أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

عودة التحكم:

أسباب ومظاهر تصاعد الدور الاقتصادي للدولة

12 أكتوبر، 2014


لم يعتقد كثير من الاقتصاديين المطالبين بأفكار وجود الأسواق ذات الصلاحيات المطلقة من دون قيود، ومن دون تدخل الدولة، أنهم سيجدون أنفسهم مضطرين إلى مراجعة أفكارهم؛ فقد عاد تدخل الدولة، وازداد بشكل غير متوقع، خصوصاً في الدول الرأسمالية في أعقاب الأزمة التي ضربت النظام المالي والاقتصادي العالمي في عام 2008، والتي أثارت الشكوك حول قدرة النظام الرأسمالي على الصمود، خاصة في وجه الأزمات، وقدرته على التخصيص الأمثل للموارد وتحقيق النمو الاقتصادي والتوزيع العادل لثمار هذا النمو.


وربما ينقل هذا التدخل غير المعتاد، أو على الأقل الذي كان في حده الأدنى، فكرة التداخل بين الليبرالية السياسة والرأسمالية الاقتصادية إلى منحى مختلف، إذ يبدو أنه سيصبح "الحكم الرشيد" سياسياً و"الحوكمة الرشيدة اقتصادياً" هما عمودا شرعية الدولة والنظم الحاكمة في الفترة المقبلة، بعد أن اهتزت أفكار الحرية الاقتصادية المطلقة، وعاد تدخل كبريات الدول الرأسمالية إلى التدخل ليس في السياسات الاقتصادية فحسب، وإنما في السياسات التنموية، بعد أن قادت السياسات الرأسمالية غير المنضبطة إلى فجوات كبيرة بين الطبقات حتى داخل الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي، وإلى أخطاء مالية فادحة أصابت العالم بنوبة كبرى جديدة من الكساد المستمر منذ خمسة أعوام.


لقد مهدت هذه الأزمة الطريق لعودة دور الدولة، ليس فقط كرقيب ومُنظّم لآليات عمل الأسواق، وإنما للعب دور اقتصادي فاعل وموازن ومصحح لقوى السوق. فالمتتبع للمراحل التي مر بها تطور النظام الرأسمالي يتبين له أن تصاعد دور الدولة وتحوله كان وليد الأزمات التي مر بها النظام الرأسمالي، وهو ما اتضح جلياً في ظل الفكر الكينزي إبان الركود الاقتصادي الكبير (1929-1933)، ثم مع الفكر النيوكلاسيكي عقب أزمة الركود التضخمي في منتصف السبعينيات، ثم ما لبث أن عاد مجدداً بعد الأزمة المالية الاقتصادية العالمية الأخيرة.

أولاً: تطور دور الدولة في الفكر الاقتصادي

شهدت العقود الماضية جدلاً فكرياً كبيراً بين مؤيدي ومعارضي تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، لعل أبرزه ما روجته المدرسة الاشتراكية التي منحت الدولة حق احتكار وإدارة النشاط الاقتصادي من خلال التخطيط المركزي، ومن ثم فإنها الوحيدة التي لها حق امتلاك موارد ووسائل الإنتاج وأدواته، بينما تبنت المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية مفهوم الدولة الحارسة، التي تمارس وظيفة تقليدية تقتصر على مجالات الخدمات الأساسية من دفاع وأمن وقضاء، مع ترك النشاط الاقتصادي للأفراد بصورة جوهرية، إلا أن الاقتصاد الحر القائم على مبدأ "دعه يعمل دعه يمر"، ما لبث أن مرّ بالعديد من الأزمات الاقتصادية الواحدة تلو الأخرى لتهتز ثوابته والركائز التي قام عليها مع أحدث الأزمات التي واجهها، والتي تمثلت في الأزمة المالية العالمية. ومن هنا عاد الجدل مرة أخرى حول عودة الدولة في ثوبها التدخلي، ولكن بشكل رقابي ومنظم ومتحكم في آليات السوق التي فشلت في أن تصحح نفسها بنفسها.

