تأتي دعوة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لإجراء انتخابات عامة في 14 مايو 2023، في ظل سياق سياسي محموم أفرزته حالة الاستقطاب الحاد المسيطرة على المشهد الحزبي في البلاد، والصعوبات الاقتصادية، وكذلك التداعيات التي ألقى بظلالها زلزال 6 فبراير الماضي، فضلاً عن اضطرابات الإقليم والمشهد الدولي الذي تنخرط فيه أنقرة بأدوار نشطة.
ومن ثم، يكتسب هذا الاستحقاق الانتخابي زخماً واهتماماً ملحوظاً على المستويات المختلفة، المحلية والإقليمية والدولية؛ نظراً لما قد يسفر عنه من نتائج تظل مفتوحة على كل الاحتمالات، سواءً استمرار أردوغان وحزبه العدالة والتنمية الحاكم، ومن ثم تدعيم ركائز حكمه واستمرار سياساته التي ستعززها الشرعية المُتجددة بهذه الانتخابات، أو إمكانية فوز المعارضة، وبالتالي حدوث تحول في السياسات التركية على مستوى الداخل والخارج.
الخريطة الانتخابية
إن الخريطة الانتخابية للتحالفات الحزبية والشخصيات المستقلة التي أعلنت خوضها الانتخابات العامة بشقيها الرئاسي والبرلماني في تركيا، والتي وفقاً للهيئة العليا للانتخابات تمثل 24 حزباً سياسياً، و151 مرشحاً مستقلاً، موزعين في 87 دائرة تشمل 81 ولاية تركية؛ تعكس ملامح وسمات رئيسية، من أبرزها الآتي:
1- هيمنة التحالفات الانتخابية: على مستوى الانتخابات البرلمانية، برزت خمسة تحالفات رئيسية، تمثلت فيما يلي:
- "تحالف الجمهور"، ويضم حزب "العدالة والتنمية" الحاكم بزعامة أردوغان، وحزب "الحركة القومية" برئاسة دولت بهشلي، وحزب "الوحدة الكبرى" اليميني المحافظ، وحزب "الرفاه من جديد" الإسلامي بزعامة فاتح أربكان. كما يدعم هذا التحالف حزب "هدى بار" الكردي الإسلامي، وحزب "اليسار الديمقراطي".
- "تحالف الأمة" أو "الطاولة السداسية"، حيث يضم ستة من أحزاب المعارضة ذوي توجهات أيديولوجية مختلفة، وهي حزب "الشعب الجمهوري" العلماني بزعامة المرشح الرئاسي كمال كليجدار أوغلو، وحزب "الجيد" القومي بزعامة ميرال أكشنار، وحزب "السعادة" الإسلامي بزعامة تمل كرم الله أوغلو، وحزب "المستقبل"، وحزب "الديمقراطية والتقدم"، اللذان يتزعمهما كل من أحمد داود أوغلو، وعلي باباجان، المنشقين عن حزب العدالة والتنمية. وأخيراً "الحزب الديمقراطي" بزعامة غول تكين أويصال.
- "تحالف العمل والحرية"، ويقوده حزب "الشعوب الديمقراطي"، المؤيد للأكراد، الذي قرر خوض الانتخابات باسم حزب "اليسار الأخضر"، تجنباً لإغلاقه نتيجة دعوى قضائية أمام المحكمة الدستورية العليا تتهمه بأنه الذراع السياسية لحزب العمال الكردستاني المصنف منظمة إرهابية في تركيا. ويضم أيضاً التحالف 5 أحزاب يسارية كردية صغيرة.
- "تحالف الأجداد" (ATA)، يضم حزبي "العدالة" و"النصر"، وهو تحالف قومي متطرف ويعادي اللاجئين السوريين.
- "اتحاد القوى الاشتراكية"، ويضم حزب "الحركة الشيوعية"، و"الحزب التركي الشيوعي"، و"الحزب اليساري".
2- وجود أربعة مرشحين للرئاسة: وافقت الهيئة العليا للانتخابات على 4 مرشحين لخوض سباق الرئاسة، ثلاثة منهم مرشحين عن تحالفات، وهم: رجب طيب أردوغان عن "تحالف الجمهور"، وكمال كليجدار أوغلو عن "تحالف الأمة"، وسنان أوغان عن "تحالف الأجداد"، الذي تمكن من الحصول على 100 ألف توقيع، بالإضافة إلى المرشح المستقل محرم إنجه، المنشق عن حزب "الشعب الجمهوري"، وهو رئيس حزب "البلد"، الذي تمكن من خوض السباق الرئاسي بعد نجاحه أيضاً في جمع أكثر من 100 ألف توقيع من الناخبين الأتراك.
3- توحد تكتيكي للمعارضة: تمكنت أطياف المعارضة متباينة التوجهات الأيديولوجية، من التوحد في إطار تحالفي، حيث تم الاتفاق على الخطوط العريضة لبرنامج التحالف فيما بعد الانتخابات، ويجمع تلك الأطياف هدف الإطاحة بأردوغان. بيد أن هذا لم يمنع حدوث توترات كادت أن تتسبب في فشل التحالف وانهياره، وهو ما انعكس في انسحاب "حزب الجيد"، الذي تترأسه ميرال أكشنار، قبل عودتها مرة أخرى إلى طاولة "تحالف الأمة"، احتجاجاً منها على ترشيح كليجدار أوغلو، رئيس حزب "الشعب الجمهوري"، للرئاسة. هذا فضلاً عن رفض جناح في حزب "السعادة"، ذو التوجه الإسلامي، يُسمى جناح "هيمانا"، ترشيح كليجدار أوغلو. وتُنذر هذه التوترات بالتحديات التي قد تواجه تماسك "تحالف الأمة"، وقدرة أحزابه على حشد قواعدها الانتخابية لدعم كمال كليجدار أوغلو، فضلاً عن استمرار التحالف نفسه في مرحلة ما بعد انتهاء الانتخابات في ظل التباينات الأيديولوجية، حيث إن التوحد الراهن تكتيكي للإطاحة بأردوغان.
