شهد شهر مارس 2020 حالة استثنائية وتغيرات دراماتيكية متتالية ومتسارعة لم يشهد الاقتصاد العالمي مثيلًا لها على مدار عقود، حتى إبان الأزمة المالية العالمية في عام 2008. فالحالة التشاؤمية الشديدة التي سببها الانتشار السريع والمباغت لفيروس كورونا في الأسابيع الأخيرة من ذلك الشهر، أدت إلى تحولات نادرة، واستجابات طارئة من قبل الحكومات، ومن ثم أداء قياسي للمؤشرات الاقتصادية، وعلى رأسها أسعار النفط، وقيم جميع الأصول وبخاصة الأصول المالية، المتميزة دائمًا بالمرونة وسرعة التفاعل مع الأحداث.
وبرغم أن فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) اكتشف في ديسمبر 2019، في ووهان الصينية، فهو لم يكن له الوقع نفسه على أداء الاقتصاد العالمي في شهري يناير وفبراير الماضيين، ففي خلال هذين الشهرين ظل محدودًا في عدد من الدول، كما أن نطاقات تواجده في تلك الدول كانت صغيرة. لكن خلال شهر مارس شهد الفيروس حالة يمكن تسميتها بالانفجار، وبخاصة خلال الأسابيع الأخيرة من ذلك الشهر، حيث وصل بنهاية شهر مارس إلى 203 دول، وفق منظمة الصحة العالمية. وبينما كانت معدلات الإصابات اليومية الجديدة بالفيروس حول العالم تدور حول الألف إصابة، فبنهاية الشهر ارتفع هذا العدد إلى أكثر من 70 ألف إصابة، كما ارتفع عدد الوفيات اليومية أيضًا من نحو 73 حالة وفاة، إلى نحو 4,300 حالة بنهاية الشهر.
تراجع أسعار النفط والذهب:
صاحب الانتشار السريع المقلق للفيروس قيام الحكومات حول العالم بتدابير لاحتواء الوباء، لكنها ذات آثار قاسية على الاقتصاد، فقيدت الدول الأنشطة الاقتصادية المحلية، وحدَّت من حركة السكان، ناهيك عن إيقاف حركة السفر الدولي على المستوى العالمي، في سابقة قد لا يكون شهد التاريخ لها مثيلًا على الإطلاق فيما مضى.
ونتيجة لذلك دخل الاقتصاد العالمي في حالة من الركود وسط جمود في كافة الأنشطة. وتعليقًا على ذلك، قال صندوق النقد الدولي: "إن الأزمة الاقتصادية التي يسببها كورونا هي أعمق من الأزمة المالية العالمية لعام 2008". كما توقع البنك الدولي دخول الاقتصاد العالمي فيما وصفه بـ"ركود عالمي ضخم" في عام 2020.
وعلى وقع هذه المعطيات السلبية، شهدت أسعار النفط العالمية تراجعًا بنحو 55 بالمائة خلال مارس، في أسوأ هبوط شهري لها على الإطلاق، بعدما أشعل فيروس كورونا فتيل الخلافات بين منتجي النفط، وأربك حسابات العديدين منهم، وتسبب في انهيار تحالف أوبك+، ودفع الأسعار على طريق أكبر رحلة تراجع تاريخية بالنسبة لها. حتى إن معظم التوقعات تشير إلى أن الأسعار ستتراجع إلى مستويات تتراوح بين 10 دولارات و30 دولارًا للبرميل على أقصى تقدير خلال الفترة المقبلة.
وقد تفاعلت أسواق المال بشدة مع ما جرى ويجري في الاقتصاد العالمي بفعل كورونا، الذي غلف أجواء تلك الأسواق بحالة تشاؤمية شديدة، وتسبب في تراجع مؤشرات معظم -إن لم يكن جميع- أسواق المال حول العالم وبنسب كبيرة. فعلى سبيل المثال، تراجع مؤشر داو جونز للأسهم الأمريكية بنحو 3,500 نقطة، بخسارة تقدر بنحو 13.7 بالمائة من قيمة السوق الإجمالية، لتكون أكبر خسارة شهرية منذ عام 2008.
كما سجل مؤشر "نيكي" الياباني بدوره أكبر هبوط شهري من حيث النسبة المئوية منذ مايو 2019، بانخفاض بلغ 10.5 بالمائة أو ما يعادل 2,225 نقطة.
ورغم أن الذهب عادةً ما يمثل ملاذًا آمنًا في مثل هذه الأزمات، إلا أن فيروس كورونا قلب الموازين خلال شهر مارس، فحالة التشاؤم التي سيطرت على البشر حول العالم، جعلتهم أكثر ميلًا للاحتفاظ بالسيولة النقدية، فبرغم خروج الأموال من أسواق الأسهم، إلا أنها لم تأخذ طريقها إلى أسواق الذهب، بل إن الذهب بدوره تعرض لنكسات عديدة طوال الشهر. وبرغم أنه تمكن خلال الأيام الأخيرة من التقاط بعض الأنفاس، إلا أن مكاسبه لم تتعدّ نحو 1.9 بالمائة بما يوازي 30 دولارًا على مدار الشهر بأكمله، وهي نسبة ورقم محدودان في ظل معطيات الوضع الراهن، حيث كان من المنتظر أن تكون أسواق الذهب هي من أكبر المستفيدين من الأزمة الراهنة.
تصاعد معدلات البطالة:
على صعيد أسواق العمل، فقد دفعت الأزمة منظمة العمل الدولية إلى توقع فقدان ما يصل إلى 25 مليون شخص لوظائفهم حول العالم، ويتركز معظمهم في البلدان مرتفعة الدخل وبنسبة 59% تقريبًا.
