عرض: منى أسامة
شهدت الولايات المتحدة خلال الانتخابات الرئاسية التي جرت عامي 2016 و2020 أزمة معرفية جلية متمثلة في بروز التصيد، ونظرية المؤامرة، والمعلومات المضللة، مما حد من قدرة المواطنين على إدراك الحقائق، وكذلك القدرة على التمييز بين الحقيقة والكذب. إذ لم تعد هناك رواية واحدة يمكنها وصف الحدث الأمريكي. ومن تجليات تلك الأزمة، الارتباك الشديد، وزيادة الاستقطاب وتشعب الحقائق وشدة الخصومة التي برزت أثناء وفي أعقاب الانتخابات الرئاسية.
بناء عليه، يناقش الكاتب والصحفي الأمريكي جوناثان راوش، زميل في معهد بروكينجز، في كتابه "دستور المعرفة: الدفاع عن الحقيقة" الآثار السلبية للمعلومات المضللة، ونظرية المؤامرة على الثقافة الديمقراطية، وكيفية الدفاع عن الحقيقة الموضوعية ضد أي تهديد أو تضليل، وذلك من خلال "دستور المعرفة"، و"المعرفة الجماعية"، فالواقع - وفقاً لراوش - هو ما يعرفه الجميع، وليس المعتقد الشخصي البحت لكل مواطن على حدة.
نشأة دستور المعرفة:
يبدأ راوش بالإشارة إلى حالة المجتمع قبل دستور المعرفة، حيث كانت تحكمه الفصائل المتحاربة، والحروب العقائدية حول الحقيقة والقانون والأخلاق، والتي استمرت آلاف السنين. مع تطور المجتمعات، كانت هناك حاجة إلى نظام اجتماعي قادر على توليد التقدم ومن ثم تراكمه بشكل منهجي. هنا، يُرجع الكاتب صياغة الأنظمة الاجتماعية الليبرالية الثلاثة (الاقتصادية، السياسية، المعرفية) إلى محاولات الرواد أمثال: جون لوك، وآدم سميث، وجيمس ماديسون في القرنين السابع عشر والثامن عشر. فقد قدم لوك ثلاثة مبادئ تأسيسية لليبرالية السياسية، وهي: الحقوق الطبيعية، والحكم بالموافقة، والتسامح والتي مهدت الطريق للتنوير ودستور المعرفة.
ثم ينتقل راوش إلى الفيلسوف الأمريكي "تشارلز ساندرز بيرس"، والذي عاش في القرن التاسع عشر، وكان بيرس رائداً في صياغة مفهوم "اللامعصومية fallibilism" والمدرسة الفلسفية التي أصبحت تُعرف بالبرجماتية، كما أنه وضع الأساس لنظرية المعرفة الشبكية، التي تصور المعرفة العلمية على أنها خاصية ناشئة للتفاعلات عبر شبكة اجتماعية. ويستفيد راوش من إسهام بيرس فيما يتعلق بمفهوم "اللامعصومية"، بأن الفرد مطالب بالمعرفة، لكن مع الأخذ في الاعتبار بوجود احتمالية بأن يكون مخطئاً. بل قد تكون المهمة الأساسية هي البحث عن الخطأ من أجل حذفه وإنكاره والاحتفاظ بالحقائق التي قد تكون هي نفسها مؤقتة.
ويعتبر راوش العِلم الليبرالي هو المدقق المنطقي الوحيد للمعرفة، لاسيما في مجتمع قائم على الحقائق. فالعِلم الليبرالي كنظام معرفي يوفر ثلاث منافع عامة كبرى للمجتمع هي (خلق المعرفة – تعزيز الحرية – الحفاظ على السلام)، لافتاً إلى أن العِلم الليبرالي على مدار القرون السابقة أنتج المعرفة وجمّعها ونشرها بمُعدل مذهل، حيث تضاعفت المجلات العلمية، وهو مؤشر شائع الاستخدام لحجم ونطاق العلم.