4- بروز المكون الكردي كـ"صانع للملوك": يمثل الأكراد في تركيا ما يقارب 15 مليون مواطن (20% من إجمالي عدد السكان)، ونحو 15% من الكتلة التصويتية للناخبين، وبالتالي تؤدي الأحزاب الموالية للأكراد دور "صانع الملوك" الذي يمكن أن يمنح التحالف الحزبي "نسبة الحسم" للحصول على الأغلبية المطلوبة. وبالنظر إلى خريطة التحالفات الانتخابية، يُلاحظ انقسام الأحزاب الكردية بين التحالفين الرئيسيين؛ "تحالف الجمهور"، و"تحالف الأمة". بيد أنه كان لافتاً إعلان حزب "الشعوب الديمقراطي"، الذي احتل المركز الثالث من حيث عدد المقاعد في انتخابات يونيو 2018، حيث حصل على نسبة 11.7% من الأصوات و67 مقعداً في البرلمان، دعم "تحالف الأمة" المعارض ومرشحه للرئاسة كليجدار أوغلو في الانتخابات الحالية.
وعلى الرغم من الدعم التصويتي الكبير الذي يحظى به حزب "الشعوب الديمقراطي" في الأوساط الكردية، فإن حالة التضييق التي تمارسها السلطات التركية ضده، والتي قد تؤدي إلى حظره بدعوى الارتباط بـ"حزب العمال الكردستاني" المُصنف على قوائم الإرهاب، قد تؤثر في النسب التصويتية التي يحظى بها في الانتخابات. كما أنه من المتوقع أن يؤثر ذلك في النسب التصويتية لـ"تحالف الأمة" بشكل عام، وحرمانه من أصوات الناخبين القوميين الذين لن يقبلوا بالتصويت لصالح تحالف يدعمه حزب موالٍ للأكراد وله صلة بـ"حزب العمال الكردستاني".
5- تراجع فرص الأحزاب الصغيرة: ساهمت التعديلات التي أقرها قانون الانتخابات الجديد في إبريل 2022، وخاصة تلك المرتبطة بـ"خفض العتبة الانتخابية" من 10% إلى 7%، واشتراط لكي يدخل الحزب البرلمان أن يحقق العتبة الانتخابية بأصواته، ولم يعد كافياً لدخوله البرلمان تجاوز تحالفه هذه العتبة؛ في تراجع فرص الأحزاب الصغيرة وحديثة التأسيس في دخول البرلمان، فضلاً عن التقليل من أهمية التحالفات الانتخابية. وتنظر المعارضة إلى هذا التعديل باعتباره تحركاً تكتيكياً من جانب أردوغان لتفتيت أصوات حزب "الشعب الجمهوري" وزعيمه كليجدار أوغلو، المنافس الأقوى له في الانتخابات الرئاسية، وحرمانه من فرصة ضم المزيد من الأحزاب الصغيرة لتحالفه الانتخابي. وأيضاً، لتحجيم تأثير الأحزاب المنشقة عن حزب "العدالة والتنمية"، التي أسسها كل من أحمد داود أوغلو (المستقبل) وعلي باباجان (الديمقراطية والتقدم).
6- تباين الأوزان النسبية: وفقاً لنتائج استطلاعات الرأي المختلفة (Yöneylem, MetroPoll Saros, ORC, Türkiye Raporu, Aksoy,)، تباينت الأوزان النسبية للتحالفات الحزبية، وكذا المرشحين للانتخابات الرئاسية. إذ تصدر حزب "العدالة والتنمية" التوقعات بأكثر من 32% من الأصوات، يليه حزب "الشعب الجمهوري" بنسبة نحو 27.6%، وجاء حزب "الشعوب الديمقراطي" الموالي للأكراد في المرتبة الثالثة بنسبة 10.7%، طبقاً لاستطلاعات الرأي التي أُجريت في شهر مارس 2023. وعلى مستوى الأصوات الإجمالية للتحالفات، توقعت هذه الاستطلاعات فوز "تحالف الجمهور" بزعامة أردوغان بحوالي 40% في المتوسط، وحصول "تحالف الأمة" المعارض على 38%، فيما جاء "تحالف العمل والحرية" في المرتبة الثالثة بحوالي 11%، وتوزع باقي النسبة على التحالفات والأحزاب الأخرى.
وعلى مستوى الانتخابات الرئاسية، عكست نتائج أربعة من أصل ستة استطلاعات رأي مختلفة أُجريت في شهر إبريل الماضي، تقدم كليجدار أوغلو في السباق الانتخابي على الرئيس أردوغان، بينما تقدم الأخير في استطلاع واحد، وتقاربت نسبة الدعم للمرشحين في استطلاع آخر. فيما لم تتجاوز نسبة الدعم لأي من المرشحين الـ50%، وهي النسبة اللازمة لحسم الانتخابات من الجولة الأولى، وعليه، فإن خوض أردوغان وأوغلو لجولة إعادة أمر مرجح بقوة.