أخبار المركز
  • إصدارات جديدة لمركز "المستقبل" في معرض الشارقة الدولي للكتاب خلال الفترة من 6-17 نوفمبر 2024
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)

محددات قانونية:

ما موقف إدارة بايدن من قرارات الرئيس التونسي؟

09 أغسطس، 2021


أعلن الرئيس التونسي، قيس سعيد، مساء يوم 25 يوليو 2021، مجموعة من القرارات، أبرزها إقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي، وتجميد عمل البرلمان. وعلى الرغم من وجود حالة تأييد داخلي واسع النطاق لهذه القرارات، سواء على المستوى الشعبي أو القوى السياسية، فقد تبنت حركة النهضة موقفاً مناهضاً لها، وارتكزت فيه على تقييم خاطئ للموقف الدولي، خاصة للإدارة الأمريكية برئاسة جو بايدن، حيث اعتقدت النهضة أن واشنطن سترفض أو على الأقل ستدين قرارات الرئيس سعيد. لكن ما صدر عن الإدارة الأمريكية من تحركات وتصريحات رسمية، يكشف عن موافقتها بشكل ضمني على قرارات الرئيس سعيد، الأمر الذي يطرح عدة تساؤلات حول طبيعة موقف إدارة بايدن، وأسباب فشل حركة النهضة وأصوات الليبراليين في واشنطن في دفع الإدارة الأمريكية نحو تبني موقف معارض لتلك القرارات الاستثنائية.  

اهتمام واشنطن:

يعتبر موقف إدارة الرئيس بايدن من الأزمة الراهنة في تونس، عاملاً مهماً في تحديد مسارها، حيث إن إعلان الإدارة الأمريكية رفضها قرارات الرئيس قيس سعيد كان سيفرض ضغوطاً على الأخير ويربكه، لكن موافقتها الضمنية "المشروطة" جعلت الموقف ينتقل من الحديث عن "انقلاب" مزعوم، وفقاً لرواية النهضة، إلى محاولة التركيز على المسار الديمقراطي ومرحلة ما بعد 25 يوليو الماضي. 

وهنا يبقى السؤال المطروح: لماذا تهتم إدارة بايدن بالأوضاع في تونس على الرغم من تركيزها على قضايا الداخل الأمريكي، وقضايا أخرى دولية قد تبدو أكثر إلحاحاً؟ وتتلخص الإجابة في الجوانب التالية: 

1- الحفاظ على المصالح الأمريكية: تعد تونس دولة مهمة للمصالح الأمريكية في شمال أفريقيا، فالسفارة الأمريكية في تونس تستضيف "مكتب ليبيا الخارجي"، وهو الذي يدير ويتعامل مع الكثير من الملفات والبرامج الأمريكية المرتبطة بليبيا. ومن ناحية أخرى، ثمة مخاوف أمريكية من أن يؤدي تفاقم الأحداث في تونس إلى حالة من الانفلات الأمني والفوضى السياسية، وبما يجعلها مشابهة للحالة الليبية. وهذا الوضع يمثل مخاطر كبيرة على المصالح الأمريكية، وهو ما يفسر الانخراط الواضح والمكثف للمؤسسات الأمريكية، خاصة مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية، في متابعة وإدارة الأزمة التونسية.   

2- توجهات إدارة بايدن الداعمة للديمقراطية: ما يجري في تونس يأتي في مرحلة ذات طبيعة خاصة لإدارة الرئيس بايدن، فالأخير منذ وصوله إلى البيت الأبيض في يناير 2021 يعتبر قضايا دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان أولوية عليا لسياسته الخارجية، وفي هذا الصدد تجري في أروقة الإدارة حالياً تحضيرات لقمة الديمقراطية العالمية التي دعا إليها بايدن، والمتوقع أن تكون في نهاية العام الجاري. ومن ثم، فإن تطورات الوضع الراهن في تونس، والتي تراها بعض الدوائر الليبرالية والحقوقية في واشنطن خطراً على التجربة الديمقراطية هناك، قد دفعت بعض الكتابات إلى القول إن ما يحدث هو اختبار لأجندة بايدن الديمقراطية. وتدرك الإدارة الأمريكية هذا التوجه المثار في النقاشات الفكرية في واشنطن، لكنها تفضل التأني وإعطاء الرئيس التونسي فرصة للمُضي قُدماً في العملية السياسية. 

