تتعرض تركيا في الفترة الحالية لضغوط إقليمية ودولية لا تبدو هينة، وذلك على المستويات المختلفة السياسية والعسكرية والاقتصادية، الأمر الذي دفعها إلى محاولة احتواءها عبر التهدئة مع بعض الدول. وقد انعكس ذلك في إعلان قبولها التفاوض لحل أزمة شرق المتوسط سلمياً، والتواصل مع المسئولين الأوروبيين لتقليص تأثير التضامن الأوروبي ضدها. ويتوازى ذلك مع استمرار سعيها لاستقطاب حلفاء جدد لها خاصة من القارة الأفريقية بهدف تأييد السياسة التي تتبناها في المحافل الدولية.
اتجاهات متوازية:
دفعت التحركات التركية في حوض شرق المتوسط العديد من الدول والمنظمات الدولية والإقليمية إلى تكثيف ضغوطها على أنقرة للحد من تلك التحركات، وذلك على المستويات المختلفة. فعلى المستوى السياسي، لوحت بعض الدول الأوروبية، خاصة فرنسا واليونان وقبرص وألمانيا، بفرض عقوبات خلال قمة الاتحاد الأوروبي التي ستعقد يومى 24 و25 سبتمبر الجاري.
كما استمر التضامن ضد أنقرة، على نحو اتضح في إعلان 7 دول أوروبية في 10 سبتمبر الحالي، خلال اجتماع مؤتمر قمة دول جنوب الاتحاد الأوروبي "ميد-7"، دعمها وتضامنها الكاملين مع قبرص واليونان في مواجهة الانتهاكات المتكررة لسيادتهما وحقوقهما السيادية من قبل أنقرة، والمطالبة بإحالة ملف ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وقبرص إلى محكمة العدل الدولية.
وتوازى ذلك مع إدانة البيان الختامي لاجتماع وزراء الخارجية العرب في 9 سبتمبر الجاري، التدخلات التركية في الشئون العربية، مع الترحيب بتشكيل لجنة وزارية عربية من أجل متابعة هذه التدخلات.
وعلى المستوى العسكري، اتجهت اليونان إلى زيادة قدراتها العسكرية، حيث أكد رئيس الوزراء كيرياكوس ميتسوتاكيس في 11 سبتمبر الحالي، أن بلاده ستعزز قواتها المسلحة من خلال شراء 18 طائرة رافال و4 فرقاطات من فرنسا.
وخلال زيارة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إلى قبرص في 12 سبتمبر الجاري، تم توقيع مذكرة تفاهم لزيادة التعاون في القضايا الأمنية والعسكرية بين الطرفين، وهو ما يأتي استكمالاً للخطوات الأخيرة التي اتخذتها الولايات المتحدة برفع حظر الأسلحة جزئياً وتوفير برنامج التدريب العسكري لقبرص.
وأعلنت اليونان وقبرص وإسرائيل في 8 سبتمبر الحالي، عن التوصل إلى برنامج التعاون العسكري الثلاثي لعام 2021، وذلك بهدف تعزيز التعاون العسكري بينها. وقبل ذلك، أجريت مناورة بحرية يونانية قبرصية إيطالية فرنسية، غرب قبرص، في الفترة من 26 إلى 28 أغسطس الفائت.
وقد دفع هذا التصعيد بعض القوى إلى تعزيز وجودها العسكري في البحر المتوسط، حيث وصلت السفينة الحربية الأمريكية "يو إس إس هيرشل وودي ويليامز" إلى جزيرة كريت اليونانية في 20 أغسطس الفائت، كرد فعل لحشد بوارج يونانية وتركية في المنطقة، وسبقتها فرنسا بنشر فرقاطتين في شرق البحر المتوسط في الشهر نفسه، قبل وصول حاملة الطائرات الفرنسية "شارل ديجول" لشرق المتوسط في 5 سبتمبر الجاري.
وعلى المستوى الاقتصادي، خفّضت الوكالات الأمريكية المعروفة تصنيف تركيا الائتماني، بما يعكس تراجع الاقتصاد التركي، ويضيف أعباءً على الميزانية التركية على خلفية تزايد تكلفة المخاطر عند استدانة أنقرة من الخارج، حيث خفّضت وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني في 11 سبتمبر الجاري، تصنيف تركيا إلى B2 من B1، وأبقت النظرة المستقبلية للبلاد عند سلبية، مرجعة ذلك إلى توقع حدوث أزمة في ميزان المدفوعات، وعدم قدرة مؤسسات الدولة –خاصة البنك المركزي- على التعامل بشكل فعال مع التحديات الخارجية، إضافة إلي زيادة مستويات المخاطر الجيوسياسية التي قد تسرع وتيرة أي أزمة، مثل علاقاتها بالولايات والاتحاد الأوروبي والتوتر في شرق المتوسط.
آليات الاحتواء:
دفع تزايد الضغوط الدولية السابقة تركيا إلى التحرك من أجل احتوائها، وتقليص حدتها وتأثيرها على الداخل التركي، حيث قامت بسحب سفينة البحث "أوروك ريس"، والتي كان المقرر لها إجراء عمليات المسح السيزمي لاستكشاف الغاز الطبيعي في شرق المتوسط قرب الجزر اليونانية حتى 25 سبتمبر الجاري، وذلك غداة زيارة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إلى قبرص.
وتوازى ذلك مع تأكيد وزير الخارجية مولود تشاويش أوغلو في 12 سبتمبر الجاري، أن تركيا تؤيد الحوار غير المشروط حول ملف شرق المتوسط. وتلى ذلك تصريحات للرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 18 من الشهر نفسه، قال فيها أنه "ليس هناك مانع في الحوار مع مصر".
كما سعت أنقرة إلى التواصل مع العديد من مسئولي الدول الأوروبية، حيث أجرى الرئيس أردوغان اتصالاً مع رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي ورئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال، إضافة إلى عقد اجتماع مشترك بين وزيري خارجية تركيا ومالطا، حيث أكد وزير الخارجية المالطي وايفاريست بارتولو أنه يجب على الاتحاد الأوروبي أن ينظر في علاقاته مع تركيا من المنظور الاستراتيجي.
وواصلت تركيا أيضاً محاولاتها استقطاب دعم العديد من الدول النامية خاصة الأفريقية، للحصول على تأييد وأصوات تلك الدول في المحافل الدولية، وهو ما انعكس في قيام وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو بجولة أفريقية شملت مالي وغينيا بيساو والسنغال خلال الفترة من 9 إلى 11 سبتمبر الجاري، إضافة إلى جولة أفريقية سابقة في الفترة من 20 إلى 22 يوليو الماضي لكل من توجو والنيجر وغينيا الاستوائية.
ختاماً، تعكس التحركات التركية المستمرة لمواجهة الضغوط الدولية والإقليمية التي تتعرض لها، تصاعد تأثير تلك الضغوط، خاصة مع تنوعها على عدة مستويات، فضلاً عن تزايد إدراك القوى الإقليمية والدولية المعنية بأزمات المنطقة لخطورة الأدوار التي تقوم بها أنقرة في الفترة الحالية.