسلامي وبقية العالم.
كانت هذه المرة الأولى التي يتحدث فيها رئيس مصري عن نصوص دينية وضرورة تغييرها، وعن "ثورة دينية" لا مجرد تجديد أو إصلاح. جاء هذا في إطار احتفال الدولة بالمولد النبوي الشريف، وأمام جمع من كبار علماء الأزهر الشريف، حيث قال الرئيس إنه "سيحاجهم يوم القيامة أمام الله بهذه الدعوة".
ثورة دينية أم تجديد للخطاب الديني؟
بصرف النظر عما إذا كان اختيار الرئيس لكلمة "الثورة" على وجه التحديد مقصوداً، أم أنه يأتي من قبيل المزيد من تشجيع العلماء، أم حتى صدر عفوياً؛ فمن الواضح أن دعوته للقيام بثورة دينية تقف عند حد الدعوة، وتحفيز المسؤولية التاريخية التي تحملها مؤسسات كبرى مثل الأزهر، بما يعني عدم الخوض في خطوات واضحة من قبل الدولة كرئاسة وكأجهزة في القيام بهذه الثورة.
ومن الجليّ أيضاً أن هذه الثورة الدينية على النصوص، إنما هي ثورة جزئية تستهدف فقط تحرير الإسلام من القراءة الأصولية له، والتي أصبحت تفرض نفسها منذ عقود في ظل ما تقوم به تنظيمات شبكية معولمة تشن هجمات ضد الداخل والخارج، وتسعى وراء تأسيس "خلافة دينية عالمية"؛ إذ لاتزال مصر وغيرها من دول المنطقة تعاني تبعات اختطاف هذه التنظيمات للحراك الشعبي العربي الذي أنتج "الثورات" العربية؛ مستغلة إياها لما يرونه "إقامة تنظيم الدولة الإسلامية" كسلطة سياسية على أنقاض سلطة الدولة الحداثية المنهارة في العراق وسوريا.
وإذا كانت "الأصولية" هي مرض الإسلام المعاصر، فهي ليست أزمته الوحيدة. وإذا كانت هناك نصوص دينية تستثير كراهية الآخر المختلف دينياً ومذهبياً، فهناك نصوص أخرى يعوق تأويلها الجامد والسائد لعقود تحرر المجتمعات الإسلامية، وعدم إنتاج تيارات "تقدمية" تنصف فئاتها المقهورة والمهمشة، هذا فضلاً عن المفارقة المستمرة بين سردية الدين السائدة وسردية العلم الحديث.
ويبدو أن هذه "الثورة" الدينية لن تتعامل مع هذه الأزمات بقدر ما تركز على إنتاج أطروحات سلمية ومعتدلة لا أصولية للدين. وبهذا المعنى قد لا تختلف هذه الثورة في مضمونها عن دعوات أنظمة عربية سابقة إلى "تجديد الخطاب الديني".
لقد ارتكز "تجديد الخطاب الديني" في مرحلة ما بعد 11 سبتمبر 2001 على تصحيح صورة الإسلام للعالم وللغرب على وجه التحديد، والتأكيد والتدليل على براءة الإسلام من أي أعمال عنف أو إرهاب ترتكب باسمه، من خلال تقديم ما يسمى "صحيح الإسلام" اعتماداً على انتقاء التراث وتنقية النصوص التي تخدم هذا التوجه. لكن هذا التجديد كان خطابياً وظاهرياً لا يعالج القضايا المفصلية، بقدر ما يعتمد على منهجية التوفيق والجمع بين المتناقضات، ولم يتعامل مع الإصلاح الديني على أنه ضرورة للدين بقدر ما هو تحايل على أزماته.
وهنا يمكن الجدل بأن هناك تناقضات أصيلة في علاقة الدولة المصرية بالدين وبالمؤسسات الدينية، وفي الخطاب الديني للطبقة السياسية، وهو ما حال دون وقوع "ثورة دينية" تنتج تأويلاً تنويرياً معاصراً للإسلام على النحو الدلالي الذي تحمله لفظة "الثورة".