3- رؤية الليبراليين للتجربة التونسية: يُنظر إلى التجربة التونسية داخل الدوائر الليبرالية في واشنطن باعتبارها نموذجاً ناجحاً للتحول الديمقراطي بعد ما يُسمى بـ "ثورات الربيع العربي". وبغض النظر عن مدى مصداقية هذا الطرح إلا أن الملفت للنظر أن هذه الأصوات الليبرالية لم تنظر إلى حالة التردي السياسي والاقتصادي والصحي داخل تونس، واكتفت فقط بمظاهر الديمقراطية السياسية، من دون التركيز على جوهرها الحقيقي في ضرورة تحقيق تقدم ورخاء في قطاعات الدولة كافة، ومنها الاقتصادية. وهذا يوضح سبب عدم تأثر إدارة بايدن برؤية الليبراليين للأحداث الجارية في تونس، فالتقييم الاستراتيجي لها يركز على نتائج التجربة التونسية بشكل رئيسي، مع الوضع في الاعتبار إدراك إدارة بايدن أن الديمقراطية الأمريكية نفسها كانت على المحك في 6 يناير 2021 خلال أحداث اقتحام الكونجرس.  


الموقف الأمريكي:

منذ إعلان الرئيس سعيد عن قراراته الاستثنائية، تبنت الإدارة الأمريكية موقفاً يرتكز على عدم اعتبارها هذه القرارات "انقلاباً على الدستور" أو حتى انتقادها، لكنها استخدمت فقط لغة دبلوماسية تقليدية في التأكيد على أهمية العودة إلى المسار الديمقراطي والاهتمام بحقوق الإنسان، وذلك على النحو التالي:

1- البيت الأبيض: خصصت المتحدثة باسم البيت الأبيض، جين ساكي، جزءاً من مؤتمرها الصحفي يوم 26 يوليو الماضي للرد على أسئلة الصحفيين بشأن تونس، وكانت تصريحاتها أول مؤشر على الموقف الرسمي للإدارة الأمريكية. ففي ردها على سؤال أحد الصحفيين حول "هل تعتبر الإدارة ما جرى في تونس انقلاباً؟"، أكدت ساكي أن إدارة بايدن لا تتبنى هذا التوصيف، لأن توصيف "الانقلاب" له محددات قانونية تجب دراستها، وأنه تتم دراسة هذا الأمر. 

2- وزارة الخارجية الأمريكية: أصدرت الوزارة بياناً صحفياً يوم 26 يوليو الماضي، ذكرت فيه أن "الولايات المتحدة تراقب عن كثب التطورات في تونس، وأن هناك اتصالات مع المسؤولين في الحكومة التونسية للتأكيد على أن حلول المشاكل السياسية والاقتصادية يجب أن تستند إلى الدستور التونسي ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية". وتابع البيان: "لقد كنا واضحين في حث جميع الأطراف على تجنب اتخاذ أي إجراءات من شأنها أن تعيق الخطاب الديمقراطي أو تؤدي إلى العنف". 

كما أجرى وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، اتصالاً هاتفياً، يوم 26 يوليو الماضي، بالرئيس قيس سعيد، شدد فيه على الشراكة القوية للولايات المتحدة ودعمها المستمر للشعب التونسي في مواجهته التحديات المزدوجة المتمثلة في الأزمة الاقتصادية وجائحة كوفيد-19. وشجع بلينكن الرئيس التونسي على التمسك بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وحثه على الحفاظ على حوار مفتوح مع جميع الفاعلين السياسيين والشعب التونسي، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة ستواصل مراقبة الوضع والبقاء على اتصال. 

3- مجلس الأمن القومي الأمريكي: أجرى مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، اتصالاً هاتفياً، يوم 31 يوليو الماضي، مع الرئيس سعيد، حيث "نقل فيه دعم الرئيس بايدن القوي للشعب التونسي وللديمقراطية التونسية القائمة على الحقوق الأساسية والمؤسسات القوية والالتزام بسيادة القانون". وشدد سوليفان "على وجود حاجة ماسة لدعوة القادة التونسيين لرسم الخطوط العريضة لعودة سريعة إلى المسار الديمقراطي في تونس، وأن هذا سيتطلب تشكيل حكومة جديدة بسرعة بقيادة رئيس وزراء قادر على تحقيق الاستقرار في الاقتصاد التونسي ومواجهة جائحة كوفيد-19، فضلاً عن ضمان عودة البرلمان المنتخب في الوقت المناسب".

وتوضح الاتصالات والتصريحات الصادرة عن مؤسسات الإدارة الأمريكية، سواء البيت الأبيض أو وزارة الخارجية أو مجلس الأمن القومي، الموقف الواضح الذي يتمثل في دعم الشعب التونسي، والتأكيد على ضرورة تجنب أي إجراءات تؤدي إلى العنف، وأهمية العودة إلى المسار الديمقراطي من خلال تشكيل حكومة جديدة بسرعة، وضمان عودة البرلمان المنتخب في وقت مناسب. وهذا الموقف يحمل في طياته وبشكل غير مباشر موافقة على قرارات الرئيس سعيد، حيث لم يصدر عن مؤسسات الإدارة الأمريكية أية انتقادات أو إدانة واضحة.  