وإذا كان آدم سميث (1776) أكد أن السوق هو أفضل أداة لتحقيق النمو وتحسين الرفاه، إلا أنه يتعين على الدولة القيام بدور تنظيمي يتمثل في توفير السلع العامة مثل الدفاع وسن القوانين ووضع التشريعات وحفظ الأمن والنظام. وقد تبلور دور الدولة بفضل الفكر الكلاسيكي ليحدد ملامح الحد الأدنى للتدخل في خمس وظائف أساسية تشمل: حفظ النظام والأمن والعدالة واستقرار العلاقات السياسية، وتسجيل وإنفاذ العقود، وحماية حقوق الملكية، وحماية المنافسة، والشفافية وتوفير المعلومات(1).

وفي الفكر الحديث، تشكلت ملامح الدور الاقتصادي للدولة بعد تفشي أزمة الكساد العالمي الكبير عام 1929، بسبب تأثير الفكر الاقتصادي الكينزي الذي تبنى مفهوم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، حيث حدث تحول في دور الدولة من الدولة "الحارسة" ليشمل كذلك مجالات إنمائية يتسع فيها النشاط الاقتصادي اعتماداً على الإنفاق الحكومي كأداة للتدخل لرفع مستوى الطلب الفعال، وتمثل الدافع وراء هذا التدخل في الحفاظ على استقرار الأسعار والنمو الاقتصادي والتشغيل الكامل للموارد.

وقد طبقت نظرية كينز حول ضرورة تدخل الدولة في توجيه الأسواق والنشاطات الاقتصادية بنجاح في عدد من الدول الرأسمالية الكبرى. ففي الولايات المتحدة طبقها الرئيس فرانكلين روزفلت في سياق سياسته الاقتصادية الجديدة التي سعى من خلالها إلى تمكين الاقتصاد الأمريكي من مواجهة تداعيات الكساد العظيم، تلك السياسة التي عرفت باسم "الاتفاق الجديد" (New Deal)، وقد تضمنت هذه السياسة خططاً لزيادة الإنفاق العام في البنية التحتية من طرق وجسور وإنشاء شركات للتأمين ضد البطالة، وخفض معدلات الضريبة على ذوي الدخول المحدودة وزيادتها على الأثرياء، وزيادة المعاشات التقاعدية للعاملين في القطاع العام.

وكان دور الدولة المتوازن في النشاط الاقتصادي في اليابان وتايوان وغيرها من بلدان جنوب شرق آسيا، أحد الأسباب التي أدت إلى "المعجزة الاقتصادية" التي شهدتها تلك البلدان في الفترة ما بين ستينيات وتسعينيات القرن العشرين. فقد رفضت حكومات تلك البلدان آنذاك الأفكار والتوصيات النيوليبرالية، وتدخلت الدولة بنشاط في العملية الاقتصادية، واتبعت في مجال التجارة الخارجية سياسة مارست من خلالها حماية شاملة لقطاعاتها الصناعية المعدة للتصدير. وينطبق الأمر نفسه على بلدان ما يسمى "الموجة الثانية" من الدول الصناعية الجديدة في آسيا، وكذلك الصين وفيتنام.

فالنظام التجاري الكوري الجنوبي، مثلاً، اتبع ما يسمى "سياسة التجارة الحرة الواقعية"، التي تجمع بين الحماية الشديدة ضد الواردات والدعم القوي للصادرات، والتي هي في الواقع سياسة حمائية فعلية، وتنتهج الصين اليوم سياسة مشابهة لها، تتضمن فرض ضوابط على الواردات وقيوداً على الأسعار وعلى حركة رأس المال.

وقد ظلت أفكار كينز بخصوص قيام الدولة بدور نشط في الحياة الاقتصادية، تشكل الأساس النظري للسياسات الاقتصادية التي اتبعتها بلدان كثيرة خلال العقدين اللذين أعقبا الحرب العالمية الثانية، وصولاً إلى مطلع السبعينيات من القرن العشرين. وقد تعزز هذا الاتجاه كذلك بآراء اقتصاديين ينتمون إلى المدرسة الكلاسيكية الجديدة الذين تبنوا الدعوة لامتداد دور الدولة ليشمل البعد الاجتماعي، بما عُرف بدولة "الرفاه الاجتماعي"، وتمثلت الحجة الاقتصادية وراء ذلك في تصويب فشل آليات السوق من ناحية، وضمان توزيع للدخل أكثر عدالة وإنصافاً من ناحية أخرى.

