أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

الموازِن من الخارج:

اتجاه واشنطن لتقليص التزاماتها الأمنية وتداعياته غير المقصودة

17 أكتوبر، 2019


تتمثّل أحد المداخل لتفسير سياسات الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" تجاه حلفائه الإقليميين في تبنيه استراتيجية "الموازِن من الخارج"، التي تهدف إلى تقليل الأعباء الأمنية للولايات المتحدة تجاه حلفائها، ودفعهم للعب دور أكبر في مواجهة التهديدات التي تواجه أمنهم، خاصة في مواجهة القوى الساعية إلى تحقيق هيمنة إقليمية. 

وفي هذا الإطار، اقترح "ترامب" إنشاء تحالف أمني جديد في الشرق الأوسط بعنوان "تحالف الشرق الأوسط الأمني" (MESA)، المعروف على نطاق واسع باسم الناتو العربي، بالإضافة إلى مواصلته الضغط على الدول الأوروبية الكبرى من أجل زيادة إنفاقها العسكري تحت مظلة حلف شمال الأطلسي إلى حوالي 2٪ من ناتجها المحلي الإجمالي، وذلك في محاولة من واشنطن لدفع الدول الرئيسية في المنطقتين لمواجهة القوى الإقليمية المهدِّدة، سواء تمثلت في إيران بمنطقة الخليج العربي، أو روسيا بالنسبة للقارة الأوروبية، وضمان التفوق والمصالح الأمريكية في كلتا المنطقتين.

استراتيجيات القوى العظمى:

يُعد من المبادئ المستقرة في العلاقات الدولية سعي القوى العظمى إلى تعزيز نفوذها في مناطق العالم المختلفة. وفي ظل نظام أحادي القطبية، حاولت واشنطن الاحتفاظ بوجود مؤثر في هذه المناطق بهدف إدامة سيطرتها على النظام الدولي، عبر التأكد من عدم بروز أي قوة صاعدة في أي إقليم يمكن أن تمثل تهديدًا وخصمًا لنفوذها هناك، وتتحول تدريجيًّا إلى قوة مكافئة لها. وعلى الرغم من المساعي الحثيثة لواشنطن لتحقيق ذلك منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991، إلا أن تكلفة السيطرة على النظام الدولي، بما يتطلبه ذلك من أعباء والتزامات أمنية تجاه الحلفاء، في أقاليم العالم المختلفة، تفوق قدرات أي دولة مهما تحقق لها من ثراء اقتصادي، كما أكد أنصار المدرسة الواقعية دومًا.

ويبدو أن هذه الحقيقة بدأت في التبلور مع صعود النفوذ الصيني، ومبادرته "الحزام والطريق" (BRI)، والذي لا يعد مجرد مشروع اقتصادي يهدف إلى زيادة الاستثمار في البنية التحتية في عدد واسع من الدول، ولكن يهدف كذلك إلى إقامة نظام اقتصادي وسياسي دولي تكون بكين محوره، أي إن هذه المبادرة تهدف إلى تقويض النفوذ الأمريكي في مختلف أقاليم العالم. ولذلك، شرعت الولايات المتحدة في إعادة مراجعة استراتيجيتها الأمنية تجاه دول العالم المختلفة. وفي هذا الإطار، بدأ عدد من منظّري السياسة الخارجية الأمريكية في دعوة واشنطن إلى تبني استراتيجية جديدة، هي استراتيجية "الموازِن من الخارج".

استراتيجية "الموازن من الخارج":

تُعد "الموازن من الخارج" (Offshore Balancing) إحدى الاستراتيجيات التي يتم طرحها من قبل المنظّرين الأمريكيين بصورة دورية باعتبارها استراتيجية بديلة وأقل كلفة لمحاولات الولايات المتحدة للسيطرة على النظام الدولي، فقد سبق وأن طرح "كريستوفر لاين" هذه الاستراتيجية في عام 1992، في دورية "الأمن الدولي"، كما نادى بذلك كلٌّ من "ستيفن والت" و"جون ميرشايمر" في عام 2016 في مقالتهما المنشورة في مجلة "الفورن أفيرز" (Foreign Affairs)، المعنونة "الدفاع عن استراتيجية الموازِن من الخارج: نحو استراتيجية كبرى أفضل للولايات المتحدة". وطالب هؤلاء المنظرون بأن تطبق الولايات المتحدة استراتيجية "الموازن من الخارج"، وذلك بهدف الحفاظ على النفوذ الأمريكي في نصف الكرة الغربي، ومواجهة القوى المناوئة لنفوذها في أوروبا، وجنوب شرق آسيا، والخليج العربي، مع تقليل العبء الأمني على واشنطن.ووفقًا لهؤلاء المنظّرين، فإن الخطوط العريضة لهذه الاستراتيجية تتمثل في التالي:

