أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

قنصلية حلب:

هل تستنسخ طهران التجربة العراقية فى سوريا؟

19 مايو، 2021


في خطوة إيرانية مفاجئة، أعلن وزير الخارجية محمد جواد ظريف، في 12 مايو الجاري، عن افتتاح قنصلية لبلاده فى مدينة حلب السورية، وأشار إلى أنه جرى الاتفاق مع الرئيس السوري بشار الأسد على هذه الخطوة بهدف تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية والثقافية بين البلدين. لكن بخلاف تلك الدوافع التي أشار إليها ظريف، يمكن القول إن تلك الخطوة ربما تحمل دلالات أخرى تتعلق بموقف إيران من التفاعلات المستقبلية الخاصة بالمشهد السوري على المستويين السياسي والأمني، والدور الذي يمكن أن تلعبه القنصلية الإيرانية فى سوريا انطلاقاً من حلب فى تنفيذ برنامج عمل طويل المدى فى سوريا، وسط فاعلين آخرين ليسوا أقل انخراطاً منها لاسيما روسيا وتركيا. 

مغزى التوقيت:

فى هذا السياق، فإن التساؤل الرئيسي الذي تطرحه أغلب التقارير التي تناولت الخطوة الإيرانية يتعلق بمغزى التوقيت. فعلى مدار السنوات الماضية من عمر الصراع السوري، ظل الحرس الثوري الإيراني هو اللاعب الرئيسي فى المشهد السوري، ما كان من تداعياته أنه لا يوجد فى سوريا جالية إيرانية واسعة بحاجة إلى قنصلية، وإنما هناك عشرات الآلاف من العناصر الميليشياوية فى سوريا تم جلب معظمهم من الخارج، وهم بطبيعة الحال ليسوا بحاجة إلى دور للقنصلية أو سفارة هناك. وإلى جانب ذلك، فإن المظاهر المذهبية فى سوريا، لاسيما فى دمشق، تغلغلت بشكل شبه منظم خارج الأطر الرسمية. 

الأمر الآخر، فى الإطار نفسه، أنه لا توجد فوارق بين الدور الذي يمكن أن تلعبه القنصليات والسفارات الإيرانية فى الخارج بشكل عام. فغالباً ما تكون أغطية لأدوار خاصة بالحرس الثوري، وهو أمر مؤكد بطبيعة الحال فى دول الأزمات. ففى اليمن أرسلت طهران حسن ايرلو القائد فى الحرس الثوري تحت مسمى سفير، وقبل ذلك فى العراق أرسلت السفير ايرج مسجدي، وهو ثالث سفير للعراق قادم من الحرس الثوري بعد حسن كاظمي وحسن داني. لكن اللافت أن الموقف يبدو مختلفاً فى سوريا، فالسفير الجديد مهدي سبحاني قادم من الخارجية حيث كان يتولى منصب مدير عام مكتب التخطيط والرصد الاستراتيجي بالوزارة، وقبل ذلك كان قنصلاً عاماً لإيران في كراتشي. بينما غالباً ما ارتبط دور السفير جواد ترك آبادي، الذي يستعد لمغادرة دمشق، بتنامي الأنشطة المذهبية تحت عنوان ثقافي وديني. وبالتالي قد يكون هذا التطور أحد التفسيرات التي تشكل بعداً فى الفصل بين الأدوار. 

دلالات عديدة:

فى السابق، كان القسم القنصلي الإيراني فى دمشق يتبع السفارة الإيرانية، وبالتالي فإنشاء قنصلية فى حلب يعكس منظوراً جديداً لنمط الإدارة "الدبلوماسية"– إن جاز التعبير– لاسيما خارج دمشق نفسها، الأمر الذي يتعلق بدلالة اختيار الموقع، وهو ما أرجعته تقديرات عديدة إلى حجم التمركزات الإيرانية فى حلب، وإدارة طهران لعلاقات مع أطراف سورية لاسيما الأكراد، ما يعطي مؤشراً خاصاً بمستوى العلاقات الإيرانية- التركية. لكن بالنظر إلى السوابق الإيرانية فى المنطقة لاسيما فى العراق، يمكن القول إن عملية افتتاح قنصلية فى حلب هى مقدمة لافتتاح سلسلة من القنصليات الأخرى هناك، ففي العراق بعد سقوط نظام الرئيس الأسبق صدام حسين، افتتحت طهران أكثر من قنصلية فى البصرة وكربلاء بالإضافة الى قنصليات فى السليمانية وأربيل فى كردستان العراق. 

وتعيد هذه الخبرة الإيرانية فى الإقليم التركيز على طبيعة الدور، حيث تدير إيران عدداً كبيراً من الشركات الاقتصادية مع فصائل الحشد الشعبي بالتوازي مع الدور الذي تلعبه السفارة الإيرانية فى بغداد، وهى أنشطة غير رسمية فى الغالب بالنظر إلى النفوذ الاقتصادي للميليشيات هناك. وبالنسبة لسوريا، ربما يهيمن النظام السوري على الوضع الاقتصادي، وبالتالى ستفرض هذه التجربة واقعاً مختلفاً يطرح تساؤلاً حول ما إذا كانت طهران تسعى إلى تكرار التجربة على هذا النحو بتأسيس كيانات تدير مصالح بالتوازي مع النظام. 

