أخبار المركز
  • أسماء الخولي تكتب: (حمائية ترامب: لماذا تتحول الصين نحو سياسة نقدية "متساهلة" في 2025؟)
  • بهاء محمود يكتب: (ضغوط ترامب: كيف يُعمق عدم استقرار حكومتي ألمانيا وفرنسا المأزق الأوروبي؟)
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)

عشر ملاحظات على هامش الأزمات العربية

06 فبراير، 2018


محقٌ المواطن العربي إن شعر بالتوجس من العام الجديد وما قد يحمله لبلادنا. محقٌ من يتطلع إلى العالم فيجده في حال سيولة غير مسبوقة، حيث مخاطر الصراع تتصاعد، وأوار المنافسات يشتعل، والتيارات الشعبوية تُعيد تشكيل السياسة في الكثير من البُلدان المؤثرة. وفي وسط هذا كله، نجد العالم العربي في موقع الدفاع عن وجوده، وعُرضة للتهديد في مصالحِه، بل وفي كيانِه وهويتِه كما شهدنا مؤخراً في الأزمة التي افتعلتها الإدارة الأميركية بالاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل. وهو ما فجر في داخل المواطن العربي انزعاجاً حقيقياً، وقلقاً مشروعاً على مصير واحدة من القضايا التي تُعد عنواناً للهويةِ العربية.

لقد استفحلت الأزمات العربية واشتدت حدتها واتسع نطاقها وطال أمدها حتى كادت، من فرط اعتياد الناس عليها وتعايشهم معها، تصبح هي القاعدة ودونها الاستثناء! وهذا وضعٌ جد خطير، حيث يسود الاعتقاد بأن غاية الممكن هو إدارة الأزمات وليس حلها، وأن المطلوب هو التكيف معها بدلاً من اقتلاع جذورها ومُجابهة مسبباتها. إن إدارة الأزمة إن صلُحت لمُعالجة أوضاعٍ ممتدة وأزماتٍ منخفضة الحدة، فإنها لا يُمكن أن تُمثل استراتيجية ناجعة لإطفاء نيران مشتعلة وحرائق مُلتهبة، إن لم نعمل على إخمادها سريعاً، لتمددت وتوسعت في محيطها، بل وانتقلت إلى مناطق أبعد.

وليس في نيتي في هذا المقام أن أُعدد الأزمات الخطيرة التي تجتاح المنطقة العربية، أو أن أخوض في تفاصيلها وأسرد تطوراتها، ولكني أضعُ أمام القارئ العربي الُمهتَم عشر ملاحظات على هامش هذه الأزمات، سجلتها من واقع مُعايشة فعاليات العمل العربي المُشترك خلال العام المنصرم، وأطرحها هنا داعياً المفكرين وأهل الرأي والمتخصصين لإجراء حوار مفتوح حولها:

أولاً: إن الأزمات العربية، وإن بدت منفصلة جغرافياً، ومُتباينة من حيث طبيعتها وظروفها وهوية الأطراف الفاعلة فيها، ينتظمها خيطٌ جامع، وتوحدها عناصر مشتركة. فالأغلبية الكاسحة من هذه الأزمات نتاجٌ مباشر لظاهرة «الفراغ الاستراتيجي» التي نشأت عن أحداث 2011 وما تلاها، حيث أفرزت هذه الأحداث، من بين ما أفرزت، عدداً من الصراعات الخطيرة التي كان من شأنها إضعاف وإسقاط حكومات وكياناتٍ سياسية ومنظومات أمنية كانت تتحكم في أعداد هائلة من السكان وتُسيطر على مساحات من الأراضي. وكان من مُحصلة ذلك أن بزغ فراغٌ خطير، من الناحية الأمنية والسياسية، في قلبِ العالم العربي وأطرافه. وهذا الفراغُ هو محور الصراعات الجارية حالياً في المنطقة، ذلك أن السياسة لا تقبل الفراغ، والأمن لا يتعايش مع غياب السلطة. إن السباق على ملء «الفراغ الاستراتيجي» هو ما هيأ الفرصة لأطراف من داخل المنطقة، وفي جوارها القريب، وبامتداد العالم الخارجي، لتتصارع على انتزاع مواطئ أقدام لها، وهو ما أطلق الطموحات والأطماع لإعادة رسم الخرائط وتحصيل «الغنائم».