1- تخلي الولايات المتحدة عن الهيمنة: يتمثل الافتراض الأساسي لهذه الاستراتيجية في ضرورة اعتماد واشنطن على مفهوم "توازن القوى" للحفاظ على نفوذها في أقاليم العالم المختلفة، والتخلي تمامًا عن مساعيها للهيمنة عليها، أي إن هذه الاستراتيجية تدعو الولايات المتحدة للتسليم بانتقال النظام الدولي من نظام الأحادية القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب، وأن واشنطن لن تستطيع إيقاف ظهور قوى كبرى مناوئة لها مثل روسيا والصين. ولذلك، فإن كلًّا من "والت" و"ميرشايمر" يرى أن أي مساعٍ من جانب واشنطن للحفاظ على هيمنتها على النظام الدولي، سوف يكون أمرًا مرتفع التكلفة، ومحفوفًا بالمخاطر.

2- دَفْعُ الحلفاء الإقليميين للعب دور أمني أكبر: تدعو استراتيجية الموازن من الخارج الولايات المتحدة إلى دفع الدول الأخرى في كل نظام إقليمي للعب دور رئيسي في احتواء التهديدات الأمنية، ومواجهة الدول الساعية للهيمنة الإقليمية، بينما تتدخل الولايات المتحدة فقط عند الضرورة وكملاذ أخير عندما يتم استنفاد كل الخيارات الأخرى. ووفقًا لهذه الاستراتيجية، يجب على واشنطن "الاعتماد على قوات الدول الحليفة كخط الدفاع الأول في مواجهة القوى المناوئة لهما".

3- تدخل عسكري محدود وسريع: تساند الولايات المتحدة جهود حلفائها الإقليميين في الحفاظ على توازن القوى الإقليمي ضد القوى الساعية لتحقيق الهيمنة الإقليمية، في حين أنّ الجيش الأمريكي سيبقى "خارج" الإقليم لأطول فترة ممكنة. وفي حالة فشل هؤلاء الحلفاء في الحفاظ على التوازن، فإنه في هذه الحالة سيجب على الجيش الأمريكي التدخل عسكريًّا، غير أن هذا التدخل سوف يأخذ شكل العمليات العسكرية المحدودة، فضلًا عن الانسحاب في أقرب وقت ممكن.

فوائد هذه الاستراتيجية:

تُحقق هذه الاستراتيجية، وفقًا لـ"والت" و"ميرشايمر" و"لاين"، عدة أهداف ومنافع للولايات المتحدة الأمريكية، والتي يُمكن إجمالها في التالي:

1- تقليل خطر الحرب مع القوى الكبرى: تساعد هذه الاستراتيجية على تقليص خطر دخول الولايات المتحدة في الحرب ضد قوة أخرى مثل روسيا أو الصين، نظرًا لاعتماد واشنطن على حلفائها في تطويق هذه القوى الصاعدة.

2- نقل الأعباء الأمنية إلى الحلفاء الإقليميين: تساهم هذه الاستراتيجية في تقليل التكلفة المادية المترتبة على مواجهة القوى الصاعدة، نظرًا لأن حلفاء واشنطن الإقليميين سوف يتحملون النصيب الأكبر من هذه الأعباء. 

3- تعزيز القوة النسبية لأمريكا في النظام الدولي: يقلل اعتماد واشنطن على حلفائها الإقليميين من الأعباء المادية التي تتحملها واشنطن، بما يساهم في توجيه هذه الموارد إلى دعم القوة الاقتصادية الأمريكية في النظام الدولي.

4- نجاح هذه الاستراتيجية في السوابق التاريخية: طبقت هذه الاستراتيجية من قبل القوى العظمى على مدار التاريخ، حيث حاولت المملكة المتحدة باستمرار حمل القوى الأوروبية على تحمل عبء احتواء القوى المهيمنة المحتملة في القارة الأوروبية، بينما ظلت هي تراقب هذه الجهود، ولا تتدخل إلا لمنع دولة واحدة من الهيمنة على القارة، كما في السياسة الأمنية البريطانية لإحباط المحاولة الفرنسية للسيطرة على أوروبا في الفترة من 1792 حتى 1815.

ولكن على الجانب الآخر، لم تتدخل المملكة المتحدة في الحرب النمساوية – البروسية (1866)، أو الحرب الفرنسية – البروسية (1870 – 1871)، والتي ترتب عليها إقامة ألمانيا الموحدة، نظرًا لأن ذلك لم يُخلّ بالتوازن القائم بين القوى الأوروبية، وحتى عندما حلت ألمانيا محل فرنسا باعتبارها الدولة الساعية للهيمنة على أوروبا في الفترة الممتدة من عام 1890 حتى عام 1930، تركت المملكة المتحدة في البداية مسئولية احتواء برلين إلى فرنسا وروسيا. ومع ذلك، عندما كان من الواضح أنهما لن يتمكنا من ذلك، تحالفت بريطانيا معهما بين عامي 1905 و1907 فيما عرف بـ"الوفاق الثلاثي".