من حيث دلالات التوقيت، كما سلفت الإشارة، هناك سفير إيراني جديد فى الطريق إلى دمشق، بالتزامن مع خطوة القنصلية، وهو ما يعطي انطباعاً بوجود توجه إيراني بتوسيع مستوى الحضور الدبلوماسي فى المرحلة المقبلة، لاسيما قبيل الانتخابات السورية التي ستجري أولاً فى الخارج في 26 مايو الجاري، ويرتبط هذا السياق بما أعلنه ظريف من الاستعداد لمشاركة طهران في الإشراف على الانتخابات السورية، وهى محاولة من جانب آخر لإعطاء مؤشر بأن هناك متغيراً فى طبيعة الوجود الإيراني للقوى الدولية لاسيما الولايات المتحدة فى ظل تصريح الرئيس جو بايدن بأن "الدور الإيراني فى سوريا معرقل لعملية التسوية هناك"، على نحو يطرح مقاربة بأن إيران ربما تريد أيضاً التقاطع بين ملفى الدور الإقليمي والمباحثات الجارية في فيينا بشأن الاتفاق النووي، إلا أن القراءة الأوّلية تشير إلى أن عدم تراجع دور الحرس الثوري على الساحة السورية يجعل من التوجه الإيراني على هذا النحو مجرد مناورة دبلوماسية، بل ربما تكون محاولة لتعزيز دور الحرس الثوري كواجهة يمكن من خلالها ممارسة أنشطة مستقبلية إذا ما اضطرت إيران إلى خفص مستوى وجودها ودور الحرس الثوري كنوع من المقايضة فى ملفات أخرى. 

إحدى الدلالات الأخرى من حيث التوقيت، ربما ترتبط بالانتخابات الرئاسية الإيرانية ذاتها، مع وصول إدارة جديدة مختلفة عن إدارة الرئيس حسن روحاني التي واكبت، على مدى دورتين متتاليتين، الصراع السوري، وهو ما يطرح تساؤلاً حول إمكانية أن تكون هناك سياسة خارجية مختلفة بشكل عام، وتجاه مناطق الصراعات والأزمات فى الاقليم بشكل خاص، على الرغم من أن التجربة الإيرانية أثبتت أنه لا يوجد فارق على المستوى الاستراتيجي، حتى وإن بدا أن هناك تغيراً فى التكتيك، وربما يثبت ذلك تسريبات ظريف نفسه حول مزاحمة الحرس الثوري لدور الخارجية، أو موقف الحرس الثوري من إدارة ظريف للملف النووي، ومع مغادرة الأخير موقعه فى المستقبل على الأرجح لن يكون هناك متغير جديد فى هذه المعادلة. 

فيما يتعلق بالنشاط التجاري، تمثل طهران لاعباً رئيسياً وشريكاً تجارياً للنظام السوري خلال الفترة السابقة، لكنها تراهن مستقبلاً على توسيع نطاق هذه الأنشطة، فالبتزامن مع الإعلان عن افتتاح القنصلية، أشار روحاني إلى الاتجاه نحو إنشاء خط سكة حديد يمتد من شلمجة الإيرانية ويمر بالبصرة فى العراق ويصل إلى سوريا خلال السنوات المقبلة، وهو ترجمة للمشروع الإيراني للوصول إلى منطقة شرق المتوسط، لكن خلف هذا المشروع هناك مسعى إيراني لربط المدن التجارية ببعضها البعض، حيث أشار روحاني إلى عبدان وشلمجة وخرمشهر، بالإضافة إلى البصرة، ثم حلب ودمشق، بما يعني أن هناك دوراً ستلعبه المدن التجارية عبر التجار الإيرانيين، ومن ثم سيكون هناك دور بشكل عام لقنصلية حلب التي ستكون مقدمة لقنصليات أخرى فى المستقبل. 

فى النهاية، فإن خطوة افتتاح القنصلية الإيرانية في حلب وإن بدت مفاجئة لكنها تظل متوقعة فى إطار مساعي إيران للتمدد فى الداخل السوري، والقيام بأنشطة علنية على مستويات مختلفة، وهو أقرب إلى الدور الذي تلعبه القنصليات الإيرانية فى العراق، خاصة في البصرة، على المستوى الاقتصادي والتجاري فى سياق المشروع الإيراني فى سوريا، بالإضافة إلى عامل "التموضع المذهبي" فى سياق متغير الهندسة الديمغرافية التي لعبتها الميليشيات الإيرانية. وفى المحصلة النهائية، لا يمكن الوضع فى الاعتبار أن الدور الوظيفي للقنصلية فى حلب هو الدور التقليدي الذي تلعبه القنصليات بشكل عام، أو انعكاس لشراكة مع النظام السوري وتأمينه اقتصادياً، وإنما هو انعكاس لاستثمار إيران لدورها فى سوريا وفق حساباتها الخاصة قبل أن يكون مرتبطاً بحسابات النظام الذي منحها الموافقة على ذلك.