تتداخل التداعيات الداخلية والخارجية المحتملة "لمعركة الموصل"، في حيثيات مسارها وتبعات مصيرها، على الأردن، ضمن سياق التهديد غير التقليدي الذي يشكله تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" للأمن القومي الأردني.
ويدخل في حساب التقدير الرسمي عنصر الأمد الزمني للمعركة التي بدأتها القوات العراقية بمساندة "التحالف الدولي" الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، في 17 أكتوبر 2016 لتحرير الموصل من "داعش"، والتي لن تكون يسيرة، خلافًا للتوقعات المرجحة، إزاء مسعى التنظيم المستميت بشتى الوسائل والأدوات الإرهابية للحفاظ على معقل انطلاقة خلافته المزعومة في ثاني أكبر مدينة عراقية سكانًا، بعديد زهاء 2 مليون نسمة، وممتدة ضمن مساحة (32308 كلم مربع)، مما يجعل من مسألة حدوث أزمة إنسانية إضافية بين أيادي التنظيم الدموية أمرًا غير مستبعد، قد تتبعها حركة نزوح أو لجوء جديدة بين صفوف المدنيين العراقيين إلى المناطق المجاورة.
تداعيات عدة:
وإذا كانت الأردن المثقلة بأبعاد التحديات، الإنسانية والسياسية والأمنية والمجتمعية، الناجمة عن استضافة زهاء مليون و400 ألف لاجئ سوري نتيجة الأزمة السورية الممتدة منذ خمس سنوات تقريبًا، قد أعلنت عن اتخاذ الإجراءات اللازمة لمراقبة أي تحركات غير اعتيادية عبر الحدود، إلا أن استقبال موجة لجوء جديدة قد يكبدها ضغوطًا بنيوية مضاعفة، في ظل المشهد الإقليمي العربي المضطرب، وغياب حل سياسي للأزمتين السورية والعراقية، في الأفق القريب على الأقل.
وتستقيم تلك الإشكالية المحتملة مع تحدٍّ أمني آخر نظير ما قد يترتب على المجريات الميدانية للمعركة وما بعدها من هروب عناصر من تنظيم "داعش" الموجودين هناك، والمقدر عددهم بحسب الخبراء العسكريين بنحو 6 آلاف مقاتل، تجاه الرقة السورية في دير الزور نحو البادية الشرقية، ما يعد نوعًا من التهديد لدى اقترابهم من الحدود الأردنية، وهو ما يعني أمنيًّا زيادة "الخلايا النائمة" في منطقة الحدلات والركبان الواقعة على الحدود الشمالية الشرقية مع سوريا، بما يجعل هذا الأمر مرتبطًا، بشكل أو بآخر، بمسار العملية العسكرية المشابهة في مدينة الرقة السورية، والتي تتزامن مع معركة الموصل لجهة قطع الطريق أمام مقاتلي "داعش" من إعادة تشكيله في معقله الرئيسي بالرقة.
وتُعد منطقة الركبان الصحراوية القريبة من مكان نشاط "داعش"، ضاغطًا أمنيًّا على الأردن، فقد شهدت في يونيو الماضي أضخم هجوم خارجي بعد تفجيرات عمان في عام 2005، حينما استهدف انفجار سيارة مفخخة نقطة عسكرية حدودية قرب الساتر الترابي المجاور لمخيم الركبان، مما أسفر عن استشهاد 7 أفراد من الأمن الأردني وإصابة 14 آخرين على يد التنظيم الذي أعلن مسئوليته عن العملية غير المسبوقة التي نجح فيها ببلوغ أهداف أردنية، ما يشي بأن الصراع معه قد انتقل إلى طور آخر متقدم.