على جانب آخر، عزز النظام المعرفي الليبرالي الحرية الفكرية وتنوع وجهات النظر، فلا تعاني المجتمعات الليبرالية تضييقاً على المفكرين، ومن ثم تشويه المعرفة المنتجة. أخيراً، ساهم العِلم الليبرالي في قصر حروب العقائد العنيفة على قصص التاريخ، وهذا لا يعني إنكار إمكانية حدوث استقطاب بين المتنافسين، لكن حيثما يسود دستور المعرفة يقلل من خطورة أو تهديد أي صراع.
مجتمعات الحقيقة:
يفترض راوش أن المؤسسات الليبرالية المعاصرة مثل: المجلات، والصحف، ومنصات التواصل الاجتماعي تنظمها وتحكمها شبكة من القواعد والقيم، مثل الصدق والتحقق من الوقائع، كما يديرها خبراء كالمراجعين والمحررين. وعلى غرار اعتبار الدستور الأمريكي حاكماً لسياسة الولايات المتحدة، فإن القيم والقواعد والمبادئ والمؤسسات الليبرالية بمنزلة هيكل حاكم للمعرفة، فمجموعة القيم والقواعد هي التي تفرض التفاوض والتسوية على الأطراف المتنافسة وتنظمها، وفي الوقت نفسه تحافظ على الحرية وتعارض سيطرة أي مجموعة أو شخص على المعرفة.
ويفترض "سوق الأفكار" أن الحقيقة تنتج عن تنافس بين الأفكار في إطار الخطاب العام الحر والشفاف، ويرى راوش أن الحقيقة لا تنتصر ببساطة أو من تلقاء نفسها، فيجب أن يكون سوق الأفكار منظماً ومنسقاً، وأن تكون هناك قواعد، حتى لو كانت غير رسمية.
أما قواعد العِلم الليبرالي أو "دستور المعرفة"، فتعني القواعد والمصطلحات والمؤسسات التي توجه النقاش، وتفحص الآراء، وتحدد الحقيقة والتضليل. ويسمى هذا الدستور "نظام التشغيل المعرفي لليبرالية"، وقام بتحديث مصطلح "العِلم الليبرالي" بمصطلح "مجتمع قائم على الحقيقة" للتأكيد على ما يسميه "الأسس المؤسسية والمجتمعية للتحقق الجماعي".
ويشير راوش إلى أن المجتمع القائم على الحقيقة له أربع فئات هي المنح الدراسية، والصحافة، والحكومة، والقانون، حيث يلتزم القائمون على تلك الفئات بتجميع المعلومات والأدلة والحقائق ويفحصون الوثائق ويتأكدون من صحتها ثم يقررون نشرها أو إزالتها. كما يضع عشرة التزامات أساسية يجب أن تكون لدى أتباع دستور المعرفة وهي:
1) اللامعصومية: بمعنى أن أياً منا قد يكون مخطئاً. 2) الموضوعية: لا يمكن اعتبار شيء صحيح لمجرد أنه يمثل وجهة نظر شخص أو مجموعة معينة. 3) التفرد: يتطلب دستور المعرفة الالتزام بواقع موضوعي واحد، لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال قواعد الدستور. 4) عدم التأكيد: تفهم الأفراد أن ما يقدمونه من معرفة مُعرَّض للمراجعة والتحقق. 5) المساءلة: وهي لها عدة مستويات أهمها الضمير المعرفي للشخص. 6) التعددية: يعتمد المجتمع القائم على الحقيقة بشكل إيجابي على تنوع وجهات النظر.7) الكياسة: ندرة الهجمات الشخصية نسبياً. 8) المهنية: التخصص الذي يمكنه تقييم المعرفة وفاعليتها. 9) المؤسسية: المؤسسات هي العقد المتصل بالشبكة المغذية لدستور المعرفة. 10) عدم الهراء: إذا ما كان الكذب ينتهك دستور المعرفة، فالهراء أكثر ضرراً.
ويرى راوش أن الالتزام بدستور المعرفة في المواقف الحياتية اليومية ضرب من الخيال. بعبارة أخرى، ليس من المتوقع أن يكون لـ "دستور المعرفة" السيادة في مجال المعتقد أو الأمور الخاصة، ولكنه لازم في مجال المعرفة العامة مثل: العمل في المجلات الأكاديمية، والصحف، والمناهج الدراسية، والتقارير الحكومية، والموجزات القانونية، فجميعها تتطلب اتباع قواعد دستور المعرفة.