عوامل مُفسرة: 

ثمة سؤال رئيسي مفاده لماذا فضلت الإدارة الأمريكية الموافقة بشكل ضمني ومشروط على قرارات الرئيس قيس سعيد، وعدم الذهاب في الاتجاه الآخر المناهض لها، والذي كانت تريده حركة النهضة والدوائر الليبرالية في واشنطن؟ ويمكن الإجابة على ذلك من خلال توضيح المحددات الرئيسية التي ساعدت في بلورة هذا الموقف الأمريكي، وتشمل ما يلي: 

1- دور مجلس الأمن القومي الأمريكي: ساعدت القراءة التاريخية لإخفاقات "ثورات الربيع العربي" في منطقة الشرق الأوسط، والتي كان بعض أعضاء فريق مجلس الأمن القومي الأمريكي الحالي شاهدين عليها وجزءاً منها أثناء عمل بعضهم في إدارة باراك أوباما الأولى والثانية، على توجيه عملية صناعة القرار داخل البيت الأبيض. إذ قد يتحدد موقف الإدارة الأمريكية الحالية تجاه الأزمات والملفات الخارجية وفقاً لما يقدمه فريق مجلس الأمن القومي بشكل خاص بعد التشاور والتنسيق مع مؤسسات الإدارة الأخرى، خاصة وزارتي الخارجية والدفاع. ونظراً لأن فريق المجلس الآن أكثر واقعية من سنواتهم خلال إدارة أوباما السابقة، فالتريث وإعطاء الفرصة سيطرا على أية توجهات كانت تدفع نحو تبني ضغوط على الرئيس التونسي بعد قراراته الأخيرة. 

2- المحددات القانونية: من أبرز العوامل التي دفعت إدارة بايدن إلى عدم إدانة أو انتقاد قرارات الرئيس قيس سعيد، ما يتعلق بأن "الانقلاب" هو مصطلح قانوني له محددات وآثار سياسية، حيث إن القسم 508 من قانون المساعدات الخارجية لعام 1961، وتعديلاته المنصوص عليها في القسم 7008 من قانون مخصصات العمليات الخارجية والبرامج ذات الصلة لعام 2013، يمنع على وزارة الخارجية الأمريكية تقديم أي مساعدات للدول التي تتم الإطاحة بقائدها المنتخب عن طريق انقلاب عسكري. والتعريف القانوني هنا لمفهوم "الانقلاب" هو أن يحدث ضد رئيس الدولة المنتخب، وأن يلعب الجيش دوراً حاسماً فيه. ومن الواضح أن الوضع في تونس لا ينطبق عليه هذا التوصيف القانوني، فما جري هو أن الرئيس المنتخب بشكل شرعي استخدم صلاحياته التي أقرها الدستور، والحجج والذرائع المزعومة التي يروجها البعض بأن تلك القرارات تعد انقلاباً على الدستور لا تعني قانونياً أن ذلك انقلاب عسكري يتوجب على الإدارة الأمريكية بموجبه قطع المساعدات عن تونس. وحتى لو كان هناك خلاف حول مدى دستورية ما قام به الرئيس سعيد، فالأمر لا يرتقي إلى مستوى انقلاب على السلطة يستهدف المسؤول الأول فيها.  

3- المحددات الداخلية التونسية: في هذا الإطار ثمة محددان يرتبطان بالداخل التونسي ويفسران الموقف الحالي للإدارة الأمريكية من قرارات الرئيس سعيد. ويتمثل المحدد الأول في فشل حركة النهضة في تحقيق تقدم اقتصادي ومواجهة فيروس كورونا، على الرغم من تصدرها المشهد في السنوات الأخيرة، ومن ثم فالنهضة جزء رئيسي من الأزمة الحالية. والمحدد الثاني يتعلق بـ "الهندسة السياسية" لقرارات الرئيس سعيد، فالأخير هو اللاعب الرئيسي في اتخاذ هذه القرارات، ولديه دعم شعبي، وتتم إدارة الأزمة بشكل مدني بحت، وذلك بصرف النظر عن احتمالية تعرض العملية السياسية لبعض العقبات في مرحلة ما بعد 25 يوليو الماضي. 


الخلاصة، تبنت إدارة الرئيس بايدن موقفاً يعبر عن موافقة ضمنية على قرارات الرئيس قيس سعيد، وذلك على الرغم من وجود محاولات من جانب حركة النهضة أو أصوات أخرى في واشنطن لدفع الإدارة الأمريكية نحو توصيف هذه القرارات على أنها "انقلاب". فما ما حدث لا ينطبق عليه الشروط القانونية التي تتبعها وزارة الخارجية الأمريكية لتبني هذا التوصيف المزعوم.