من جانب آخر شهد النظام الرأسمالي الحر العديد من الأزمات الاقتصادية والمالية التي كانت جذورها كامنة في خصائص وآليات عمل السوق(2)، وأضحت التقلبات الدورية للنشاط الاقتصادي في النظام الرأسمالي ما بين انتعاش وانكماش ثم ركود ثم كساد، من الأمور المعتادة، وربما تكون قد خفتت حدة تلك التقلبات مع تطبيق السياسات الكينزية في أعقاب الكساد الكبير، أي في ظل شيوع سياسات تدخل الدولة في الاقتصاد الرأسمالي لضبط حركة الأسواق والتعويض عن فشلها في استعادة التوازن، إلا أنه مع التراجع عن هذه السياسات منذ أواخر السبعينيات من القرن العشرين، وكذلك التراجع عن مفهوم دولة "الرفاه الاجتماعي" وظهور فلسفة الليبرالية الاقتصادية الجديدة وبروز ظاهرة العولمة، عادت هذه التقلبات للظهور بشكل أكثر حدة، وتكررت الأزمات على فترات متقاربة مع اشتداد وطأتها(3). ولقد قدمت الأزمة المالية العالمية اختباراً جديداً للعديد من المبادئ التي قام عليها نظام السوق، وتحديداً لتلك الآليات المستندة إلى "اليد الخفية" أو اقتصاد "دعه يعمل دعه يمر"، وبرهنت في الوقت ذاته على الاحتياج إلى الدولة لتمارس دوراً نشطاً وأكثر فاعلية في النشاط الاقتصادي.

ثانياً: التكامل بين دور الدولة وآليات السوق

أدرك العديد من الاقتصاديين طبيعة العلاقات المتشابكة بين الدور الذي تقوم به الدولة وبين آليات السوق، فكما أن هناك مظاهر لفشل السوق تحتم تدخل الدولة، فإن هناك مظاهر لفشل الحكومات ما يستدعي أن تلعب قوى وآليات السوق دوراً محورياً. ويقرر الاقتصادي ستيجليتز (J.E.Stiglitz)  صاحب جائزة نوبل في الاقتصاد، أن الأصل في العلاقة هو التكامل والمشاركة وليس التنافس(4)، ويكمن التحدي الحقيقي في إيجاد التوازن المعقول بين دور الدولة في مقابل آليات السوق وبين النشاط الحكومي وغير الحكومي(5).

ولم يعد التساؤل عن ماهية دور الدولة هو القضية الجدلية السائدة فيما بعد الأزمة المالية العالمية، وإنما كيف تمارس الدولة دوراً اقتصادياً أكثر فاعلية وبما يحقق أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنشودة أياً كان حجم هذا الدور ومستواه ونوعيته. فقد قدم البنك الدولي مجموعة من المؤشرات التي تهتم بقياس مدى فاعلية الدولة استناداً إلى مفهوم الحوكمة الرشيدة، وترتكز فاعلية الدولة في أداء دورها الاقتصادي من هذا المنطلق على ستة أبعاد رئيسية تشتمل على: فاعلية إدارة الحكم، ونوعية التنظيم والإجراءات المطبقة، وسيادة القانون، والتحكم في الفساد، والتمثيل السياسي والمساءلة، إلى جانب الاستقرار السياسي وغياب العنف والإرهاب، ومدى استقرار الحكومة.

ولعل تقييم الأداء الاقتصادي لروسيا في ظل رئاسة "فلاديمير بوتين" يكشف عن تصاعد دور الدولة منذ عام 2003 كتوجه في إدارة النشاط الاقتصادي، فقد أكدت التوجهات والسياسات التي تم الاعتماد عليها لتحسين الأوضاع الاقتصادية، وتحقيق توزيع عادل لعوائد الإصلاح والنمو الاقتصادي في روسيا، أنه لا يمكن الاستغناء عن دور الدولة في النشاط الاقتصادي أثناء فترة التحول لآليات السوق. وارتكزت السياسة الروسية في هذا الإطار على الملامح التالية:

• استعادة سيطرة الدولة على النشاط الاقتصادي، خاصة من خلال قطاع النفط والغاز.

