نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة تحليلا للكاتبة سارة عبدالعزيز سالم، تناولت فيه تسلسل الصراع والخلاف السياسى الدائر الآن بين الرئاسات الثلاث فى تونس (الرئيس ــ رئيس الحكومة ــ رئيس مجلس نواب الشعب)، مختتمة مقالها بمسارين محتملين لحل الأزمة ــ طبقا للخبراء ــ وهما إما نجاح جهود الوساطة التى يقوم بها الاتحاد العام التونسى للشغل أو نجاح الائتلاف بقيادة حزب النهضة فى عزل الرئيس قيس وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة على الرغم من حجم تكلفة هذا الخيار... نعرض منه ما يلى.
تكشف المتابعات المستمرة للمشهد التونسى خلال الشهور الماضية، وبصفة خاصة منذ تولى «هشام المشيشى» رئاسة الحكومة التونسية فى سبتمبر الماضى، عن حالة متعمقة من المشاحنات المتبادلة والاحتكاك المستمر بين الرئاسات الثلاث فى تونس، ممثلة فى رئاسة الجمهورية التى يقودها الرئيس «قيس سعيد»، والذى يمكن اعتباره فى معسكر منفرد، بينما يتحالف كل من «هشام المشيشى» رئيس الحكومة، وأخيرًا «راشد الغنوشى» رئيس مجلس نواب الشعب، وفى ظل اشتعال حرب التصريحات بين ممثلى الرئاسات الثلاث، يمكن استعراض أهم أسباب وتطورات تلك الأزمة من خلال هذا التحليل.
خلافات متصاعدة
تصاعدت الشائعات أثناء فترة تشكيل حكومة «المشيشى» حول الخلاف بينه وبين الرئيس «قيس سعيد»، وارتفعت بناءً عليه احتمالية حدوث توترات بين الرئاسة والحكومة. حيث أكد بعض السياسيين التونسيين فى ذلك الوقت، أنه على الرغم من أن الرئيس «قيس سعيد» هو من أتى بالمشيشى، إلا أنه قد تخلى عن دعمه له منذ ذلك الحين، وهنا أكد بعض المسئولين من الأحزاب أن «سعيد» طلب منهم التصويت ضد حكومة «المشيشى»، والاستمرار بدلًا من ذلك فى حكومة تصريف الأعمال.
ومن جانب آخر تكون تكتل ضد الرئيس «قيس سعيد»، فقد كشف رئيس حزب قلب تونس «نبيل القروى» فى يوم مصادقة البرلمان التونسى على تشكيل حكومة «المشيشى» عن نوايا الائتلاف الحاكم سحب الثقة من عدد من الوزراء المفروضين على «المشيشى» من قبل الرئيس «قيس سعيد»، وهو ما يؤكد وجود النية المبيتة من قبل كل من حزب حركة النهضة ذى المرجعية الإسلامية، وحليفه «قلب تونس» الليبرالى على التحالف معًا فى مواجهة الرئيس «سعيد»، الأمر الذى حدث بالفعل، ففى الخامس من أكتوبر 2020، أقال «المشيشى» وزير الثقافة «وليد الزيدى» المحسوب على «قيس سعيد».
ومع بداية عام 2021، تعقدت الأزمة بوتيرة أكبر مع إقالة «المشيشى» لوزير الداخلية «توفيق شرف الدين» المقرب من رئيس الجمهورية «قيس سعيد»، وإسناد حقيبة الداخلية لنفسه فى سابقة بتاريخ الحكومات المتعاقبة بتونس. وعلى الرغم من أن بيان رئاسة الحكومة للإقالة كان مقتضبًا؛ إلا أن أغلب التحليلات تشير إلى أنه جاء بإيعاز من حزب «قلب تونس»، حيث أقدم الوزير المقال على الإعداد لقائمة من التحويرات على مراكز أمنية حساسة وأخرى جهوية دون استشارة رئيس الحكومة.
