أخبار المركز

"تهديد قادم":

إشكالية "عدم المساواة" في المجتمع الرأسمالي

29 أكتوبر، 2014


إعداد: سلمى العليمي

"النمو الاقتصادي غير المسبوق، والثورات المعرفية والتكنولوجية، لم يمنعا من التفاوت الطبقي وعدم المساواة الاجتماعية في العالم"، هذه هي خلاصة كتاب "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" للاقتصادي الفرنسي "توماس بيكيتي Thomas Piketty"، والصادر في مارس 2014 في طبعته الإنجليزية، وهو كتاب يقع في أكثر من 650 صفحة، واحتل سريعاً قائمة الكتب الأعلى مبيعاً في أوروبا والولايات المتحدة.

لقد أثار هذا الكتاب نقاشاً حاداً وجدلاً عالمياً حول الرأسمالية والعلاقة بين السلطة والمال، إذ يتمحور الكتاب أساساً حول فكرة عدم المساواة في توزيع الثروة، وتسارع احتكارها من قبل أقلية تزداد ثروة بمرور الزمن. ويذهب الاقتصادي الفرنسي إلى القول إنه إذا استمر إيقاع نمو ثروات الأكثر ثراء في العالم نفسه، فإنهم سوف يسيطرون خلال الخمسين سنة المقبلة على 100% من ثروات العالم، ويثير هذا الطرح جدلاً كبيراً مثلما تثيره دعوة الباحث إلى فرض ضريبة عالمية على الأثرياء، الذين يرى أنهم مستفيدون من التساهل الضريبي للحكومات معهم.

وفي إطار تعقيبه على مضمون الكتاب المشار إليه، نشر "روبرت واد" Robert H. Wade مقالاً بعنوان: " The Piketty phenomenon: why has Capital become a publishing sensation"  في دورية الشؤون الدولية International Affairs الصادرة عن المعهد الملكي للشؤون الدولية "شاتام هاوس"؛ حيث يركز "واد" في مقاله على أربعة عوامل ساهمت في نجاح الكتاب من وجهة نظره، وهي: (تحدي المعتقدات السائدة حول النظام الرأسمالي وعدم المساواة،  وتوقيت صدور الكتاب وتأكيده أن عدم المساواة في الدخل والثروة أصبحت بالفعل قضية مثيرة للجدل منذ الأزمة الاقتصادية في عام 2008، واحتواء الكتاب القلق النابع من الطبقة المتوسطة بعد هذه الأزمة الكبرى، وأخيراً لأن الكتاب لا يمثل تهديداً لطرق التحليل المألوفة).

تحدى المعتقدات السائدة حول النظام الرأسمالي

بدايةً يشير "روبرت واد" إلى امتداح كبار السياسيين في الغرب "عدم المساواة"، ففي الولايات المتحدة التزم أحد الحزبين السياسيين الرئيسيين منذ فترة طويلة الدفاع عن مصالح الأغنياء على حساب الأسر العادية، وكانت أكبر تخفيضات ضريبية في عهد الرئيس السابق "جورج دبليو بوش" على الدخل من الاستثمارات وعلى المواريث الكبيرة، كما انخفضت الضرائب على أرباح الأسهم من أقل من 40% إلى 15%، فضلاً عن إلغاء الضرائب العقارية. ومكنت الخطة الضريبية في عهد الولاية الثانية لأوباما الاشخاص الذين يعيشون على دخل الاستثمار بعدم دفع أي "ضريبة اتحادية" على الإطلاق.

وقد رأى معظم الاقتصاديين أن تدابير الحد من عدم المساواة ومساعدة الفقراء، ليست ضرورية بالمرة، بل إنها تمثل ضرراً كبيراً على الرفاهية الاجتماعية؛ فنظام "السوق" يضمن عدم المساواة إلى مستوى يوازن بشكل مناسب بين التكاليف والمنافع الاجتماعية، كما أن عدم المساواة ضرورية باعتبارها حافزاً للجهد والإبداع الذي يفيد المجتمع، ويتبنى هذا المفهوم اتجاهاً قوياً يرفض تدخل الدولة في حالة فشل "السوق".