وقد كانت بيانات التوظيف في الولايات المتحدة في شهر مارس خير دليل على صحة هذه التوقعات؛ فلأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة يتقدم نحو 3.3 ملايين شخص للحصول على إعانات البطالة في أسبوع واحد، وكان ذلك في الأسبوع المنتهي في 21 مارس، مع إغلاق أجزاء كبيرة من البلاد جراء فيروس كورونا.
وقد دفعت الحالة الاستثنائية التي فرضها فيروس كورونا العديد من الدول إلى تغيير منهجها الاقتصادي، حيث باتت فكرة تأميم الشركات مطروحة على الساحة مجددًا، حيث تعهدت الحكومة الفرنسية في الشهر الماضي بإمكانية القيام بالتأميم كخطوة لدعم الشركات الكبرى، ولوقف نزيف الوظائف، إذا لزم الأمر.
وبالنسبة للبنوك المركزية حول العالم فقد جاءت استجابتها للأزمة عبر خطوات تحفيزية عديدة، كخفض معدلات الفائدة، وضخ السيولة في الأسواق، بهدف تقليل التأثيرات السلبية للفيروس.
وقد شهد شهر مارس نحو 65 عملية خفض لسعر الفائدة من جانب البنوك المركزية حول العالم، كمحاولة منها لتحفيز الاقتصاد في مواجهة الركود الناتج عن إغلاق الأنشطة الاقتصادية الرئيسية، وكوسيلة أيضًا لتسهيل شروط التمويل والقروض لصالح الشركات والمؤسسات الاقتصادية التي تحتاج إليها في مواجهة الأزمة الاقتصادية.
كما لجأت البنوك المركزية أيضًا لتعزيز برامج مشتريات الأصول، كما حدث من جانب البنك المركزي الأوروبي وبنك اليابان. ولجأ مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) للنهج نفسه أيضًا. كما أنه دخل سوق سندات الشركات لأول مرة في التاريخ.
وبغضّ النظر عن فاعلية هذه الأدوات، إذ إن ذلك مرهون بالوقت وبالمدى والعمق الذي ستصل إليه أزمة كورونا؛ لكنها -في الوقت ذاته- تشير إلى أن هناك تغييرات عديدة في الأساليب والآليات التي يتم اللجوء إليها في أوقات الأزمات، ويشير ذلك أيضًا إلى أن أزمة كورونا أخذت الاقتصاد العالمي إلى مدى لم يصله منذ فترة، وأثرت على معنويات الجميع، بداية من المتعاملين في أسواق المال، مرورًا بالمستثمرين في الأنشطة الاقتصادية الحقيقية، وصولًا إلى الحكومات.
أحداث كاشفة:
وجّه فيروس كورونا من خلال وطأته الاقتصادية العميقة خلال شهر مارس اختبارًا حقيقيًّا لمنظومة العولمة الاقتصادية الدولية، إذ شهد ذلك الشهر بداية الانهيار الحقيقي لسلاسل الإمدادات العالمية، وظهور بوادر جديدة لنزوع الدول إلى فرض قيود على التصدير خوفًا من تضرر أسواقها المحلية، وقيام الدول بتخزين السلع، وعلى رأسها الإمدادات الطبية، فضلًا عن إقدامها على الحد من السفر، وإيقاف حركة طيران الركاب بشكل شبه تام.
ومع الأخذ في الاعتبار أن التبعات الأسوأ لما حدث خلال شهر مارس في هذا الإطار لم تظهر بعد، وأن الفترات المقبلة ستكشف بالتأكيد عن ذلك، لكن كل ما حدث حتى الآن كشف عن أن ما أقدمت عليه الشركات والدول خلال العقود الماضية، عبر تعزيز الترابط العميق بينها، وتوزيع سلاسل الإنتاج على مناطق جغرافية متباعدة، جعلها أكثر عرضة للصدمات غير المتوقعة.
والأهم من ذلك، وبعيدًا عن تفسيرات ما يحدث في الواقع من خلال النظريات الاقتصادية، فإن الاقتصاد العالمي خرج من مارس الماضي وهو قد شهد العديد من التغييرات الجديدة والجوهرية، ودخل مرحلة جديدة، واضعًا أقدامه على بداية منحدر خطر، قد لا تكون نهايته محمودة إذا استمرت الأزمة لشهور مقبلة، حيث إن ذلك يقوده إلى أزمة هي الأكبر والأعمق على مر التاريخ، حتى إن أزمة "الكساد الكبير" التي شهدها العالم في نهاية عشرينيات وطوال ثلاثينيات القرن العشرين لن تكون ذات أهمية كبيرة بجانب الأزمة الجديدة، في حال استمرار الأزمة الراهنة.
والجديد هذه المرة هو أن أزمة كورونا أفقدت العالم توازنه، وكشفت عن ضعف آليات المواجهة لمثل هذه الأزمات، لا سيما وأنها وضعت الحكومات أمام خيارين، هما: إما محاصرة الفيروس وحماية صحة البشر، وذلك عبر عرقلة النشاط الاقتصادي. أو المحافظة على الأنشطة الاقتصادية وتحفيز النمو، وعدم الاهتمام بصحة البشر. وبطبيعة الحال، فليس من المنطق الاختيار بين هذين الخيارين، فكلاهما ضروري، بل إن كلاً منهما ضروري للبشر وبنفس القدر من الأهمية. لكن في الوقت نفسه، فإنه ليس من السهل الموازنة بينهما أيضًا، فالأدوات المطروحة للمحافظة على صحة البشر من شأنها ترك الاقتصاد عرضة للركود والكساد العميق، والعكس صحيح أيضًا، ما يعني أن العالم الآن أمام خيارين؛ إما التحفيز الاقتصادي المميت للبشر، أو محاربة الفيروس المفقرة للبشر أيضًا.