الدولة.. واستعادة ضبط المجال الديني
ثمة أطروحتان مركزيتان فيما يتعلق بضبط المجال الديني، أولاهما تقول إن تحرير الفكر الديني يقتضي تخليصه من هيمنة الرؤى الأحادية والوصاية السلطوية للمؤسسة أو للدولة، وقبول الرؤى والتأويلات التعددية للنصوص والأصول العقدية. وثانيهما تقول إن للدولة ومؤسساتها الدور الرئيسي في تحرير هذا الفكر.
وفي حالة مصر، لم تؤدِ عملية التحديث الممتدة عبر قرنين إلى التمييز بين مجال السلطة السياسية والمجال الديني للأفراد والجماعات، أو الفصل بينهما، بل أدت إلى هيمنة الدولة على "الدين" ودمجها لمؤسساته الدينية أو الشعبية (الأزهر والأوقاف) داخل بنيتها البيروقراطية، على نحو جعل من خطابها الديني تابعاً لخطاب الدولة.
كما لم تنتج عملية التحديث دولة علمانية بالمفهوم الحداثي الغربي، إذ إن البيروقراطية ظلت وفية للتراث الفقهي الإسلامي، الذي تم دمج أصوله والكثير من أحكامه عبر التشريعات المتراكمة داخل المدونات القانونية.
الأمر الآخر أن المشاعر والتحيزات الدينية لدى النخب السياسية والبيروقراطية لعبت دوراً في التأكيد على "تدين" الدولة، بل وعلى دورها في ممارسة رقابة دينية وأخلاقية على المجتمع. وبشكل ما، كانت الدولة مسؤولة عن تفشي الظاهرة الأصولية في المجتمع، حيث أفسحت المجال في العقود الأربعة الأخيرة أمام تيارات "الإسلام السياسي" لتقوم بعملية "أسلمة" واسعة النطاق للمجال العام، وهو وضع أطلق عليه آصف بيات "أسلمة بلا دولة إسلامية" في مقارنة مصر بحالة الدولة الإسلامية في إيران.
وهنا أدت ثورة 30 يونيو 2013 وما تلاها من تداعيات ومواجهات بين الدولة المصرية وقوى الإسلام السياسي المعارضة لإقصاء جماعة الإخوان عن الحكم، إلى ازدهار الحديث عن "التجديد الديني". ودار هذا الخطاب حول نقد أطروحات الإسلام السياسي، ومحاولة تقديم "الإسلام السني الوسطي" المطعم بالطابع القومي المصري باعتباره الإسلام الصحيح في مواجهة "الإسلام السياسي" الذي تميز بالانحراف العقدي والفكري، فضلاً عن الإرهاب والعنف.
وفيما مثلت جماعة الإخوان والجماعات المتحالفة معها النسخة المنحرفة من الدين؛ تسعى الدولة إلى تبني ما تعتبره النسخة الصحيحة منه. وعليه، باتت هناك خشية من الانتقال من "تحريف" الدين إلى "تأميم" الدين، وهو ما يجب أن تتجنبه الدولة المصرية، لأن إفساح مساحة أكبر للمؤسسات الدينية لتقوم بدور أكبر في المجال العام يجب أن تقتصر على "التجديد الحقيقي" على نحو يعزز من السلطة المعنوية بل والفعلية للأزهر في المسائل الدينية لا في شؤون المجال العام كافة، لاسيما أن الأزهر أصبح بقوة الدستور هو مرجع الشؤون الإسلامية الوحيد في مصر، وبالتالي ستصبح رؤيته للقضايا الدينية والفكرية هي الرؤية المعتمدة.
مغزى ذلك أنه يجب على مؤسسات الدولة كافة أن تتخلص بدايةً من التراث العميق من التداخل بين مجالي الدولة والدين، وبين الدين والمجال العام ككل؛ لأن هذه التقاليد التي ترسخت على مدى أكثر من قرن من الزمان قد لا تسهم إذا ما استمرت على حالها في "ثورة" دينية.