ويأتى التصعيد الأكبر، الذى تسبب فى خروج الأزمة إلى العلن بشكل كبير، مع إعلان «المشيشى» تعديلًا وزاريًا فى حكومته، وذلك فى 16 يناير 2021 وبطلب من أحزاب الحزام السياسى، وهى الأحزاب الداعمة لحكومته. وهو ما اعتبره «قيس سعيد» فى اجتماع بمجلس الأمن القومى فى 25 يناير 2021، بمثابة عدم احترام للدستور، والذى يقتضى عقد المداولات بين الرئاسة والحكومة. إلا أن الأمر تم تجاهله من قبل البرلمان الذى صادق بالأغلبية على هذا التعديل فى 27 يناير 2021، بالرغم من تحفظ الرئيس الذى تحدث عن شبهات بالفساد وتضارب مصالح تحوم حول بعض المعينين الجدد. حيث جاء حصولهم على ثقة البرلمان وفقًا للنظام الداخلى للبرلمان وليس وفقًا لمقتضيات الدستور. وفى المقابل، صمم الرئيس «سعيد» حتى الوقت الحالى على موقفه رافضًا توجيه الدعوة الرسمية للوزراء لأداء اليمين فى قصر قرطاج، وعدم صدور المرسوم الرئاسى لتعيينهم فى مناصبهم.
واستمرارًا لوتيرة التصعيد، وفى الخامس عشر من فبراير، قرر «المشيشى» إعفاء خمسة وزراء من المحسوبين على الرئيس التونسى من مهامهم معتمدًا على حكومة مصغرة. وهم: وزير العدل، ووزيرة الصناعة والطاقة والمناجم، ووزير الشباب والرياضة، ووزيرة أملاك الدولة والشئون العقارية، ووزيرة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحرى، بانتظار استكمال التعديل الوزارى.
قضايا جذرية
فى ظل تمسك الرئيس «قيس سعيد» برفض الموافقة على التعديل الوزارى الأخير، نتيجة لوجود شبهات بالفساد تحيط بالأعضاء الجدد؛ فقد نشرت منظمة «أنا يقظ» غير الحكومية والمتخصصة فى ملفات الفساد، تقارير أكدت فيها وجود شبهات فى تضارب مصالح وفساد «جدية» تحوم حول الوزراء الذين اقتُرحت أسماؤهم حينها، وهم: «الهادى خيرى» لوزارة الصحة، و«سفيان بن تونس» لوزارة الطاقة والمناجم، و«يوسف فنيرة» وزير التكوين المهنى والتشغيل، و«يوسف الزواغى» للعدل. لكن «المشيشى» لم يعفِ وزير الصحة من منصبه. إلا أن تلك التقارير تعضد من موقف الرئيس «سعيد».
وفتح رفض الرئيس الموافقة على التعديل الوزارى نقاشًا دستوريًا حول صلاحيات الرئيس بهذا الشأن، حيث أقر دستور 2014 ضرورة موافقة كلٍّ من البرلمان والرئيس على رئيس الوزراء وأعضاء حكومته ليتمتع بمعظم الصلاحيات التنفيذية، فى حين يشرف الرئيس على الشئون الخارجية والدفاع. وفى حين كان من المفترض فى حال الخلاف اللجوء إلى المحكمة الدستورية للفصل فى النزاعات بين الأفرع المتنافسة للدولة، ومنها الخلاف حول التعديل الوزارى؛ إلا أنه وبسبب التجاذبات السياسية المتواصلة، لم تتمكن الأطراف السياسية فى تونس منذ ست سنوات من إرساء المحكمة الدستورية، لأن كل من فى السلطة لم يتفقوا على قضاة يثقون فى قدرتهم على التزام الحياد. ومجمل الوضع أنه فى حين يريد الرئيس نظامًا رئاسيًا مع دور ثانوى للأحزاب السياسية؛ فإن «الغنوشى» وحلفاءه يريدون نظامًا برلمانيًا أكثر وضوحًا.
الاستقواء بالمظاهرات
فى مواجهة تمسك الرئيس «قيس سعيد» برفض التعديل الوزارى الذى أقدم عليه «المشيشى» فى 15 فبراير 2021، وبعد عدم استجابته لمبادرات «الغنوشى» بعقد لقاء بين الرئاسات الثلاث للحوار حول الوضع السياسى الراهن، والضغط على الرئيس لقبول التعديل الوزارى، واعتماد الوزراء الجدد ليكونوا ضمن الحكومة التونسية، حيث جاء إصرار «سعيد» على رفض الوزراء الجدد لوجود شبهات بالفساد تحيط بهم، وهو ما أدى إلى تعقد الأزمة. فقد تحالف كل من رئيس الوزراء ورئيس المجلس ضده، إلا أن كلًا منهما اتخذ مسارًا مختلفًا لمواجهة الرئيس.