التداعيات غير المقصودة:

واجهت استراتيجية "الموازن من الخارج" العديد من الانتقادات، التي يمكن تفصيلها على النحو التالي:

1- غياب الإرادة أو القدرة: تفترض استراتيجية الموازن من الخارج وجود تماثل في المصالح بين واشنطن وحلفائها الإقليميين، وأن لديها الإرادة والقدرة على الحفاظ على توازن القوى في مناطقها في مواجهة القوة الساعية إلى تحقيق الهيمنة الإقليمية، مثل الصين في بحر الصين الجنوبي، أو روسيا في البحر الأسود وشرق أوروبا، غير أنه من الملاحظ أن هذا الأمر لا يبدو صحيحًا، فحتى إذا تشاركت القوى الإقليمية في نفس المصالح مع واشنطن في مواجهة القوى الثلاث، فإنهم قد لا يمتلكون القوة العسكرية اللازمة أو الموارد الكافية لمواجهتها.

على سبيل المثال، فإن دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة لا يمكن أن تُمثل ثقلًا مضادًّا لموسكو. كما أن الدول المشاطئة لبحر الصين الجنوبي، على الرغم من معارضتها لمساعي بكين للهيمنة على البحر والموارد الكامنة فيه، فإنها لا تقوى على مواجهة بكين، أو عرقلة خططها الرامية إلى السيطرة عليه عبر بناء جزر صناعية فيه.

2- التداعيات السلبية لتقليل الدور: تفترض استراتيجية الموازن من الخارج أنه مع انسحاب واشنطن من أقاليم العالم الرئيسية، فإن القوى الحليفة لها سوف تسعى للحفاظ على توازن القوى، ومواجهة محاولات القوى الصاعدة الساعية لتحقيق الهيمنة الإقليمية.

وتتجاهل هذه الاستراتيجية حقيقة أن الدول عند مواجهتها دولًا أخرى تهدد أمنها، عادةً ما تختار بين خيارين؛ إما موازنتها سواء بصورة فردية أو من خلال تحالفات جماعية، أو مسايرة مصدر التهديد ومحاولة الدخول في علاقات تعاونية معها، فيما يعرف باسم استراتيجية "الالتحاق بالركب" (Bandwagon). وفي حال قررت بعض الدول الحليفة للولايات المتحدة اتباع الاستراتيجية الثانية، فإن هذا ستترتب عليه تداعيات كارثية على النفوذ الأمريكي في هذا الإقليم. 

3- التحالف مع القوى الدولية الأخرى: تتجاهل استراتيجية الموازن من الخارج حقيقة أن الدول الإقليمية تكون لديها خيارات أخرى غير التحالف مع واشنطن، وهي التحالف مع قوى دولية بديلة. فعلى سبيل المثال، فإنه إذا كانت الولايات المتحدة هي الحليف الاستراتيجي لبعض الدول العربية، وتساهم في دعم أمنهم، وينطبق هذا بصورة واضحة على الشرق الأوسط، فهناك مؤشرات قوية تُبرز سعي كل من روسيا والصين للعب دور متصاعد في المنطقة، خاصة بعد التدخل الروسي في سوريا.

4- الإخفاقات التاريخية للاستراتيجية: على الرغم من أن بريطانيا تمكنت على مدار عقود من اتباع استراتيجية الموازن من الخارج، فإن هذه الاستراتيجية قد أخفقت في بعض الحالات، ولعل المثال الواضح في هذا الإطار فشل القوى الأوروبية عبر اتباع هذه الاستراتيجية في وضع قيود على تنامي قوة ألمانيا، الأمر الذي ترتب عليه في النهاية اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية بين القوى الرئيسية في النظام الدولي، وهو ما يعني أن هذه الاستراتيجية لا تساهم دومًا في تجنب الحروب بين القوى الكبرى، كما يرى أنصارها. 

وفي الختام، يمكن القول إن اتّباع الولايات المتحدة لاستراتيجية الموازن بالتزامن مع تبني إدارة الرئيس "دونالد ترامب" سياسات إقليمية غير متسقة، تتسم بالغموض، وأحيانًا التخلي عن الحلفاء، كما في حالة تخلي واشنطن عن أكراد سوريا؛ يساهم في تقليص وإضعاف النفوذ الأمريكي بصورة أكبر، ويغري الدول الحليفة في أقاليم العالم المختلفة على تنويع تحالفاتها الاستراتيجية، بما يرتبه ذلك من إضعاف لنفوذها على المستوى الدولي.