وقد تحدى "piketty" هذه المعتقدات، فقد حلل ظاهرة عدم المساواة على مدى قرون، لافتاً إلى أن الدخل والثروة يميلان إلى التركز في يد نسب قليلة من السكان؛ ومن ثم يصل إلى نتيجة سلبية وهي أن الرأسمالية توجِد التفاوت الذي يتعمق بسبب زيادة نصيب أصحاب الثروة وتركز ثرواتهم يوماً بعد آخر. أما الاستثناءات التي يرصدها المفكر الفرنسي فتتعلق بارتباط تحسن التفاوت في الدخول إما: (أ) الحروب والكساد وحالات التضخم الجامح، (ب) معدلات الضريبة التصاعدية العالية (ج) نمو عال من الإنتاجية والسكان، فالعاملان الأول والثاني قد خفضا من معدل العائد على ملكية رأس المال، أما العامل الثالث فقد رفع معدل النمو الاقتصادي، وبالتالي رفع معدل نمو متوسط ​​الدخل.

وقد شهد القرن العشرون (من 1930 إلى 1970) فترة استثنائية من انخفاض عدم المساواة في الغرب، وذلك بفضل العوامل السابقة، ولكن في الظروف العادية، وتحديداً منذ 1970، بدأ اتجاه ارتفاع عدم المساواة في الظهور مرة أخرى، وهو ما شهدته العديد من الاقتصادات المتقدمة في العقود القليلة الماضية، حيث اتجهت نحو عدم المساواة في الدخل والثروة، كما ظهرت مستويات أعلى بكثير من عدم المساواة في "الأسواق الناشئة" حالياً، وستزال قائمة إذا ما لم تُتخذ تدابير قوية لكبحها.

وهكذا تحدث Piketty عن الافتقار إلى عدالة توزيع الثروة بشكل يدحض ما تعارفت عليه النظم الرأسمالية التي تترك لآلية الأسواق مهمة توزيع الثروة، معتمدة على أن المكاسب الرأسمالية بتناميها وفق حرية الأسواق سوف تتساقط ثمارها بالزمن لتعم الخيرات على الجميع.

ويرى Piketty أن المستقبل قد يشهد العودة نحو "الرأسمالية الوراثية"، لأن العديد من الأنشطة الاقتصادية تهيمن عليها الثروة الموروثة، التي ترسخ لحكم الأقلية الاقتصادية والسياسية أيضاً، بما يهدد أركان الأنظمة السياسية الديمقراطية.

"عدم المساواة".. قضية مثيرة للجدل بعد عام 2008

على الرغم من أن تحليلات Piketty قد تحدت الاعتقاد السائد بشأن السوق الحر وعدم المساواة، فإن هذا التحدي لم يفسر بمفرده نجاح كتابه، فقد كانت استنتاجاته واسعة ولكنها ليست جديدة، حيث وثق آخرون زيادات حادة بشأن عدم المساواة في البلدان المتقدمة منذ أواخر 1970، خاصةً في الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية، وإن كان هذا التوثيق أقل شمولية ومن دون بيانات كثيرة عن الثروة، ومن بين هؤلاء "لاري ميتشيل" ومؤلفان مشاركان في معهد السياسة الاقتصادية في واشنطن العاصمة، إذ وثقوا ارتفاع عدم المساواة في الدخل في الولايات المتحدة في منشورات دورية منذ عام 1988.

ويرى "روبرت" أن السبب فى نجاح كتاب Piketty هو "التوقيت"، حيث إنه لو نُشر قبل عام 2008 "فترة الأزمة الاقتصادية العالمية" لكان نجاحه أقل بكثير، كما تزامن صدور الكتاب في بدايات عام 2014 مع تزايد الحديث عن عدم المساواة، والتي أصبحت محل اهتمام. فقد بدأ العديد من الأمريكيين الذين اعتادوا على عدم القلق إزاء عدم المساواة، يتحدثون عنها بصورة أكثر سلبية مما كانت عليه منذ عقود، وأعلن الرئيس أوباما أن عدم المساواة يعد "التحدي الرئيسي في عصرنا"، فيما اعتبر البابا فرانسيس أن عدم المساواة هو "أصل الشر الاجتماعي"، كما اجتاحت الولايات المتحدة تظاهرات تندد بتزايد الفجوات بين الأغنياء والفقراء.

