أخبار المركز

استثمار الأزمات:

كيف استفادت الصين من الحرب الأوكرانية؟

03 يونيو، 2024


مثّلت الحرب الروسية الأوكرانية دفعة كبيرة للعلاقات الروسية الصينية؛ إذ تسارع معدل التعاون العسكري والاقتصادي والسياسي بين الطرفين بشكل غير مسبوق؛ مدفوعاً بالاحتياج الروسي للدعم الصيني عسكرياً، بالإضافة إلى تخوفات الصين من تصاعد الموقف الغربي تجاهها في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا. 

في الوقت نفسه، منحت هذه الظروف للصين فرصة استثنائية لتعزيز نفوذها في مناطق التنافس التاريخي مع روسيا؛ إذ دفعت الصدامات الحدودية التاريخية، الصين وروسيا (الاتحاد السوفيتي سابقاً) إلى حافة المواجهة العسكرية؛ ما خلف عقوداً من الترقب والارتياب بين الجارتين النوويتين اللتيْن تجمعهما حدود مشتركة تزيد على 4 آلاف كيلومتر؛ وهو ما يشير إلى أن الحرب الأوكرانية وإن كانت دفعت البلدين إلى التقارب؛ فإنها أيضاً زادت من التنافس المكتوم بينهما. 

أزمة فارقة:

كانت الأزمة في أوكرانيا حدثاً فارقاً في مسار العلاقات الروسية الصينية المعقدة؛ إذ زادت الأزمة -خاصة مع امتدادها لأكثر من عامين- من تقارب روسيا من الصين بشكل مُتسارع؛ أملاً في الحصول على مزيد من المنافع المشتركة، فسعت روسيا للتقارب مع بكين وتجاوز مخاوفها؛ وذلك لفتح نافذة للإفلات من العقوبات الغربية والأمريكية المتزايدة. 

من جهة أخرى، مثلت هذه الأزمة فرصة للصين؛ لتعزيز وجودها في محيط موسكو الحيوي بموافقة وترحيب روسي، بالإضافة لحصد مزايا اقتصادية كبيرة خلفتها إدارة موسكو وجهها عن الغرب وتوجيه مواردها الاقتصادية وثقلها الجيوستراتيجي باتجاه الصين، وذلك من خلال ما يلي:

1. تنامي العلاقات الاقتصادية مع موسكو: بدءاً من عام 2023، أصبحت الصين أكبر شريك تجاري لروسيا، في حين أصبحت روسيا سادس أكبر شريك تجاري للصين، ووصلت التجارة بين الصين وروسيا إلى مستوى قياسي بلغ 240 مليار دولار، بزيادة أكثر من 64% مقارنة بعام 2021، كما استوردت الصين في العام 2023، ثمانية ملايين طن من غاز البترول المسال من روسيا، بزيادة قدرها 77% عن عام 2021، كما بلغت الواردات الروسية من الصين 111 مليار دولار، وصادراتها إلى الصين 129 مليار دولار، كما بات البلدان يستخدمان عملتيهما في 90% من التجارة، بدلاً من الدولار الأمريكي، ويسعى الطرفان إلى إحراز تقدم نحو وضع اللمسات النهائية على اتفاق بشأن إنشاء خط أنابيب "قوة سيبيريا 2" لتصدير الغاز الطبيعي من منطقة سيبيريا الروسية إلى شمال شرق الصين. 

2. مكاسب صينية غير مُتوقعة: مثّلت الحرب في أوكرانيا فرصة جديدة للصين لتجديد مساعيها لتعزيز العلاقات مع الجنوب العالمي -وهو ما انطوى على تسريع عملية تحجيم دور روسيا في وسط آسيا وشرق أوروبا- كما عملت على تعزيز نفوذها في منطقة جغرافية مهمة ضمن خطط مُبادرة الحزام والطريق الخاصة بها، فكما مكن الفراغ الاستراتيجي الذي شهدته منطقة آسيا الوسطى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي العديد من الدول من أداء دور فاعل في هذه المنطقة الحيوية، فعلت الأزمة الأوكرانية المثل في وسط آسيا وشرق أوروبا، كما جددت طموحات بكين في القطب الشمالي، الذي كان يشكل مصدراً آخر لقلق موسكو تجاه بكين. 

3. جهود صينية هادئة لزيادة النفوذ: تسعى الصين لاستغلال الأزمة في أوكرانيا؛ بما يمكنها من زيادة نفوذها في آسيا، فقد أطلقت الصين ودول آسيا الوسطى الخمس، في نهاية مارس 2024، أمانة آلية تعاون بينهما، والتي أكد وزير الخارجية الصيني وانغ يي، أنها جاءت من أجل إظهار التصميم القوي للدول الست للعمل معاً من أجل التنمية والتعاون في كل القطاعات، ومن بين تلك القطاعات، القطاع العسكري والأمني؛ ويشمل ذلك توفير تقنيات المراقبة المتقدمة، والمساعدات العسكرية، والتعاون في التدريب العسكري؛ إذ تستثمر الصين في بناء قدرات القوات العسكرية في آسيا الوسطى على المدى الطويل من خلال برامج التعليم العسكري، واقتصادياً تسعى بكين؛ للاستفادة من التعاون مع آسيا الوسطى في كافة النواحي؛ إذ تخطط لبناء ميناء للسكك الحديدية مع قرغيزستان؛ ليكون نقطة رئيسية في إقامة العلاقات بين الصين وآسيا الوسطى وأوروبا.