ومن ثم يخلق دستور المعرفة إطاراً معرفياً يمكن للأفراد من خلاله أن يعتنقوا أنواعاً عديدة من المعتقدات الشخصية بحرية وأمان، ولا يتطلب هذا الإطار الإجماع على أي شيء على وجه الخصوص. وحتى مع افتراض أن وصول المواطنين الأمريكيين إلى مرحلة لا يتشاركون فيها الحقائق العامة يعد تهديدا للنظام، إلا أن النظام المعرفي الليبرالي المقصود لا يتطلب حقائق مشتركة، بل يتطلب التزاماً مشتركاً بدستور المعرفة.
تحديات التضليل والإقصاء:
يرى الكاتب أن المجتمع القائم على الحقيقة يواجه تحديين، هما انتشار المعلومات المضللة والحقائق البديلة، والتي يُطلق عليها "ثقافة التصيد من قبل اليمين السياسي"، وانتشار النبذ وإقصاء الأفراد من الدوائر الاجتماعية، والتي تسمى بـ "ثقافة الإلغاء أو الإقصاء من قبل اليسار السياسي". وكلاهما يهتم بحرب المعلومات أكثر من النقاش، بل وكلاهما يتلاعب بالبيئات الاجتماعية والإعلامية لتحقيق مكاسب سياسية، فيسعون إلى السيطرة على فضاء المعلومات من خلال إضعاف معنويات الجمهور وإرباكهم وإحباطهم أو إرهاقهم حتى يتخلون عن المقاومة.
وعلى الرغم من أن راوش يرى أن الوسائط الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي ليست المسؤولة في المقام الأول عن انتشار المعلومات المضللة، فإنه يعتقد أنهم أكثر تناغماً مع الخلاف والتضليل عن المحادثات السلمية والمعرفة. فتلك الأدوات يستخدمها السياسيون من داخل الولايات المتحدة وخارجها لنشر الأكاذيب ونظريات المؤامرة، ما تسبب في تعرض المواطن "للعجز المعرفي"، أو الشعور بعدم القدرة على تحديد وجهته من أجل الوصول إلى الحقيقة. بالتالي، يرى ضرورة أن تتحمل وسائل التواصل الاجتماعي مسؤولية تأثيرها وإصلاح تصميمها حتى لا تتسبب في الانتشار السريع للمعلومات غير المؤكدة والكاذبة.
بالفعل، بدأت المنصات الرقمية في تحمل المسؤوليات المؤسسية عن الحقيقة وصياغة معايير وقواعد معرفية تنظم الوسائط الرقمية ومنها وسائل التواصل الاجتماعي. ويستشهد الكاتب بقرار فيس بوك في 2018 بإنشاء مجلس الرقابة لمنح المستخدمين طرفاً ثالثاً لتقرير المحتوى المراد إزالته أو خفض رتبته. وفي سياق متصل، تمكن موقع ويكيبيديا من نشر دستور المعرفة على الإنترنت، حيث جعل من نفسه نموذجاً مصغراً للمجتمع القائم على الحقائق، إلى جانب تجسيده للالتزامات المجتمعية.
ويرى الكاتب أن التغلب على المعلومات المضللة عبر الإنترنت يتحقق من خلال تصميم وتطوير المنتج نفسه بمعايير وقيم تديره وليس عن طريق إجراءات خارجية "حكومية"، حيث يتجنب الكاتب الاعتماد على الحكومة من أجل فرض الالتزام بدستور المعرفة. من ناحية ثانية، أصبح المتلقون أكثر ميلاً نحو الجودة في الحصول على المعلومة، حيث يلاحظ تراجع الثقة نحو وسائل التواصل الاجتماعي، في المقابل زيادة في متابعة القنوات الإخبارية الراسخة، والتي تعمل على التحقق من الواقع بطريقة أكثر احترافية.
