تبذل روسيا، مع بعض القوى الدولية الأخرى مثل الصين والدول الأوروبية، جهودًا حثيثة من أجل تعزيز فرص استمرار العمل بالاتفاق النووي الذي توصلت إليه إيران ومجموعة "5+1" في 14 يوليو 2015، ويواجه في الفترة الحالية اختبارًا صعبًا في ظل إصرار إيران على تقليص التزاماتها التي نص عليها ردًا على العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية. وفي الواقع، فإن ذلك لا ينفصل عن مجمل التطورات التي تشهدها الملفات الأخرى التي تحظى باهتمام خاص من جانب موسكو، على غرار العلاقات الثنائية والتنسيق المستمر في سوريا حاليًا والخلافات القائمة مع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول قضايا دولية عديدة.
محاولات متواصلة:
سعت روسيا خلال اجتماع اللجنة المشتركة للاتفاق النووي الذي عقد في فيينا، في 28 يونيو 2019، وضم إيران وكلاً من روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا وألمانيا بعد انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية، إلى تقليص تأثير المشكلات العديدة التي تواجه استمرار العمل بهذا الاتفاق، خاصة فيما يتعلق بتفعيل الآلية الأوروبية الخاصة بمواصلة التعاملات التجارية والبنكية مع إيران خلال المرحلة القادمة.
ومن هنا، كان لافتًا أن نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ريابكوف حرص، في اليوم نفسه، على تأكيد أنه "على المدى القريب على الأقل تم تنفيذ المهمة الخاصة بضمان بقاء خطة العمل المشتركة وإيجاد سبل لحل المشكلات الأكثر حدة المتعلقة بتطبيقها".
هذا التصريح تحديدًا يطرح دلالتين: تتمثل أولاهما، في وصول الدول المشاركة في اللجنة إلى توافق نسبي حول آلية استمرار التعاملات التجارية، على نحو أشار إليه مساعد وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي بقوله أن الاجتماع شهد تقدمًا نسبيًا.
وتنصرف ثانيتهما، إلى أن هذا التوافق مؤقت وربما لا يستمر في ظل صعوبة ضبط إيقاع الإجراءات التصعيدية المتبادلة التي قد تتخذها كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإيران خلال المرحلة القادمة. ومن هنا، كان ريابكوف حريصًا على وضع سقف زمني لهذه الجهود التي شاركت فيها روسيا، حيث أشار إلى أن العمل بالاتفاق النووي، بناءً على تلك المساعي، سيستمر في المدى القريب، بما يعني أنه ليس من المضمون أن يبقى قائمًا على المديين المتوسط والبعيد.
وبالطبع، فإن ما يدعم من احتمال عدم استمرار هذا التوافق هو إصرار إيران على تنفيذ خطواتها الخاصة بتقليص التزاماتها في الاتفاق النووي، بعد تأكيدها على أن هذا التقدم الذي أحرز في اجتماع فيينا لا يلبي طموحاتها.
واللافت في هذا السياق، هو أن هذه المساعي الروسية تتوازى مع استمرار المسئولين الروس في توجيه انتقادات للسياسة الأمريكية تجاه إيران، على نحو بدا جليًا في تعليق المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، في 24 يونيو الجاري، على العقوبات الجديدة التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية على إيران بعد إسقاط طائرة الاستطلاع الأمريكية، حيث وصفها بأنها "غير قانونية".
أهداف عديدة:
حرص موسكو على تبني تلك السياسة، التي باتت، في رؤية اتجاهات مختلفة، أقرب إلى الموقف الإيراني، يمكن تفسيره في ضوء اعتبارات ثلاثة رئيسية تتمثل في:
1- تجنب السيناريو الأسوأ: تبدي موسكو قلقًا واضحًا إزاء التداعيات التي يمكن أن يفرضها استمرار التصعيد المتبادل بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة. إذ أن ذلك قد يفرض تأثيرين لا يتوافقا مع مصالحها: الأول، تعزيز فرص نشوب مواجهة عسكرية جديدة في المنطقة وبالقرب من حدودها. والثاني، دفع إيران إلى تبني المسار الأكثر خطورة وهو محاولة الاقتراب من مرحلة امتلاك القدرة على إنتاج القنبلة النووية.
