على الرغم من عدم توقف التجارب الصاروخية الكورية الشمالية، فإن عام 2018 قد شهد تطورًا ملحوظًا في العلاقات بين الكوريتين، وتصاعدًا للاتصالات بين المسئولين في كوريا الشمالية ودول الجوار، فضلًا عن تسريبات حول محاولات لترتيب اتصالات بين الزعيم الكوري "كيم جونج أون" والرئيس الأمريكي "دونالد ترامب".
وتمثل هذه التطورات مؤشرات أولية لاتباع كوريا الشمالية سياسةَ المهادنة تجاه جارتها الجنوبية والدول الآسيوية، وهو ما أثار تساؤلات متعددة حول أسباب هذا التقارب، ومدى قابليته للاستدامة، ويمكن القول أن سياسة الاسترضاء التي تنتهجها بيونج يانج تشكل ما يشبه الاختبار للقوي الإقليمية والدولية، ذلك أنها ستحدد ما إذا كان مستقبل العلاقات سيحمل تصعيداً أم مزيداً من التقارب.
مؤشرات الاسترضاء:
أعرب زعيم كوريا الشمالية "كيم جونج أون" في خطابه بمناسبة العام الجديد عن تمنياته النجاح لدورة الألعاب الأولمبية الشتوية في مدينة "بيونج تشانج" الكورية الجنوبية خلال الفترة من 9 إلى 25 فبراير الجاري، مضيفًا أنه على استعداد لإرسال وفد كوري شمالي للمشاركة، وهو ما دفع سول لدعوة كوريا الشمالية لإجراء محادثات في هذا الصدد في 9 يناير 2018، كما تم الإعلان عن أنه سيدور نقاش أيضًا حول بعض القضايا الأخرى المتعلقة بتحسين العلاقات بين الجنوب والشمال ومنها: المنطقة المنزوعة السلاح عند الحدود، وإعادة تشغيل الخط الساخن بين البلدين بعد توقفه لعامين.
وأعلن بيان مشترك بين الدولتين أن هناك محادثات ثنائية جرت بينهما في قرية "بانمونجوم" الحدودية، وتم الاتفاق على تشكيل فريق مشترك يشارك في منافسات هوكي الجليد، كذلك تم الاتفاق على السير تحت علم موحّد لشبه الجزيرة الكورية في طابور العرض في حفل افتتاح الأولمبياد.
وقد أثار تكوين فريق موحد للهوكي غضب بعض اللاعبين من كوريا الجنوبية؛ إلا أن "مون جيه إن" رئيس كوريا الجنوبية أكد أن تكوين فريق مشترك يمثل فرصة جيدة لجذب أنظار الكوريين لهذه الرياضة، خاصة وأنها ذات شعبية محدودة في كوريا الجنوبية.
ورحبت الصحافة في كوريا الجنوبية بهذه القرارات، وأشادت بقدرة الرئيس "مون جيه إن" على إقناع كوريا الشمالية بالجلوس على مائدة التفاوض في الألعاب الأولمبية. وأشارت صحيفة "رودونج سينمون" التي تصدر من كوريا الشمالية إلى أن "بيونج يانج" ستعمل بنشاط لتحسين العلاقات مع جارتها الجنوبية.
وفيما يتعلق بالولايات المتحدة، فقد أشار الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" في إحدى تغريداته إلى أن هذا التقارب يعود الفضل فيه إلى سياساته، وأعلن عن ترحيبه بالحوار بين البلدين، وحذّر وزير الخارجية الأمريكي "ريكس تيلرسون" من أن عدم تخلي بيونج يانج عن برنامجها النووي قد يؤدي إلى رد عسكري.
وشككت "هيذر ناورت"، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية في 2 يناير 2018 في نوايا كوريا الشمالية من الحوار، إلا أنها أعربت عن أنه "إذا قرر البلدان إجراء محادثات، فهذا بالتأكيد سيكون اختيارهما". بينما أعلن وزير الدفاع الأمريكي في يناير 2018 في مؤتمر مشترك مع نظيره الكوري الجنوبي أن الولايات المتحدة ترحب بهذه المحادثات، وأكد أنها أمر إيجابي، مشددًا على قوة التحالف بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية. واستمرارًا في سياسة الاسترضاء التي تتبعها كوريا الشمالية تراجع معدل إطلاق الصواريخ من كوريا الشمالية بعدما كان قد تزايد هذا المعدل بشكل كبير في النصف الثاني من عام 2017.