ثقافة التصيد:
يعتقد الكاتب أن "ثقافة التصيد" سيطرت على البيت الأبيض في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، حيث اعتاد ترامب على مهاجمة الصحافة، والنيل منها وتشويه سمعتها، بل وأطلق على جميع وسائل الإعلام القائمة على الواقع مصطلح "أخبار مزيفة"، هادفاً من ذلك التشكيك في أي قصص سلبية قد تُنشر عنه فيما بعد.
عمل ترامب أيضاً ومعه قنواته الإعلامية على استغلال القدرات التكنولوجية الرقمية من أجل "تطبيع" الكذب بهدف إرباك الخصوم، وتقويض قدرة الجمهور على التمييز بين الحقيقة والكذب، لافتاً إلى "حملة التضليل" خلال انتخابات 2020 والتي نشر خلالها ترامب وحلفاؤه قصصاً مختلقة وأحياناً متناقضة عن المؤامرات والمخالفات، بل وزعموا فوز ترامب في الانتخابات التي كان خسرها بشكلٍ واضح، والجدير بالذكر أن تلك الحملة انتهت فقط في أعقاب توجيه تهمة التحريض على التمرد ضد ترامب أمام مجلس الشيوخ. ويعتقد الكاتب أن حملة ترامب فشلت في جعله رئيساً لفترة ثانية، لكنها نجحت في إثارة الشك في نفوس الأمريكيين.
تلك الأحداث دفعت أكاديميين ومراقبين إلى القول إن هناك تهديدًا لأسس النظام الليبرالي نفسه في عهد ترامب، وأن الحياة المدنية الأمريكية قد تفقد قدرتها على تمييز الحقيقة عن الكذب أو حتى الاعتقاد بوجود اختلاف. ويزعم راوش أن دونالد ترامب واحداً من أعظم مبتكري حرب المعلومات على مر العصور (والتي لجأ إليها سياسيون مثل فلاديمير لينين، وأدولف هتلر، وفلاديمير بوتين)، أما عن ترامب، فحاول تكييف تقنيات التضليل على الطريقة الروسية (كتدفق القصص بكثافة وأنصاف الحقائق والمبالغات) مع السياسة الأمريكية وتحويلها ضد شعب الولايات المتحدة.
خطر الصمت:
يختم الكاتب رؤيته لدستور المعرفة بأن الصمت والاستسلام أمام المعلومات المضللة ليس حلاً بل ويمكن أن يؤدي إلى الهزيمة في مواجهة التضليل، فلابد من الانخراط من أجل الدفاع عن الحقيقة. ويشيد راوش بالتعديلات التي تجريها عدد من الجهات الفاعلة لاسيما الفيس بوك، وجوجل، وتويتر، وتعزز تلك التعديلات إمكانية تدشين نظام مناعي أقوى مما هو عليه. وقد يكون هذا النظام ليس منيعاً بشكلٍ كامل، ولكنه بالتأكيد أقل عرضة للخطر والتضليل. وفي المقابل، فإن الأوساط الأكاديمية، تفعل أقل ما يمكن لمحاربة الدعاية السلبية والتنمر. أما المنظمات الإعلامية السائدة، فجهودها متوسطة. وتحتاج الأخيرة إلى أن تكون أكثر تنوعاً أيديولوجياً من الداخل لمحاربة التنمر وثقافة الإلغاء.
يختم راوش الكتاب بالتأكيد على دستور المعرفة هو التصميم الاجتماعي الأكثر نجاحاً في تاريخ البشرية، لكنه في المقابل يفرض على الأفراد عدم الثقة في حواسهم وجماعتهم ومعتقداتهم، بل والاعتراف بقابليتهم للخطأ، وأهمية الخضوع للنقد. أخيراً، يؤكد أن قوى الفوضى والإكراه كل ما تستطيع فعله هو إضعاف الروح المعنوية والتشويش والترهيب بشكل مؤقت، فهي لا تملك القوة لإسقاط دستور المعرفة.
المصدر:
Jonathan Rauch. The Constitution of Knowledge: A Defense of Truth, BROOKINGS INSTITUTION PRESS, Washington, 2021.