أزمات مُؤجلة:  

كان الدعم الصيني ضرورياً للإبقاء على المكاسب الروسية في ساحة المعركة الأوكرانية مع تقلص واردات روسيا العسكرية المهمة جراء العقوبات الغربية، وتصدر بكين ما قيمته أكثر من 300 مليون دولار من المواد ذات الاستخدام المزدوج -تلك التي لها استخدامات تجارية وعسكرية وهي ضرورية لصنع الأسلحة، من الطائرات من دون طيار إلى الدبابات- إلى روسيا كل شهر، وفي مقابل الدعم العسكري والسياسي الذي تقدمه بكين لموسكو خلال أزماتها التي جعلتها شبه منعزلة عن محيطها، كان على موسكو غض الطرف عن عدائها القديم لبكين وترقبها لتحركاتها في محيطها الحيوي باعتبارها أزمات يمكن التعامل معها لاحقاً عقب الانتهاء من الحرب في أوكرانيا، التي تعتبرهاً موسكو تحدياً ذا أولوية على المواجهة المؤجلة مع بكين، ويمكن توضيح ذلك عبر الآتي:

1. مخاوف تحول ميزان القوى: تدرك روسيا جيداً أن حرب الاستنزاف المُطوّلة في أوكرانيا تخدم مصالح بكين؛ لأنها ستؤدي إلى إضعاف روسيا على المدى الطويل؛ ومن ثم تحويل ميزان القوى الصيني الروسي بشكل حاسم لصالح الصين في السنوات المقبلة، وستستفيد الصين أيضاً من الطاقة الروسية الرخيصة، التي تدعم اقتصادها وتحسن وضع الصين التنافسي في الأسواق العالمية؛ إذ زادت صادرات الغاز الروسي عبر خطوط الأنابيب إلى الصين مرتين ونصف في عام 2022، في حين تضاعفت صادراتها من الغاز الطبيعي المسال إلى الصين. وفي العام الماضي، زادت الصين أيضاً كمياتها من الفحم الروسي منخفض الثمن. 

2. دعم استراتيجي مجاني لبكين: من الناحية الاستراتيجية فإن انخراط الصين بشكل غير مُباشر في الأزمة الأوكرانية عبر دعم روسيا بأية وسيلة سواء اقتصادية أم عسكرية وإطالة أمد الحرب سيعمل ولو مؤقتاً على نقل المواجهة بين بكين والغرب من حدود مضيق تايوان إلى وسط وشرق أوروبا؛ إذ إن ضعف روسيا قد يدفع موسكو بعيداً عن الغرب ويجعلها أقرب إلى بكين باعتبارها "شريك مُؤقت" للصين، وهو بالضبط ما رأته الصين في العلاقة مع موسكو على مر السنين؛ إذ نمت العلاقات العسكرية بين بكين وموسكو بشكل يجعل الأخيرة تابعة للأولى؛ وهو ما أكدته تقارير أشارت إلى الاستخدام المحتمل لتكنولوجيا الأقمار الاصطناعية الصينية لأغراض الاستخبارات على خط المواجهة في أوكرانيا.

3. تقنيات عسكرية استراتيجية: تستفيد الصين من إعادة تنظيم أولويات روسيا في مجال التحديث العسكري؛ نتيجة لغزوها لأوكرانيا؛ إذ يدعم الوضع الراهن مساعي بكين في التفاوض مع موسكو للحصول على التكنولوجيا العسكرية المتقدمة، وخاصة أنظمة دفع الغواصات الهجومية؛ إذ تتخلف الصين بشكل كبير عن روسيا والغرب في هذه التقنيات، وينطبق هذا أيضاً على العديد من أنظمة الأسلحة الروسية الأخرى، بما في ذلك تكنولوجيا الصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت؛ إذ سمحت العقود الثلاثة الماضية من الوصول إلى التكنولوجيا الغربية لموسكو بالبناء على أنظمة الحقبة السوفيتية وتحسينها. 

وفي التقدير؛ فإن الأزمة الأوكرانية كانت لها تبعات غير مخططة على مسار العلاقات الروسية الصينية بما يخدم ميزان القوى لصالح الصين، التي تسعى لاستغلال الفرصة والاستفادة من التشتت الغربي والضعف الروسي للتغلغل اقتصادياً عبر الاستفادة من موارد روسيا في مجال الطاقة والحصول عليها بأسعار منافسة، والاستفادة كذلك سياسياً عبر التحرك بسرعة وبحرية أكبر؛ لتقوية نفوذها في دول عرفت تاريخياً بأنها الحديقة الخلفية لموسكو.

وعلى المستوى الاستراتيجي؛ مكّنت تطورات الأزمة بهذا الشكل من اقتراب بكين من الحصول على تقنيات عسكرية فائقة التطور من موسكو، ونقل معركة بكين مع الغرب بشأن تايوان بعيداً عن حدود الصين، كما أثبتت الأزمة الأوكرانية فشل العقوبات الغربية الاقتصادية، وتأكد فشلها في حال استخدامها مع الصين في حالة تايوان، خاصة أن تداعياتها ستكون أكبر على الاقتصادات الغربية بسبب الحجم الهائل للاقتصاد الصيني.

من جهة أخرى، لا تستطيع موسكو في وضعها الحالي إيقاف المكاسب الصينية، وستعمل على تأجيل الصراع معها على النفوذ لحين تحقيق الهدف الأساسي لموسكو، وهو الخروج منتصرة من الحرب في أوكرانيا؛ بما يضمن للنظام استمراره، وتركز موسكو على استمرار التعاون مع بكين؛ بما يضمن لها تحقيق هذا الهدف؛ ومن ثم النظر في المواجهة المؤجلة مع بكين سواء في ساحتها الخلفية أم التنافس العسكري والاقتصادي بين البلدين، وسيظل هذا الصراع مؤجلاً لحين تبدل الأوضاع الجيوستراتيجية بين موسكو والغرب.