وعلى الرغم من عدم انخفاض التصعيد الأمريكي-الكوري؛ إلا أن بعض بوادر التهدئة قد شهدتها بداية عام 2018، ويتمثل أهمها في تصريحات الرئيس الأمريكي لصحيفة "وول ستريت جورنال" في 11 يناير 2018، حيث أعطى إيحاء بوجود تطور في العلاقات مع بيونج يانج قائلًا: "ربما تكون لديّ علاقة جيدة مع كيم جونج أون"، إلا أنه رفض التعليق على سؤال حول ما إذا كان قد جرت محادثات بينهما.
وفي 8 فبراير 2018، نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" تقريرًا حول احتمالات تنظيم لقاء على هامش دورة الألعاب الأولمبية الشتوية بين شقيقة الزعيم الكوري "كيم يو يونج" وبعض المسئولين الأمريكيين، حيث تعد "يونج" من المسئولين النافذين في كوريا الشمالية، وتشغل منصب نائب مدير اللجنة المركزية، فضلًا عن تأثيرها الكبير على الزعيم الكوري، وهو ما اعتبره بعض المحللين ضمن اتجاهات المفاوضات السرية بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة.
دوافع "المهادنة":
تتبع كوريا الشمالية في الآونة الأخيرة دبلوماسية تقوم على التصعيد المحسوب تجاه الولايات المتحدة بالتوازي مع المهادنة والتهدئة في علاقاتها مع دول الجوار لإنهاء العزلة الإقليمية المفروضة عليها، وهو ما أطلق عليه بعض المحللين "سياسة الاسترضاء" (Appeasement)، وتتمثل أهم أسباب اتباع هذا النهج فيما يلي:
1- سياسة "الشمس المشرقة": يتبع رئيس كوريا الجنوبية "مون جيه إن" سياسة "الشمس المشرقة" التي تهدف إلى تعزيز التواصل الاقتصادي والسياسي بين الكوريتين لإحلال السلام في هذه المنطقة، وجدير بالذكر أن تنفيذ هذه السياسة كان قد تراجع بشكل كبير منذ نهاية التسعينيات نظرًا لأن القادة السياسيين في كوريا الجنوبية أصبحوا يتبنون نهج واشنطن المتشدد تجاه "بيونج يانج"، ورفض معظمهم إجراء محادثات مع كوريا الشمالية.
وقد تقبّل الشعب الكوري اتجاه الرئيس "مون جيه إن" لإجراء محادثات مع كوريا الشمالية نظرًا لشعبيته الكبيرة، كما أنه وصل إلى سدة الرئاسة بعد الرئيسة "بارك جوين هاي" التي تم عزلها من منصبها بسبب تهم الفساد. في المقابل يمتلك "مون جيه إن" سجلًّا طويلًا من الإنجازات في مجال حماية حقوق الإنسان ومكافحة الفساد، ومن ثم استطاع اكتساب ثقة الشعب.
2- تحييد التهديدات الأمنية: يُطلق البعض على مشاركة كوريا الشمالية في دورة الألعاب الأولمبية صفقة التجميد مقابل التجميد (freeze-for-freeze)، فقبيل الاتفاق على مشاركة كوريا الشمالية، اتفقت سول مع الولايات المتحدة على تعليق المناورات العسكرية المشتركة خلال دورة الألعاب، فضلًا عن أن تواجد مشاركين من كوريا الشمالية في هذا الحدث سيمنع قيامها بأي تحركات استفزازية، بالإضافة إلى تهدئة مخاوف الوفود الدولية وثنيهم عن عدم المشاركة بسبب المخاوف الأمنية، خاصة وأن فرنسا قد أعلنت في سبتمبر 2017 أن لديها مجموعة من التخوفات الأمنية التي قد تمنعها من حضور هذا الحدث، ومن ثم تساعد هذه الصفقةُ الكوريتين على تحييد التهديدات الأمنية.
3- تراجع الدعم الأمريكي: ترى كوريا الجنوبية أن الولايات المتحدة أصبحت على استعداد للتخلي عنها، خاصة بعد رفع "ترامب" شعار "أمريكا أولًا"، بالإضافة إلى تهديداته وتصريحاته العنصرية التي تتسم بالرعونة والتعالي، وبالتالي فإن الحماية الأمريكية لم تعد مضمونة، مما دفعها إلى محاولات التقارب مع كوريا الشمالية.