ورغم إغلاق الأردن لحدوده مع سوريا في تلك المنطقة، إلا أن الخطر ما يزال قائمًا، حيث يقيم في مخيم الركبان، الواقع ضمن منطقة "منزوعة السلاح" بين الطرفين، زهاء 70 ألف لاجئ سوري، لجأ غالبيتهم من مناطق رازحة تحت سيطرة "داعش" شرقًا، مما ينذر بتسلل عناصر من التنظيم صوب الساحة الأردنية ومحاولة تنفيذ عملية مناظرة لجريمة "الركبان".
كما لا تسلم المنطقة الجنوبية السورية "حوران"، المحاذية لحدود الأردن الشمالية، من بؤرة تهديد محتمل، عند تغير أولويات "جبهة النصرة" المسيطرة عليها، من حصر أهدافها في الداخل السوري، عملا بتوجيهات "أميرها" أبي محمد الجولاني، إلى تنفيذ عناصر مؤيدة لها عمليات داخل الأردن، أسوة بما حدث سابقًا من عمليات تسلل واشتباكات مع الجيش الأردني، بما يضع الساحة الأردنية بين فكي كماشة، تستكملان حلقة التوتر في المنطقة.
وما يزيد من منسوب التحدي الخارجي تجدد الاشتباكات في مدينة الرطبة بمحافظة الأنبار العراقية المحاذية لحدود الأردن الشرقية، بين عناصر "داعش" والقوات العراقية التي استعادت السيطرة عليها، أو لدى قيام التنظيم بهجمات مباغتة ومضادة، كما فعل مؤخرًا في كركوك بهدف تشتيت الانتباه وتخفيف الضغط العسكري الذي يتعرض له في الموصل.
إن عمليات "الكر" و"الفر" التي قد يلجأ إليها عناصر "داعش" في الرطبة، الواقعة على بعد 90 ميلا من الأردن، قد تسهم في تغذية توتر مستمر على الحدود، وتتسبب في ضرب حركة العبور والتجارة؛ إزاء تعطيل إعادة تشغيل معبر طريبيل الحدودي الحيوي كناقل نفطي بأسعار مخفضة بالنسبة للأردن، وعرقلة إعادة فتح الطريق الدولي السريع الذي يربط بين البلدين، بما يحول دون تدفق الصادرات الصناعية والزراعية الأردنية للعراق، وتوقف حركة النقل البري البيني.
إجراءات احترازية:
اتخذ الأردن الإجراءات الاحترازية اللازمة تحسبًا لأي مخطط لتسلل "داعش" حدوديًّا إلى أراضيه، وذلك عبر رفع حالة التأهب العسكري، وتعزيز الوجود الأمني لتأمين حدوده البالغ طولها (112) ميلا (181 كلم) مع العراق، وتحصين مواقعه على طول حدوده البالغ طولها (225) ميلا (378 كلم) مع سوريا، وتزويد قوات حرس الحدود في كلا الجانبين بأجهزة مراقبة متطورة، تسهل ضبط أي عملية تسلل، وبخاصة من الجبهة الشرقية إزاء صحراء غير مأهولة تمتد حوالي (120) كلم تفصل بين المملكة وأقرب مدينة عراقية لأراضيها، وهي مدينة الرطبة، فضلا عن إغلاق حدوده الشمالية أمام المقاتلين الأردنيين العائدين من سوريا، واستثمار علاقته المعتبرة مع الأطراف السياسية العراقية المختلفة من أجل كبح المد "الداعشي" أو انتكاسته ثانية في علاقته مع المجتمع السني، أسوة بأحداث عام 2008 غداة اصطدامه بالفصائل الإسلامية الأخرى، مثل: الجيش الإسلامي، وكتائب ثورة العشرين، وحماس العراق، وانقلاب "الحاضنة السنية" عليه، وتولي "الصحوات العشائرية" محاربته وإضعافه، عدا عن عدم تردد الأردن في الاشتباك مع أي ترتيبات أمنية وعسكرية إقليمية مضادة، مثل الانخراط ضمن "التحالف الدولي".