• التركيز على البعد الاجتماعي في السياسة الاقتصادية، وتوظيف جزء من عائدات النفط لتحقيق تحسن في رفاهية المواطنين.

• تنوع مصادر النمو في الاقتصاد الروسي، فلم يعد النمو يعتمد فقط على النفط والغاز، ولكن أصبحت هناك قطاعات أخرى تساهم بمعدلات واعدة في النمو، مثل قطاع الصناعة، خاصة صناعة المحطات النووية المستخدمة لإنتاج الكهرباء، وصناعة السيارات والصناعات العسكرية وصادرات السلاح.

وقد أكد تقييم الأداء الاقتصادي الكلي للاقتصاد الروسي استدامة معدلات النمو المرتفعة؛ مما أدى إلى انتعاش النشاط الاقتصادي وزيادة الطلب على المنتجات الوطنية، ونمو الصناعة الوطنية والاعتماد على قطاع الزراعة في سد معظم الاحتياجات من الغذاء، فضلاً عن تحسن مناخ الاستثمار وتدفق الاستثمارات الأجنبية وانتعاش سوق الأسهم الروسية، خاصة في قطاع الطاقة، إضافة إلى تحقق فائض في الموازنة العامة للدولة وفي الميزان التجاري، وزيادة الاحتياطي لدى البنك المركزي من الذهب والعملات الصعبة؛ وهو الأمر الذي مكن روسيا في النهاية من سداد أغلب ديونها الخارجية، سواءً للدول الأخرى أو لدول نادي باريس.

ثالثاً: الأزمة المالية والسقوط الحر

تجسدت في عصر العولمة فكرة تخلي الدولة عن دورها وإطلاق العنان لآليات السوق، خاصة في أسواق المال التي تركتها الدولة تعمل بمطلق حريتها، فتخلت الدولة عن دورها الرقابي وانتشرت "المشتقات المالية"، التي ابتدعها خبراء المال الناشطون في وول ستريت، وما لبثت أن نشأت "فقاعة مالية" أفضت بالنظام الاقتصادي والمالي العالمي إلى أزمة مالية حادة، بدأت بالأسواق المالية للولايات المتحدة الأمريكية لتمتد عدواها إلى الأسواق المالية في أوروبا، ثم إلى العديد من البلدان الأخرى.

ولا تقتصر هذه الأزمة على البنوك أو النظام المالي فقط، بل تعدتهما إلى الاقتصاد الحقيقي، لتندرج بذلك ضمن سلسلة الأزمات المالية التي ميزت النظام الرأسمالي لأكثر من قرن، والتي زادت حدتها انطلاقاً من سنوات الثمانينيات مع تصاعد ظاهرة العولمة المالية بكل آلياتها من خلال تحرير أسواق رأس المال، ونزع كل القيود المنظمة لها، وتقليص دور الدولة في الحياة الاقتصادية، وكذلك الانفصال الواضح بين الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد المالي.

وقد أوضحت الأزمة المالية العالمية التي انطلقت شرارتها من أكبر اقتصاد في العالم في سبتمبر 2008، أن القطاع الخاص في ظل حرية الأسواق وهدف تعظيم أرباحه قادر على إيجاد أزمات مالية تؤثر سلباً على النشاط الاقتصادي، ومن ثم يتعين على الدولة أن تضع تنظيمات تحد من نشاط القطاع الخاص، الذي تنجم عنه آثار سلبية على مجمل النشاط الاقتصادي، بالإضافة إلى وضع إجراءات احتواء نتائج الأزمات المالية.