4- تزايد التحفظات الصينية: اتخذت الصين التي كانت تعتبر من أكبر الداعمين لكوريا الشمالية قرارًا بمنع تصدير بعض المشتقات البترولية لبيونج يانج، بالإضافة إلى منع استيراد بعض المنسوجات، وذلك عقب قيام مجلس الأمن بإصدار مجموعة جديدة من العقوبات ضد كوريا الشمالية في سبتمبر 2017، كما قامت الصين بحظر استيراد الحديد والرصاص والمنتجات البحرية منها في أغسطس 2017، ويرجع تراجع الدعم الصيني لحليفتها التقليدية إلى إدراكها أن البرنامج النووي لكوريا الشمالية أصبح يُهدد الأمن الآسيوي بشكل غير مسبوق نتيجة التجارب الصاروخية المستمرة وإطلاق صواريخ نحو اليابان، ومحاولة تطوير صواريخ لتصل إلى العمق الأمريكي.
يضاف إلى هذا عدم رضا الصين عن طريقة إدارة "كيم جونج أون" للبلاد، وقيامه بإقصاء وقتل الكثير من المسئولين لينفرد بالحكم، كما كان والده يحرص على الجلوس على طاولة المفاوضات للوصول إلى المكاسب الاقتصادية، وعلى النقيض من ذلك أغلق "كيم جونج أون" كل القنوات الدبلوماسية واتبع نهجًا أغضب أقرب حلفائه، وبالتالي وجدت كوريا الشمالية نفسها في خطر حقيقي نتيجة تزايد وتيرة العقوبات، وتراجع دعم حليفها القوي، فلم يكن أمامها حل آخر سوى المهادنة ولو بشكل مؤقت.
تصعيد أم تهدئة؟
تلجأ كوريا الشمالية إلى "التهدئة" دون تقديم تنازلات أو التخلي عن قدراتها الصاروخية والنووية، كما تقوم بيونج يانج بالتصعيد المحسوب ردًّا على الخطوات التصعيدية من جانب الولايات المتحدة. وفي هذا الإطار تتمثل أهم السيناريوهات المطروحة لتطور السياسة الكورية فيما يلي:
1- المهادنة التكتيكية: قد تكون هذه المهادنة خيارًا تكتيكيًّا تفرضه مقتضيات المرحلة الصعبة التي تمر بها كوريا الشمالية من ضغوط دولية تأتي حتى من حلفائها، ومن ثم جاءت هذه المهادنة في إطار السعي لتحقيق مكاسب اقتصادية، وتغيير صورتها في المجتمع الدولي، بيد أن هذا لا يعني انتهاء تهديد كوريا الشمالية، خاصة وأنها لا تزال مستمرة في تطوير برنامجها النووي.
ويكمن الخطر في هذا السيناريو في أنه إذا لم تحقق كوريا الشمالية المكاسب التي ترجوها على الصعيد الاقتصادي فستلجأ للتصعيد مرة أخرى، وهو ما قد يؤدي إلى تنفيذ تهديدات الولايات المتحدة المستمرة بتوجيه ضربة عسكرية محدودة لكوريا الشمالية، أو ما تطلق عليه الإدارة الأمريكية (Bloody Nose)، أي أنها لن تكون ضربة مدمرة ولكنها ستكون بمثابة إنذار أخير للتراجع عن أي نهج تصعيدي، وهو ما سينتج عنه اضطراب في الأوضاع الداخلية لكوريا الشمالية، ونزوح لاجئين، وتوتر شديد على الحدود مع الصين.
2- تعزيز التحالفات: قد تسعى كوريا الشمالية في الفترة المقبلة للحصول على حلفاء جدد لتعويض خسائرها الاقتصادية، وربما يضطرها هذا السيناريو للجلوس إلى مائدة المفاوضات وإعطاء بعض التنازلات على مستوى الملف النووي وبرامج تطوير الصواريخ الباليستية، وهو ما سيؤدي لإحداث تغييرات حقيقية ومستدامة في السياسة الخارجية لبيونج يانج تجاه دول الجوار.
إجمالًا، يتوقف استمرار التقارب والتهدئة بين كوريا الشمالية ودول الجوار على امتناع بيونج يانج عن القيام بأية تجارب نووية وعمليات إطلاق الصواريخ الباليستية التي تهدد أمن الدول الآسيوية والمجتمع الدولي، وخفض الولايات المتحدة الأمريكية مستويات التصعيد تجاهها، بالإضافة إلى البدء في عملية تفاوض بين الطرفين لتخفيف العقوبات الأمريكية، والبدء في طرح محفزات جادة لكوريا الشمالية لتغيير سياساتها بصورة مستدامة.