ثانياً: إن زلزال 2011 ضرب المنطقة في وقتٍ لم يكن فيه النظام العربي في أفضل أحواله، بل كان – ولا مهرب من الاعتراف بهذا - منقسماً على ذاته بين محاور مختلفة وتتجاذبه تيارات مُتباينة، اختار البعضُ أن يُصنفها بـ«الاعتدال والممانعة». وقد أدت الصراعات التي نشأت بعد 2011 إلى مُفاقمة هذا الاستقطاب بل وتفجيره في صورة نزاعات بالوكالة، وصراعات مُسلحة، تورطت فيها أطرافٌ مختلفة، من داخل المنطقة وخارجها. وتداخلت الصراعات وتشابكت إلى حدٍ صار معه صعباً تَبيُّن مصالح كل طرفٍ وغاياته. وكان من شأن هذا الوضع أن يُفضي بالعالم العربي إلى هاويةٍ حقيقية لو أن السياسات العربية استمرت على حالها من التشرذم والتخبط والتضارب.

ثالثاً: إن العرب لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام واقع الفوضى والتشرذم، إذ تشكل إدراك واسع بين القيادات والشعوب العربية لضرورة استعادة زمام المبادرة وتكوين جبهة عربية لمواجهة أخطر التحديات التي تواجه الدولة الوطنية كمحلٍ أعلى للولاء والانتماء، وبرز، بالتدريج، توافقٌ بين دول عربية رئيسية حول توصيف الخطر وتحديد ماهية التهديد، وكان ذلك – في نظري - نقطة البداية الصحيحة للخروج من النفق المظلم. لقد أدركت الدول العربية أن الخطر ليس موجهاً لمصالح هذه الدولة أو تلك، وإنما لمفهوم الدولة الوطنية الحديثة ذاته، وأن التهديد - بهذا المعنى - شاملٌ في مداه وخطيرٌ في أبعاده، وأن مواجهته تتطلب - أول ما تتطلب - شمولاً في الرؤية ووحدة في التحرك وتنسيقاً في العمل بين الدول العربية. وأصبح الاستقطاب واضحاً في العالم العربي بين من يرفعون لواء الدولة الوطنية، وبين من يعادونها ولا يعترفون بها، ويوجهون الولاء لما عداها من انتماءات تدخل كلها في نطاق «الدين السياسي» أو «تسييس الدين»، فضلاً عما تعمده هؤلاء من خلط مُجحف بين مُمارسة السياسة والانخراط في العنف. وقد زاد من وضوح هذه الصورة ما جرى منذ 2014 من تضخم غير مسبوق للتيارات الإرهابية، الذي تجسد في نجاح «داعش» في السيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي والتحكم في ملايين من البشر في المشرق العربي، فضلاً عن بُقع في المغرب العربي. وهو وضعٌ، على كارثيته، أسهم في توحيد الرؤية بين الأغلبية العُظمى من الدول العربية وساعد في إدراكها للمصير المشترك.

رابعاً: برغم توفر قدر أكبر من التوافق بين الدول العربية الرئيسية في تعيين التهديدات المُشتركة، وبرغم ما تحقق على صعيد مواجهة بعضٍ من هذه التهديدات الخطيرة وعلى رأسها خطر تنظيم داعش الذي جرى - ولله الحمد - دحره واستئصاله من المدن التي كان يُسيطر عليها (وبقي استئصاله من العقول، وهذا نضالٌ أكبر وجهادٌ أخطر)... أقول رغم هذا، إلا أنه لا يمكن القول بأن ثمة «استراتيجية موحدة» للتعامل مع التهديدات، أو أن هناك أجندة واضحة، تشترك فيها الدول العربية جميعاً وتُجمع عليها، لمواجهة المخاطر والتحديات. ليس هناك - مثلاً - ما يُمكن أن نطلق عليه «سياسة عربية إزاء الأزمة السورية»، نعم هناك قرارات صادرة عن مجلس جامعة الدول العربية تُحدد الموقف العربي الجماعي من هذه الأزمة، إلا أنه لا توجد «استراتيجية للفعل والتحرك». هناك، وللأسف، استراتيجية إيرانية، وأخرى تركية، وثالثة روسية... وغيرها. ولكن لا توجد استراتيجية عربية! وقل مثل هذا عن الأزمة الليبية. هناك جهودٌ لمجموعة من الدول، وثمة أفكار جيدة وتحركات نشطة لمواجهة الفوضى في ليبيا وإعادة بناء وتوحيد المؤسسات في هذا البلد، ولكن لا تحرك جماعياً في إطار عربي يحشد هذه الجهود ويجمعها في بوتقة واحدة.