وقد صدر كتاب لـ "ستجليتز" في عام 2008، حيث حمل عنواناً لافتاً هو "السقوط الحر: الولايات المتحدة والأسواق الحرة وهبوط الاقتصاد العالمي"(6) يقوم فيه بتحليل أسباب الأزمة المالية العالمية، والتي يرى أن أهمها كان التخلص من الضوابط التي تحكم عمل السوق كافة، في ظل سيادة الاعتقاد بأن آخر الأزمات هي أزمة الكساد الكبير في الثلاثينيات، واعتقاد الولايات المتحدة الراسخ أن النمو والسياسات الاقتصادية المبنية على عمل السوق هما سياسات سليمة ولا تقبل المساس.

ويتفق تحليل "ستجليتز" مع رأي الاقتصادي بول كروجمان (Paul Krugman) الحائز أيضاً على جائزة نوبل، والذي يقر بأن نجاح الولايات المتحدة في التعامل مع الأزمات السابقة كان بفضل وجود قواعد فاعلة تم فرضها بقوة الدولة، كما يقر بأن انهيار النظام المالي هو انعكاس لانهيار النظام الاقتصادي بسبب وجود مشكلات أخرى هيكلية، تشمل تفاوت الثروة وعدم مساءلة ومحاسبة رجال الأعمال والسياسيين والتركيز على المكاسب قصيرة الأجل.

وفي إطار اقتراح "ستجليتز" بإعادة التوزان ما بين الدولة وآليات السوق، يؤكد على أهمية العمل على إعادة توزيع الدخول وتطبيق ضرائب أكثر تصاعدية، باعتبارها من الأدوار التي يجب أن تضطلع بها الدولة لإصلاح ما أفسدته آليات السوق الحرة.

رابعاً: مظاهر تصاعد تدخل الدولة في الاقتصاد والتنمية

منذ ظهور الأزمة المالية العالمية الأخيرة، حيث شرعت العديد من الحكومات في الدول النامية والمتقدمة على حد سواء في إطلاق برامج للحفز المالي، بغية احتواء الآثار السلبية للأزمة على الرغم من أن ذلك يتناقض مع ما هو مألوف بالنسبة لتعامل الدول المتقدمة مع الأسواق الحرة وقطاع الأعمال الخاص والبنوك الكبرى، اعتماداً على فكرة أن "الأسواق كفيلة بتصحيح نفسها"، وهو ما ثبت خطأه بقدر كبير عقب أزمة 2008.

وقد استهدفت تلك البرامج تنشيط قوة دفع النمو الاقتصادي، ودعم سوق العمل، وإيجاد فرص عمل جديدة. وتباينت الدول فيما بينها من حيث بنية وحجم وتركيبة "حزم التحفيز المالي". وبمقارنة برامج الحفز المالي في عينة مكونة من 22 دولة نامية ومتقدمة، تبين أنه على الرغم من أن التخفيضات الضريبية قد تجاوزت ثلث حجم التحفيز المالي في الاقتصادات المتقدمة، إلا أنها مثلت نحو 3% فقط من الإنفاق المستهدف للتحفيز في الاقتصادات النامية والصاعدة. بالإضافة إلى ذلك، فاقت نسبة الإنفاق المخصصة لتطوير البنية التحتية في حزم تحفيز الاقتصادات النامية والصاعدة ثلاثة أضعاف مثيلاتها في الاقتصادات المتقدمة. وعلاوة على ذلك، مثلت التحويلات الاجتماعية إلى الأسر منخفضة الدخل نسبة ضئيلة نسبياً من حزم التحفيز المالي في كل من الاقتصادات المتقدمة والنامية والصاعدة (%8.10، %8.6 لكل منهما على التوالي).