وهنا، يمكن القول إن ذلك يمثل خطًا أحمر بالنسبة لموسكو نفسها، ليس فقط لجهة تعزيزه فرص اندلاع حرب جديدة في الشرق الأوسط، وإنما لأن ذلك من شأنه إحداث خلل في توازنات القوى في منطقة قريبة من حدودها، سواء في الشرق الأوسط أو وسط آسيا.
وبعبارة أخرى، فإن روسيا، رغم دعمها القوي لإيران، على المستويات المختلفة السياسية والعسكرية والاقتصادية، لن تسمح لها بالوصول إلى القنبلة النووية، على نحو يعني أنها تتوافق، عمليًا، مع القوى الدولية، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، في هذه القضية تحديدًا.
2- عدم تصعيد التوتر مع المجتمع الدولي: تخشى موسكو من أن التوتر الحالي بين واشنطن وطهران يمكن أن يؤدي إلى توسيع نطاق الخلافات مع القوى الدولية الأخرى، خاصة الدول الغربية، في مرحلة لاحقة، لا سيما في حالة ما إذا تم نقل الملف الإيراني برمته إلى مجلس الأمن من جديد، وهو احتمال قائم بعد اتجاه إيران إلى اتخاذ مزيد من الإجراءات التي يمكن أن تؤدي إلى تخفيض التزاماتها بالاتفاق النووي.
وهنا، فإن روسيا التي استخدمت الفيتو مرات عديدة لرفض استصدار قرارات إدانة دولية ضد النظام السوري، قد تجد نفسها مضطرة للانخراط في مواجهات مع قوى دولية تسعى إلى إدانة إيران في ملفات مختلفة، على نحو سوف يزيد من حدة التوتر بين روسيا وتلك الدول خلال المرحلة القادمة.
ومن دون شك، فإن ما يمكن أن يزيد من مساحة التوتر بين الطرفين هو إصرار موسكو على مواصلة التعاون الثنائي مع إيران في المجالات المختلفة العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية، وهو ما تعمل الأخيرة على تحقيقه في الفترة الحالية في إطار محاولاتها احتواء تداعيات العقوبات الأمريكية.
3- خلط الأوراق في سوريا: قد يؤثر أى تصعيد عسكري في المنطقة على الترتيبات السياسية والأمنية في سوريا، والتي تبذل روسيا جهودًا حثيثة من أجل التحكم فيها وضبط حدودها واتجاهاتها. إذ تحاول موسكو الانخراط في تفاهمات أمنية وسياسية مستمرة مع كل القوى الإقليمية والدولية المعنية بتطورات الصراع في سوريا، وبدت حريصة في الفترة الماضية على توسيع نطاق الخيارات وحرية الحركة المتاحة أمامها عبر تجنب الاصطدام بمصالح أى من هذه القوى.
وقد بدا ذلك جليًا في حرصها على مواصلة التفاهمات الأمنية مع إسرائيل على نحو انعكس في الاجتماع الأخير الذي عقد في إسرائيل في 25 يونيو الجاري، وضم مستشاري الأمن القومي في كل من روسيا وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية. وفي هذا السياق، وجهت روسيا بصفة مستمرة إشارات بأنها تضع في اعتبارها رؤية إسرائيل لتأثير التطورات الأمنية في سوريا على مصالحها وأمنها، لكنها في الوقت نفسه تجنبت التلميح إلى إمكانية تحركها على الأرض لتحجيم النفوذ الإيراني في سوريا، والذي يحظى بأولوية لدى كل من واشنطن وتل أبيب.
وقد أثبتت روسيا قدرتها على مواصلة تبني هذه المعادلة الصعبة خلال المرحلة الماضية، لكن هذه القدرة ستكون محل اختبار في حالة ما إذا انهار الاتفاق النووي ونشبت مواجهة عسكرية بين واشنطن وطهران.
وعلى ضوء ذلك، وفي ظل التداعيات التي يمكن أن يفرضها استمرار التصعيد، يمكن القول إن روسيا قد تحاول خلال المرحلة القادمة ممارسة دور الوسيط، الذي لم تنجح فيه قوى دولية عديدة مثل فرنسا واليابان، على أساس أن علاقاتها مع طهران وتفاهماتها مع واشنطن يمكن أن تعزز من قدرتها على ممارسة هذا الدور، الذي يواجه عقبات لا تبدو هينة بسبب إصرار الطرفين على التمسك بمواقفهما الحالية.