خامساً: كان من نتيجة هذا الوضع المؤسِف غيابُ أي نقاش جماعي جديّ للقضايا الاستراتيجية العربية في سياقها الشامل. ثمة جملة من المخاطر تواجهها كل دولة، أو مجموعةٍ من الدول، فرادى. ويجري التعامل مع هذه المخاطر «حالة بحالة»، وفي الغالب عبر رد الفعل وليس المبادأة. ومن ذلك مثلاً أن تتعرض عاصمةٌ عربية لتهديد ما، فتجري الدعوةُ لعقدِ اجتماعٍ وزاري طارئ ليُصدِر قراراً في هذا الشأن، أو أن تواجه القضية الفلسطينية تهديداً وجودياً، فتتم الدعوةُ لعقد المجلس الوزاري لمناقشتِه. وهذه التحركاتُ، على أهميتها في مواجهة المخاطر الآنية، لا تصلح كاستراتيجية متكاملة وشاملة لمُجابهة التهديدات أو الاستعداد لها.

سادساً: إن الأمن القومي العربي ما زال يجري التعامل معه بمنطق التجزئة إلى ملفات. فهناك ملفٌ لمكافحة الإرهاب، وآخر لاستمرار الاحتلال الإسرائيلي، وثالث للخطر الإيراني، ورابع للأطماع التركية، وخامس لأزمات اللاجئين وإعادة الإعمار... وهكذا. إن هذا النهج القائم على تجزئة القضايا والملفات لا يسمح - من وجهة نظري - بحشد القوة العربية الإجمالية في التعامل الناجع والفعّال مع أيٍ من هذه الملفات الخطيرة والضاغطة، بل يترك كل دولة عربية - أو مجموعة من الدول - لمواجهة ما تراه تهديداً مُباشراً لها ولأمنها ووجودها ومصالحها. إن الأمن القومي العربي، كما أراه وأفهمه، هو ملفٌ واحدٌ متكامل ومترابط يتضمن عدداً من القضايا، التي يتعين التعامل معها بمنطق الربط وليس التجزئة. وينبغي العمل على إيجاد آلية تسمح بمناقشة صريحة، تتسم بالشفافية والمكاشفة، بين الدول العربية لوضع أجندة مُتفق عليها لأولويات الأمن القومي العربي.

سابعاً: إن الخصوم الإقليميين يوظفون هذا الوضع لصالحهم، وينفذون من ثغراتٍ في الجسد العربي. ولا أرى سبيلاً للتصدي للتدخلات الإقليمية بصورة فعّالة، إلا عبر مناقشة هذه التدخلات والتهديدات جميعها كملفٍ واحدٍ متكامل. وأقول بصراحة أكثر إن التهديد الذي تتعرض له الرياض من قِبل الصواريخ الحوثية المُصنعة إيرانياً هو في واقع الأمر تهديدٌ لكل العواصم العربية، من مسقط إلى الرباط، مروراً بالقاهرة، ويتعين تعبئةُ عناصرِ القوةِ العربية الإجمالية في مواجهته لكي تصل للخصوم رسالةٌ واضحةٌ أنهم لا يواجهون دولةً أو دولتين، وإنما كتلة بشرية واقتصادية وعسكرية هائلة، لها وزنها وقدرتها. وبالمثل، فعندما تتعرض دولة كمصر، يمثل سكانها أكثر من ربع سكان العالم العربي، لما يُهدد أمنها المائي، فإنه يتعين النظر إلى ذلك التهديد - بما ينطوي عليه من آثارٍ اجتماعية واقتصادية هائلة - باعتباره خطراً إقليمياً داهماً، وأن يجري التعامل معه على هذا النحو. إن مناقشة القضايا كلها على هذا النحو الشامل والمترابط هي الكفيلة وحدها بأن تحمل كل طرفٍ عربي على الحديث بشكل صريح عن همومه ومخاوفه من ناحية، وعما يتوقعه من الآخرين (وهذا هو الأهم!) من ناحية أخرى.

إن الإطار الأمثل لإجراء مثل هذا النقاش الصريح الشفاف هو جامعة الدول العربية التي تُمثل إلى اليوم الأداة الوحيدة المتوفرة لتحقيق توافق - ومن ثمَّ فعلٍ وتحرك - عربي جماعي حول أي موضوع أو قضية، وما زالت هي المنظمة الأقدر - بحكم التاريخ والقدرات - على احتضان مثل هذا النقاش، والعمل على إنضاجه وترجمته في خطة عمل واستراتيجية تحرك.

ثامناً: إن التعامل الناجع مع التهديدات الإقليمية، والأطماع المُحدقة بالعالم العربي، يكون بسد الثغرات التي نفذ منها الطامعون، وتجسير الفجوات التي تسلل من خلالها الطامحون. إن ترسيخ الدول الوطنية، وإنهاء حالات الصراع والاحتراب الأهلي في بعض الدول يمثلان، في رأيي، الاستراتيجية الأكثر فاعلية في مواجهة التدخلات الإقليمية غير الحميدة التي وجدت لأنفسها مكاناً في وسط الفوضى وبسببها.