وتشير مجموعة الخطوات والإجراءات التي اتخذتها العديد من دول العالم منذ الأزمة المالية إلى أن هذا التدخل لم يكن قاصراً على برامج التحفيز المالي، بعد أن قامت إدارة باراك أوباما بضخ نحو 700 مليار دولار عقب الأزمة مباشرة، وقامت اليابان بضخ مئات المليارات في سوقها المحلي لتطمين المستثمرين والمواطن الياباني. وقامت دول منطقة اليورو بضخ مئات المليارات في أسواقها، وشرعت في شراء حصص المصارف والشركات الائتمانية، حيث بلغ مجموع ما تم ضخه في نهاية 2008 بنحو 3 تريليونات دولار في مختلف دول العالم؛ وإنما انتقلت هذه الإجراءات إلى التقشف المالي الذي أصاب أصحاب المعاشات والمؤسسات العامة ودولة الرفاه الاجتماعي، وتدخلت العديد من الدول إلى فرض ضرائب تصاعدية أكبر، ولجأت إلى زيادة الضرائب على الأغنياء، إضافة إلى التحكم في العديد من قوانين وإجراءات التدفقات الاستثمارية وحركة المصارف والبنوك العالمية الكبرى، وفقاً لتوصيات صادرة عن البنك الدولي.

وتؤكد العديد من الإحصائيات أن من أبرز أدوات تدخل الدولة، هو تأميم الموارد والسيطرة على قطاعات أساسية وحيوية بالدولة، قد باتت سمة أكثر وضوحاً خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، فقد شهدت أكثر من 15 دولة بالعالم تقدماً مضطرداً في تأميم الموارد، منها دول صاعدة مثل الهند والصين وجنوب أفريقيا وروسيا وغيرها، وأن نسبة الزيادة في تأميم الموارد قد بلغت أقصاها في دول منطقة شرق أفريقيا، وفي أمريكا اللاتينية، وهو أمر لاتزال تداعياته على الاستثمارات الخارجية غير واضحة حتى الآن.

إذن، عادت الدولة لتتدخل بشكل أكبر مما توقعه أنصار الرأسمالية المطلقة، فأضحت تراقب وتتحكم في قوانين وإجراءات المصارف الكبرى، وتسعى لتأميم الموارد والقطاعات الحيوية، وتتدخل تنموياً عبر فرض المزيد من الضرائب لإحداث تقارب بين الطبقات، وأخذت تراقب حركة الأسواق والاستثمارات عن كثب، ولجأت إلى تقليل المخاطر المتعلقة بالاقتصاد الوهمي والفقاعات العقارية، وكلها أمثلة تشير إلى أننا أمام موجة جديدة من عودة دور الدولة لتنظيم الاقتصاد عبر الرقابة الصارمة في الحد الأدنى، وعبر التأميم الممكن في الحد الأقصى، ما قد يشير إلى أن الأفكار المطالبة بما يسمى "الليبرالية الاشتراكية" قد تجد لها ممارسات واقعية بعد أزمة 2008.

أخيراً، لقد برهنت الأزمات التي عصفت بالنظام الاقتصادي والمالي العالمي أن هناك حاجة لإيجاد التوازن المفقود في توزيع الأدوار بين الدولة وآليات السوق، خصوصاً فيما يتعلق بتوزيع وتخصيص الموارد وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فبينما يتعين بناء وتقوية المؤسسات الداعمة للأسواق والرامية للارتقاء بكفاءتها، فإن هناك ضرورة لتدخل الدولة لضبط حركة الأسواق وتحقيق العدالة والإنصاف في توزيع الدخول والثروات.

المصادر:

1) V. Tanzi, "The Role of the State and the Quality of the Public Sector", IMF Working Paper, No. 36, March 2000, p. 6.

2) R. Samuelson, "Is it 1929 again?", The Washington Post, Oct. 6, 2008, accessible at: http://www.washingtonpost.com/wp-dyn/content/article/2008/10/05/AR2008100501251.html

3) إبراهيم العيسوي. "الأزمة المالية والاقتصادية العالمية والاقتصاد المصري"2008.

4) عبدالله خطاب، "دور الدولة والنظرية الاقتصادية: الدروس المستفادة للحالة المصرية"، ورقة مقدمة في مؤتمر شركاء التنمية حول " دور الدولة في الاقتصاد المختلط" (2008).

5) J. Stiglitz, (1998). "Redefining the Role of the State; What Should It Do: How Should It do it and How should these Decisions be made?"

6) J. Stiglitz, "Freefall, America and the Sinking of the World Economy". (U.S.: W.W. Norton & Company Ltd, 2008). P. 361.