أما داخليًّا، فقد رفع الأردن من منسوب رصد أعضاء التيار السلفي الجهادي، لا سيما المتعاطفين مع "داعش"، لضبط أي تشبيك علائقي بيني، وتوظيف انقسام التيار بين "داعش" و"النصرة" في مفاعيل التحصين المحلي، تزامنًا مع تعديل قانون مكافحة الإرهاب، وتجريم الانضمام للمنظمات الإرهابية، أو الترويج لها، وتفعيل مراقبة المساجد والخطاب الديني، بالإضافة إلى تشكيل لجنة لمكافحة التطرف، وتنظيم الأنشطة المختصة.
تهديد داخلي:
يتجاوز مبعث التوجس الأردني نطاق تمدد "داعش" حدوديًّا صوب خطر تهديده داخليًّا بسبب مؤشرات مقلقة ازدادت حدة مع وقوع عمليتين إرهابيتين منفصلتين داخل أراضي المملكة تباعًا منذ مطلع العام الجاري، أسفرتا عن استشهاد 6 من عناصر الأمن الأردني، حيث نفذت "خلية نائمة"، مرتبطة أيديولوجيا بالتنظيم، عمليتها في مدينة إربد، في مارس، بينما نفذ ذئب منفرد انتقل بأفكاره من الولاء "للقاعدة" إلى الولاء "لداعش"، هجومًا إرهابيًّا، في يونيو، استهدف مقرًّا أمنيًّا في عمّان.
وبالرغم من إلقاء القبض على المشتبه بتنفيذ العملية، ومقتل المجموعة الإرهابية خلال مواجهات غير مسبوقة مع قوات الأمن الأردني، فإن العمليتين، مع عملية الركبان، تؤشران إلى أنماط مختلفة من التهديد الإرهابي الداخلي والخارجي الذي يواجه الأردن عبر مستويات متباينة، بما يشي بتطور نوعي في طبيعة الصراع قد يشجع أفراد التنظيم في الأردن وأنصاره في الخارج على القيام بعمليات مشابهة تستهدف البلاد ومصالحها داخليًّا وخارجيًّا.
ويستقيم هذا الحال مع ما يحمله تنظيم "داعش" من علاقة عداء تاريخية مع الأردن، تمتد إلى عهد زعيم "القاعدة" السابق في العراق أحمد الخلايلة "أبو مصعب الزرقاوي" الذي أشرف وخطط لتنفيذ تفجيرات عمان عام 2005، ما دفع الأردن إلى المساهمة في تأسيس "الصحوات العشائرية" ودعمها، بخاصة في الأنبار، والمساهمة في الجهود التي أدت إلى مقتل الزرقاوي نفسه عام 2006، الأمر الذي قد يفتح الباب واسعًا أمام مساعي "التنظيم" للثأر من مصير زعيمه الراحل، خاصة إذا أعد مشروعًا لاستهداف الأردن في الفترة المقبلة.
وقد تقاطعت حيثيات ما استقر أردنيًّا كتهديد خارجي للأمن الوطني مع مؤشرات نمو التيار السلفي الجهادي، وارتفاع منسوب تأييد "داعش" ونصرته بين صفوف الأردنيين من الفئة الشابة المتعلمة والمرتاحة ماديًّا، في ظل معطيات رقمية مقلقة لدراسة أردنية حديثة أظهرت أن 290 ألف أردني يؤيدون التنظيمات الإرهابية، مصحوبًا بارتفاع أعداد المقاتلين الأردنيين، سواء من داخل صفوف السلفيين الجهاديين أم خارجها إلى جانب "داعش"، والذين تقدرهم الأوساط السلفية الجهادية بين 2500 و3000 فرد، مقابل تقدير أرقام رسمية بنحو 1500 فرد، وما قد يشكلونه من بؤرة خطر داهم عند عودتهم للأردن، ومحاولة نقل تجربتهم القتالية المتأثرة بأجندة "القاعدة" في ساحته، محاكاة للحالة الأمنية التي مثلها أولئك العائدون من أفغانستان والعراق، وأسوة بأحداث عامي 2002 و2005 حينما شهد الأردن عمليات تخريبية إرهابية وصل مداها إلى حد تفجيرات عمان.