الرحيل الكامل
فى أحدث تصعيد للأزمة السياسية، خرج الرئيس «قيس سعيد» يوم الجمعة 5 مارس ليعلن اشتراطه استقالة «المشيشى» للموافقة على انطلاق الحوار الوطنى. وهو الأمر الذى قوبل برفض شديد عمّق من الأزمة، حيث خرج رئيس مجلس نواب الشعب «راشد الغنوشى» ليعلن أنه ضد أى طلب من شأنه أن يُحدث فراغًا فى البلاد، باعتبار أن البلاد تحتاج إلى تماسك السلطة وليس إلى فكها.
أما الرد الأكثر قوة فقد جاء من «المشيشى» ذاته الذى خرج ليعلن رفضه طلبَ الرئيس باستقالته، مؤكدًا تمسكه بالبقاء فى السلطة. مؤكدًا أن ربط رئيس الجمهورية انطلاق الحوار الوطنى بتقديم «المشيشى» استقالته هو كلام لا معنى له، وأن استقالته غير مطروحة، حيث إن تونس بحاجة إلى الاستقرار وإلى حكومة تستجيب لتطلعات الشعب، مضيفًا أنه لن يتخلى عن مسئوليته تجاه البلاد ومؤسساتها الديمقراطية واستحقاقات الشعب.
وفى مواجهة عملية الحشد الداخلى ربما اتجه الرئيس «سعيد» للخارج، حيث أجرى مجموعة من الاجتماعات بسفراء الدول الأوروبية، وذلك فى محاولة للتذكير بدور أوروبا فى إخراج البلاد من أزمتها. ومن ثم، يمكن رؤية مظاهرات النهضة بأنها تحمل رسالة للخارج وللأطراف الإقليمية والدولية من خلال الحشد الداخلى بأن أى حل سياسى فى تونس لا يجب أن يمر إلا من خلال النهضة.
وفى حين صدرت بعض التصريحات من بعض المنتمين لحزب «قلب تونس» فى وقت مبكر من الأزمة السياسية بين رئيسى الحكومة والدولة، حيث دعا قيادى فى حزب «قلب تونس» مسبقًا إلى تنظيم انتخابات رئاسية مبكرة ردًا على دعوات متكررة من الرئيس الحالى «قيس سعيد» لتعديل الشرعية. ويشير الدستور التونسى إلى إمكانية عزل رئيس الجمهورية فى حالة وحيدة عبر لائحة لوم تتقدم بها الأغلبية فى البرلمان، ويوافق عليها الثلثان على الأقل إذا ما حدث «خرق جسيم» للدستور من جانبه. ولكن هذه الخطوة تواجه تعقيدات دستورية، كونها لا تحظى بإجماع فى البرلمان، كما أنها تحتاج إلى محكمة دستورية غير متوفرة حاليًا، وإلى ثلثى أعضائها من أجل البت فى لائحة اللوم. كما أن «الغنوشى» أكد فى تصريحات أخرى أن الذهاب لانتخابات مبكرة ليس الحل الأمثل نتيجة للأزمة الاقتصادية.
وختامًا، يمكن القول إن مرحلة الانسداد السياسى فى تونس قد بلغت ذروتها، الأمر الذى قد يُنذر باحتمالات شديدة الخطورة، أو على الأقل مضاعفة حجم التداعيات، سواء على مسار الانتقال الديمقراطى أو خسارة دعم المانحين الدوليين. إلا أن هناك بعض المحللين يرون أن هناك مسارين محتملين للحل؛ أحدهما يتمثل فى نجاح جهود الوساطة، سواء من قبل الاتحاد العام التونسى للشغل أو الأحزاب والشخصيات المنتمية للتيار الوسطى الليبرالى. أما المسار الثانى، فيتمثل فى نجاح الائتلاف الذى تقوده النهضة فى عزل رئيس الجمهورية، والدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة، وهو الأمر الذى قد يُعد مكلفًا على الدولة التونسية فى ظل التحديات التى تمر بها، كما أنه يواجه العديد من العقبات الدستورية.