تاسعاً: إن المشهد العربي، كما أراه في شموله، ليس كله خراباً وإحباطاً. ثمة دلائل وإشارات، هنا وهناك، على توفر الإرادة لدى الكثير من القيادات والنخب والشعوب على الخروج من «المأزق الحضاري» الذي نعيشه، ونكابد تبعاته المُرّة. أُسجل - على سبيل المثال لا الحصر - جهوداً خارقة في الخليج ومصر والمغرب العربي من أجل «تغيير الواقع الاقتصادي الاجتماعي» بصورة جذرية. وهي جهودٌ تنطوي على قدرٍ كبير من الخيال وإرادة التحدي واقتحام المشكلات واللحاق بالعصر، كما ترتكز - وهذا هو الأهم - على حقيقةٍ جوهرية مؤداها أن نصف سكان العالم العربي تقل أعمارهم عن 24 عاماً، أي أننا نعيش المستقبل اليوم! ولا ينبغي أن نتعامل مع الحاضر بوصفه امتداداً للماضي، بل باعتباره جسراً قصيراً إلى مستقبل يتشكل بسرعةٍ خاطفة أمام أعيننا. ومع كل الاعتبار لهذه الجهود في ميدان التنمية، فإنني أرى - وبكل أمانة - أنها ستظل عُرضة للانتكاس ما لم نتمكن من توفير البيئة الإقليمية المستقرة التي تسمح بتواصل التنمية، وهذا ما أسميه «تحصين النمو» الذي لن يتأتى إلا عبر استراتيجية أمنية جماعية توفر الأمن للجميع، وبالجميع، وبما يُفضي إلى هزيمة الإرهاب واجتثاث التطرف وإعادة صياغة الثقافة السائدة في المُجتمعات.

عاشراً: إن الباعث على تنسيق المواقف العربية، وإعادة ترتيب البيت العربي من الداخل لم يعُد مجرد رؤى آيديولوجية أو أفكار سياسية نظرية، وإنما حقائق تفرض نفسها على الأرض، وتحديات مطروحة على أجندة العمل العربي. واقتناعي الراسخ أن الدول العربية في قاربٍ واحد، إما أن تصل إلى مرفأ الأمان معاً، وإما - لا قدرَ الله - أن تضل السبيل معاً. إن العروبة اليوم ليست شعاراً عاطفياً بل ضرورة سياسية واستراتيجية. إنها الفكرة الوحيدة التي يُمكن أن تجمع شمل كافة المدافعين عن الدولة الوطنية في مواجهة جماعات الإرهاب، ومروجي الخراب، وأنصار الطائفية وأصحاب الدعاوى الانفصالية. العروبة، في صيغتها الحديثة المُنفتحة التي تقبل بالتعددية من دون استعلاء أو إقصاء، هي السبيل لإعادة لملمة ما تبعثر، واستعادة ما فُقِد. ويظل حكم القانون وتعزيز تكافؤ الفرص واحترام الهويات المختلفة في إطار الدولة الوطنية الحديثة - دولة كل مواطنيها - حصوناً تحمي هذه الدولة ذاتها من أسباب التفسخ، ومخاطر التفكك والفوضى.

(.........)

وأخيراً أقول إن حواراً صريحاً بين الدول العربية حول الأزمات والتهديدات، داخلية كانت أم إقليمية أم دولية، هو السبيل الوحيد لتشكيل موقف موحد وصلب يضع العرب في موضع القوة إزاء الآخرين من الطامحين والطامعين... وما أكثرهم. وهو في ذات الوقت ما يُمكِّنهم من التصدي لتهديدات لا تمس دولة بعينها، وإنما تطال الكيان العربي وهويته الجامعة، وعلى رأسها التهديد الخطير الذي تتعرض له في الآونة الأخيرة القضيةُ الفلسطينية، وفي القلب منها القدس الشريف. إن ما تتعرض له القضية الفلسطينية من محاولات مكشوفة لتصفيتها لا بد أن يدق جرس إنذار للجميع، ويستنفر فينا كل طاقتنا على العمل الجماعي المتضافر.

إنني لم أفقد اليقين أبداً، وسط هذه التحديات الخطيرة، في أن العالم العربي قادرٌ على تضميد جراحه ولملمة شمله واللحاق بعصره، فأحلك اللحظات ظُلمةً هي تلك التي تسبق انبلاج الفجر.

*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط