تصاعدت التهديدات الناتجة عن الظواهر السكانية والاقتصادية والصحية على غرار انتشار الأوبئة، التي تواجه أمن واستقرار الدول العربية. وبات هناك اتجاه رئيسي في الأدبيات يشير إلى مضاعفات تهديد الأمن الصحي الذي يتزايد في إطار التجمعات الموسمية وتدفقات العمالة العابرة للحدود وتزايد تدفقات اللاجئين والنازحين من نيران الصراعات الداخلية. فالأمراض الوبائية صارت ذات طبيعة اكتساحية، وتشهد معظم دول الإقليم (إن لم يكن العالم) حالات أو احتمالات خاصة بها، رغم اختلاف أسبابها ومظاهرها وآليات التعامل معها من حالة إلى أخرى.
وفي هذا السياق، سبق أن عانت دول المنطقة من تأثير انتشار مجموعة من الأوبئة مثل سارس "الالتهاب الرئوي اللانمطي" وأنفلونزا الطيور وأنفلونزا الخنازير وكورونا وإييولا، فضلاً عن أوبئة المخيمات خاصة السل والتهاب الكبد الوبائي والتيفود والإيدز والطاعون وشلل الأطفال. ومؤخرًا، شهدت بعض الدول العربية انتشارًا لمرض الكوليرا، وتحديدًا في محافظات أو ولايات ذات كثافة سكانية مرتفعة في السودان وجنوب السودان واليمن والجزائر والعراق وسوريا، إلى جانب احتمال تمدده إلى ليبيا وتونس والمغرب. وحذرت كتابات عديدة من تحول الكوليرا إلى وباء إقليمي وفقًا لأسوأ سيناريو محتمل.
ويعد مرض الكوليرا أحد أكثر الأمراض المعدية المسببة للوفاة بعد تعرض شخص إلى إسهال حاد تتسبب فيه بكتيريا تنتشر عن طريق تناول أغذية أو شرب مياه ملوثة على نحو يعكس غياب شروط النظافة العامة وندرة الموارد واختراق الحدود الجغرافية وهشاشة المنظومة الصحية وضعف جهود المواجهة بالسرعة اللازمة وعدم تعاون الشركاء المحليين والدوليين، على الرغم من أن الأمراض "عابرة للحدود" وليس "قاطنة داخل الدول".
وعبّر عن هذا الوضع ممثل منظمة الصحة العالمية لدى ليبيا حسين جعفر، في أحد المؤتمرات الصحية بالعاصمة طرابلس في 16 أغسطس الماضي، قائلاً: "كل الدول في المنطقة قد تحدث بها كوارث، ولكن التركيز يكون على مدى استجابة هذه الدول لتلك الكوارث"، وأضاف: "الأمراض ليس لها حدود... فمثلاً بوجود أمراض في جنوب السودان، ربما تقطع أحد الحدود في اتجاه ليبيا، ويؤدي ذلك إلى انتشار تلك الأمراض".
وقد عكس انتشار وباء الكوليرا أوضاع وعلاقات بعض الدول العربية، بدرجات متفاوتة، على المستويين الداخلي والخارجي، كما توضحه النقاط التالية:
خدمات متردية:
1- تهالك البنى التحتية: وهو ما يتسم به أداء عدد من حكومات المنطقة. إذ أن مرض الكوليرا ناتج عن تلوث مياه الصرف الصحي، الذي يسبب قوة الإسهال، وقد يؤدي إلى الجفاف الشديد والموت في حالة غياب العلاج الفوري، حيث توفى شخصان جزائريان من جراء عدوى الكوليرا الناتج عن اشتباه تلوث الخضر والفواكه منذ عودة ظهور الكوليرا في 7 أغسطس 2018، في حين كان آخر ظهور للمرض في البلاد في عام 1996. وحددت وزارة الصحة منبعًا مائيًا يقع غرب العاصمة، وتحديدًا في قرية سيدي الكبير في ولاية تيبازة باعتباره سبب الوباء.
وقد أعلنت وزارة الصحة الجزائرية، في بيان صحفي بتاريخ 31 أغسطس الماضي، أن عدد الذين تأكدت إصابتهم بوباء الكوليرا بلغ 74 حالة في ست مناطق، وذلك منذ ظهوره في 7 أغسطس الماضي، مشيرة إلى أن 132 مريضًا غادروا المستشفى بعد شفائهم، إذ انتشر الوباء في البليدة وتيبازة والبويرة والمدية وباتنة وعين الدفلي. وثمة تخوف من اتساع النطاق الجغرافي للمرض في ولايات أخرى، على الرغم من إعلان وزارة الصحة أنه بات محصورًا في ولاية واحدة من ست ولايات كان سجل فيها.
ولا يقتصر هذا الوضع على الجزائر، إذ أن مشكلة النظافة التي تواجه بعض الولايات في السودان تمثل خطرًا كبيرًا على السكان. وكذلك الحال في دولة مثل سوريا، حيث تتهالك البنى التحتية الطبية، بالتوازي مع عدم قدرة منظمات الإغاثة الإنسانية على الدخول، وهو ما يسمح بانتشار الوباء. وعزت منظمة اليونيسيف تفشي الكوليرا في العراق إلى انخفاض منسوب المياه في نهر الفرات، على نحو أدى إلى تلوث النهر والآبار الضحلة بمياه الصرف الصحي. ولاتزال أحياء في المدن العراقية بلا شبكات صرف صحي وتفتقر إلى محطات تحلية المياه.
مخرجات الحروب:
2- استمرار الصراعات المسلحة: التي تضعف من القدرة على مواجهة المشكلات المعيشية. إذ حذر المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفانت دوجاريك، في مؤتمر صحفي في 30 أغسطس الماضي، من أن اليمن تواجه موجة ثالثة محتملة من تفشي الكوليرا، لا سيما بعد تزايد عدد المصابين خلال الأسابيع الأخيرة، مشيرًا إلى أنه منذ إبريل 2017، تم الإبلاغ عن أكثر من 1.1 مليون حالة مشتبه بإصابتها بالكوليرا وتوفى نتيجتها 2310. ومنذ بداية شهر يناير الماضي وحتى منتصف شهر أغسطس، تم الإبلاغ عن نحو 120 ألف حالة، على نحو يعكس دور حركة الحوثيين في إفقار الخدمات العامة ومنها توفير المياه النظيفة.
ولعل انتشار مرض الكوليرا في جنوب السودان خلال عام 2017 يرجع إلى استمرار الصراع المسلح على مدى ما يقرب من أربع سنوات. وفي هذا السياق، قال مكتب منظمة الهجرة الدولية في جنوب السودان، في بيان صحفي نشرته بعض وكالات الأنباء بتاريخ 10 أغسطس 2017، أن عدد حالات الإصابة بمرض الكوليرا في جنوب السودان وصل إلى 18 ألف إصابة منذ يونيو 2016، بينها 328 حالة وفاة، مطالبًا بـ"ضرورة مضاعفة الجهود لمواجهة مخاطر انتشار الكوليرا في بلد يشهد معدلات كبيرة من التشرد ونقص الغذاء وسط المدنيين المتأثرين بظروف الحرب".
اتصال غائب:
3- ضعف تعاون الحكومات المركزية والمحلية: وذلك في مواجهة الأزمات المستدامة، حيث تضاربت التقديرات المعلنة بشأن حالات الإصابة بالكوليرا في العراق، إذ أعلنت وزيرة الصحة عديلة حمود، في 26 أغسطس الماضي، عن تسجيل 1500 حالة إصابة بإسهال شديد دون تسجيل إصابات بالكوليرا، في حين أشار المدير العام لدائرة صحة البصرة رياض عبدالأمير، إلى تسجيل نحو 17 ألف حالة إصابة بأمراض المغص المعوي والإسهال بسبب المياه الملوثة خلال الأسبوعين الأخيرين من أغسطس الماضي، نحو عشرين في المائة منها تنطبق عليها أعراض وباء الكوليرا.
وقال عبدالأمير: "إن مستشفيات البصرة تستقبل نحو 1500 إصابة في اليوم الواحد بشكل متواصل". كما حذرت مديرية التربية في البصرة من ظهور حالات إصابة بمرض الكوليرا بين الطلبة الذين يستعدون لبدء العام الدراسي الجديد، جراء استخدامهم للمياه الملوثة في المدارس. كما نظمت نقابة الصحفيين في البصرة، في 28 أغسطس الماضي، وقفة احتجاجية بخصوص أزمة المياه في المحافظة، ودعت النقابة الحكومتين المركزية والمحلية إلى عدم إطلاق الوعود غير الواقعية، والعمل على اتخاذ خطوات عملية لمعالجة الأزمة.
توتر داخلي:
4- احتقان علاقة نظم الحكم بقوى المعارضة: وهو ما ينطبق على حالة السودان حتى بعد انفصال جنوب السودان. إذ ألقى تحالف قوى الإجماع الوطني السوداني المعارض في 3 يونيو 2017، المسئولية عن انتشار مرض الكوليرا على عاتق الحكومة نظرًا لصمتها وتحاشي الإعلان عن الوباء قائلاً: "النظام ينكر الوباء الذي اجتاح السودان، تارة يصفه بالإسهال المائي وتارة يمارس الصمت والتغاضي عن تحمل مسئولياته إزاء هذه الكارثة المحدقة، وعدد الضحايا وسبل العلاج والوقاية".
تحركات غير مرئية:
5- رخاوة الحدود الجغرافية المشتركة: تسود مخاوف من انتقال المرض عبر الحدود بين الجزائر ودول الجوار الجغرافي لها، وخاصة ليبيا. فعلى سبيل المثال، رفعت وزارة الصحة في حكومة الوفاق الليبية، في بيان صحفي بتاريخ 27 أغسطس 2018، درجة التأهب والاستعداد لمواجهة انتقال مرض الكوليرا من الجزائر، وطالبت الوزارة كلاً من راصدي برنامج الإنذار المبكر وفرق الاستجابة السريعة، بضرورة أخذ الحيطة والحذر من الأشخاص الوافدين من الجزائر، والتقصي عن حالتهم الصحية في حالة ظهور أى أعراض للمرض لديهم.
ولم يقتصر الأمر على مخاطر احتمال انتشار وباء الكوليرا في ليبيا التي تشهد معدلات متزايدة من الهجرة غير النظامية على نحو ساهم في انتشار الأمراض المعدية في البلاد مثل السل والإيدز، إذ عرض عيسى العمياني وكيل وزارة الصحة بحكومة الوفاق الوطني الليبية نتائج المسح لآثار الهجرة على الصحة العامة بالعاصمة طرابلس، في اجتماع عقد في 16 أغسطس الماضي، وقال في هذا السياق: "لا أحد ينكر أن الهجرة غير الشرعية أثرت كثيرًا على الجانب الصحي، فهناك أمراض ظهرت في ليبيا، من بينها السل الرئوي، نتيجة لتوافد مهاجرين بطريقة غير شرعية إلى ليبيا".
وركزت مداخلة ممثل جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية عبدالسلام علوان المتعلقة بالتداعيات الصحية لظاهرة الهجرة غير الشرعية، خلال الاجتماع ذاته، على أن "بعض الأمراض الموجودة في مراكز الإيواء هى أمراض مصاحبة للمهاجرين، كالجرب والقمل، ونقص المناعة، والالتهاب الكبدي"، مشيرًا إلى أن "الهدف من المسح هو تحديد العوامل المؤثرة على صحة المهاجرين والموظفين الإداريين داخل مراكز الإيواء، من أجل توفير أسس التخطيط والاستجابة لمخاطر الهجرة على الصحة العامة، وإنشاء نظام للرصد والتقييم".
استعدادات مسبقة:
6- خطوات احترازية للتعامل مع المرض: وهو ما ينطبق على حالة المغرب. إذ نفى رئيس الحكومة سعد الدين العثماني وجود أى تسرب لوباء الكوليرا إلى بلاده، لا سيما في ظل شائعات انتشرت حول تهديد وباء الكوليرا لصحة المواطنين، وأشار، في اجتماع رسمي بتاريخ 30 أغسطس الماضي، إلى أنه "لا محاذير من تناول الأطعمة أو استخدام صنابير مياه الشرب".
وأضاف العثماني: "إن هناك يقظة مستمرة من طرف وزارة الصحة لمواجهة المرض. كما أن الوزارة تقوم بالتنسيق المستمر مع مكتب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التابع لمنظمة الصحة العالمية، حيث قامت باتخاذ إجراءات استباقية واحترازية لحماية حدود البلاد وحماية صحة المواطنين من تسرب هذا الوباء"، وأكد أن "هناك حالة تأهب سترفع للدرجة القصوى حال تسجيل أى إصابة ولن نتردد بمواجهة الرأى العام المغربي".
ضعف مائي:
7- نقص الحصص المائية القادمة من دول الجوار: وخاصة تركيا، وهو ما عانت منه بعض محافظات العراق، الأمر الذي تسبب بانخفاض مناسيب المياه في بعض المحافظات، ما أدى إلى ظهور أعراض مرض الكوليرا فيها، على نحو ما أكدته لجنة الصحة النيابية في سبتمبر 2015.
تسييس الأوبئة:
يشير العرض السابق إلى أن ثمة أبعادًا سياسية تتعلق بانتشار الكوليرا في بعض الدول العربية، وضعف إجراءات مواجهتها وخاصة في المناطق الحدودية ومخيمات اللاجئين وأحزمة العشوائيات، على نحو يتطلب حشد الموارد، وبدء حملات التحصين ضد الكوليرا، وامتلاك الأمصال والأدوية قبل ظهور حالات مرضية، وتوفير المياه عبر عربات للمناطق المتضررة، وتعزيز الوعى الصحي من خلال توزيع الأدلة الإرشادية للوقاية من المرض، وتشديد الرقابة على جميع الموانئ والمطارات والمعابر مع الدول التي ظهر فيها، وتعزيز الشراكة مع منظمة الصحة العالمية في تنظيم ورش عمل طبية وبيئية للتعرف على الأوبئة المحتملة ومعالجتها قبل انتشارها في الدولة.