احتواء قلق الطبقة المتوسطة بعد عام 2008

احتوى الكتاب القلق الذي عم مساحات واسعة من المجتمعات الغربية منذ عام 2008، وقد فعل ذلك من داخل الخطاب الرأسمالي التقليدي، حيث ظهر ذلك جلياً في بريطانيا من خلال حملة حزب العمل منذ عام 2012 والتي حملت شعار "أزمة تكاليف المعيشة". وكشف اقتراع لمؤسسة "جالوب" في عام 2011 عن أن معظم الناس على الصعيد العالمي يرون أن مستوياتهم المعيشية في انحدار، ويعبرون عن تراجع الثقة في قدرة حكوماتهم على تغيير هذا الوضع.

ومع تزايد مشاعر الغضب والقلق حول ظروف المعيشة وما يرتبط بها من تدني خدمات الصحة العامة والمدارس والتغيرات المناخية.. إلخ، يقترح Piketty لحل مشكلة عدم المساواة إجراء تعديل جذري في نظم الضرائب، وفرض "ضريبة ثروة عالمية" تصل إلى 2% على الثروة. وقد طبقت الولايات المتحدة نظاماً شبيهاً بذلك من خلال فرض ضرائب حكومية على المواطنين أينما كانوا يعيشون ويعملون في العالم.

الكتاب لا يمثل تهديداً لطرق التحليل المألوفة

وفقاً لرؤية "روبرت"، يعتبر كتاب Piketty  في تحليله تقليدي ومطمئن، ومن ثم لا يمثل تهديداً لطرق التحليل المألوفة، فلو كان هذا الكتاب قد سُمي "الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين" لحقق نجاحاً أقل، لأن مصطلح "الرأسمالية capitalism" لايزال يرتبط بمعايير سلبية في ذهن الجمهور خاصةً لدى اليساريين، بينما "رأس المال capital" كلمة متداولة يومياً ويحمل استخدامها طابعاً إيجابياً في العموم.

وبشكل عام، يرى "روبرت" أن الكتاب يعد تقليدياً من ناحيتين، فهو من ناحية مثل "الاقتصاد النيو كلاسيكي" يتحدث قليلاً عن الإنتاج، وعلاقات القوة في العمل، لاسيما بين مالكي رؤوس الأموال والبقية في منظومة العمل، ومن ناحية أخرى، فإنه يفسر توزيع الدخول والثروة من خلال معايير "نيو كلاسيكية".

ويتطرق "روبرت" إلى تناول مستقبل "عدم المساواة"، لافتاً إلى التكاليف الاقتصادية الناتجة عن "عدم المساواة"، حيث أثبتت الدراسات أن البلدان التي توجد فيها نسب عالية من "عدم المساواة" تحقق معدلات نمو أقل ومتقلبة، بمعنى أن "عدم المساواة" يشكل عائقاً أمام النمو الاقتصادي، وبالإضافة إلى ذلك ثمة تكاليف وتبعات اجتماعية وصحية وسياسية لعدم المساواة.

ويؤكد "روبرت" أن أهم نتائج كتاب Piketty هي التحذير من أن المجتمع الرأسمالي مهدد بعدم الاستقرار اقتصادياً وسياسياً في حالة تآكل الطبقة الوسطى في ضوء استمرار المستويات الحالية والمستقبلية من تركز الدخول والثروة لدى فئة محدودة، ومن ثم يوصي الكتاب بإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والسوق، بمعنى أن يكون هناك دور إشرافي للدولة من ناحية، وإطلاق الحرية للقطاع الخاص تحت الرقابة من ناحية أخرى.

* عرض مختصر لمقال بعنوان: " The Piketty phenomenon: why has Capital become a publishing  sensation?"، والمنشور في سبتمبر 2014 بدورية "الشؤون الدولية" الصادرة عن المعهد الملكي للشؤون الدولية "شاتام هاوس".

المصدر:

Robert H. Wade, The Piketty phenomenon: why has Capital become a publishing  sensation? , International affairs, Volume 90, Number 5 (London: The Royal Institute of International Affairs, September 2014) pp 1069-1083.