ولدى غياب الحلول السياسية في أفقي الأزمتين السورية والعراقية، حاليًّا على الأقل، فإن ذلك قد يعزز من البيئة المحفزة لنمو "داعش" الداخلي، إزاء عوامل وازنة لا تبتعد كثيرًا عن حساب تقدير التنظيم أو ساحة حراك التيار السلفي الجهادي، عند التغذية من الأزمة الاقتصادية الخانقة في الأردن، بهدف التمدد بين ثنايا نسبتي البطالة والفقر المقدرتين بنحو 14% و13% على التوالي، تشغل المناطق الجنوبية، وفي مقدمتها معان، النصيب الأوفر منها، وذلك لكسب المؤيدين، بخاصة فئة الشباب منهم، بما يقدمه من نموذج مغرٍ لهم عند حديثه عن "الخلافة" وانتشالهم من أوضاعهم الصعبة، من حيث الظروف المعيشية والتهميش، ولكن بدون تقديم خطة محددة المعالم للحل.
وتستقطب المخاطبة اليوم شبانًا من خارج البيئة السلفية الجهادية في الأردن، ومن مختلف المستويات العلمية والمجتمعية، بحيث لم يعد النمط السائد منحصرًا ضمن أصحاب الطبقة الوسطى الدنيا أو الفقيرة ومن مستويات تعليمية بسيطة. فيما أغلب "المهاجرين" الجدد من الأردنيين يلتحقون بتنظيم "داعش" وليس جبهة "النصرة".
وبالنسبة إلى كثيرين من أتباع التيار السلفي الجهادي، يعد البغدادي وريث الزرقاوي في الأردن، وبالتبعية تشكل غلبة تنظيم "داعش" في بعض المدن الأردنية استمرارًا لما كان الأخير يمثله في تلك البيئة، "فالداعشيون" و"الزرقاويون" هم الجيل الجديد من السلفيين الجهاديين الأكثر راديكالية، والأقل تخففًا من تأثير الشيوخ ومصدري الفتاوى لمصلحة غلبة القادة الميدانيين، إذ إن شروط القوة والعنف والسيطرة صاحبة الكلمة الأولى عند "التنظيم".
ويؤشر رقم تعداد "المقاتلين" الكبير، مضافًا إليه القضايا المعروضة أمام محكمة أمن الدولة، وعشرات القيادات الفكرية والميدانية، وأولئك المتأثرين بأفكار التيار السلفي الجهادي - إلى منحى نذر تحول البيئة المنتجة لهذا التيار إلى مستوى تشكل "حاضنة سلفية جهادية" في بعض المناطق الأردنية، سواء تلك التي تشكل معاقل وجود التيار الرئيسية أو المستحدثة.
وفي المحصلة؛ فإذا كان "سيناريو" استحكام تمدد "داعش" تجاه الأراضي الأردنية مستبعدًا، قريبًا على الأقل، لانشغاله بساحات معركته الحالية، وفقدانه زمام السيطرة على كثير من المواقع التي كانت بيده، وانتفاء ظروف بيئة الصدام الطائفي المذهبي التي يزدهر بينها، والانقسام الحاد بين صفوف السلفيين الجهاديين الذي برزت مؤشراته خلال الأزمتين السورية والعراقية، ومناهضة بعض أقطابه للتنظيم، إلا أن "داعش" ما يزال يشكل مصدر تهديد أمني، داخلي وخارجي، للأردن، حيث قد يتحول من موطن الهزيمة، في ظل عمليات "التحالف الدولي" المضادة، إلى "خلايا نائمة" أكثر فاعلية في تنفيذ عمليات إرهابية غير متوقعة، مما يستدعي تضافر الجهود، على مختلف المستويات، في الأردن، لتشكيل معاول طاردة لخطر تهديد التنظيم ضمن ساحته.