الأزهر.. والتغلب على تهميش الإصلاح
على الرغم من تراث الإصلاح الديني الذي بدأ وانتهى منذ منتصف القرن التاسع عشر، حتى نهايته، ومحاولات التحديث التي طالت مؤسسة الأزهر وجعلت منها جامعة حديثة، فإن الفكر الديني للمؤسسة ظل على تقليديته، حيث دُفِعَت محاولات تحديثها إلى هوامش المؤسسة لعقود طويلة، وذلك تحت وطأة الصراع الفكري وصراع الهيمنة بين ممثلي التيارات الصوفية عميقة الوجود، والسلفية، والإسلاموية السياسية، وكذلك أصحاب المذاهب الكلامية، وأصحاب الفكر الوسطي المتجدد.
هذا الصراع همش عمليات الإصلاح الداخلية التي رفع رايتها الإمام محمد عبده ومن بعده شيخ الأزهر الشيخ مصطفى عبدالرازق والشيخ محمود شلتوت، وساهم أيضاً في تقويض المحاولات الخارجية لتقديم أطروحات دينية مغايرة من خلال مباركته عمليات المنع والمصادرة للعديد من الأعمال الفكرية والأدبية والفنية، بل وساهم فيها بنفسه في بعض الأحوال (صادر مجمع البحوث الإسلامية بعض أعمال المستشار سعيد العشماوي والتي تناول فيها الخلافة الإسلامية في الثمانينيات، على الرغم من أن القانون لا يتيح له الحق، وقبل هذا بعقود، حرم الأزهر الشيخ علي عبدالرازق من درجة العالمية عند إصداره كتاب الإسلام وأصول الحكم "1924"، والذي أنكر فيه إسلامية نظام الخلافة، كما أنه كان طرفاً في الصراعات القضائية والفكرية التي درات بين التيارات الإسلامية والمفكرين العلمانيين؛ مثل قضيتي فرج فودة ونصر حامد أبو زيد في التسعينيات، فضلاً عن دوره في السنوات الأخيرة في منع بعض الأعمال السينمائية والفنية).
إن هذه الحالة، التي زاد منها تراجع وضعف الدولة المصرية ككل في الأعوام العشرين الأخيرة على وجه خاص، أدت إلى حالة من جمود الفكر الديني العام في مصر، وهو الجمود الذي أنتج هيمنة قراءات محافظة رسمية وغير رسمية للدين؛ وبالتالي تقتضي الثورة الدينية، سواءً كانت تستهدف مراجعة النصوص المنتجة للأصولية أو ما وراء ذلك من قضايا دينية، مراجعة الدولة لدورها الديني ولعلاقتها بالمؤسسة الدينية، فالدولة توجه فقط، بينما لا تضع مؤسساتها الدينية في علاقة تبعية، فيما ينبغي على هذه المؤسسات أن تقوم بفتح المجال الديني على قراءات أكثر تحررية وتقدمية للدين من دون أن تستند لسلطة الدولة أو لهيمنة المؤسسة.
وعلاوة على ذلك، فهناك علاقة وثيقة بين التحرير الديني وحيوية الحركات الاجتماعية، وهو أمر تخبرنا به خبرات "الإصلاح الديني" في الحضارتَيْن الإسلامية والغربية، وقد تميزت حركة الإصلاح الديني في مصر بنخبويتها الشديدة، وضعف انتشارها الاجتماعي ومن ثم تأثيرها الفعلي، وعندما تمت ترجمتها إلى حركات اجتماعية سرعان ما استولت عليها حالة "التسيُس" بما أدخلها في صراع مزمن مع الدولة (بدأت جماعة الإخوان كامتداد لفكر الإصلاح الديني وانتهت إلى طائفة سياسية متصارعة مع الدولة)، كما أن المجال العام في مصر يكاد أن يخلو من حركات اجتماعية أو ثقافية ضاغطة تضع الإصلاح الديني أو الثقافي على رأس أولوياتها. وبالتالي تتسع قضية الإصلاح الديني الشامل لتصبح مسؤولية المجتمع ككل لا الدولة أو مؤسساتها فقط.