أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

المجتمع الخامس:

ملامح التحول العالمي إلى مرحلة "ما بعد المعلومات"

16 أكتوبر، 2018


يقف العالم على أعتاب ثورة نوعية جديدة يقودها الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، وسلاسل الكتلة، والطابعات ثلاثية الأبعاد، والعملات الافتراضية، وغيرها من التقنيات الذكية، من شأنها أن تغير ليس فقط هياكل الإنتاج وخصائص المجتمعات وموازين القوة، بل أيضًا المنظور المعرفي للبشر تجاه الأشياء بصورة عامة، فالبشرية أصبحت على وشك التحول نحو جيل جديد من المجتمعات، وتنذر بظهور مجتمع فائق الذكاء تكون فيه اليد العليا للآلة على الإنسان، وتتحقق نبوءات أفلام الخيال العلمي بتآكل المجتمع من داخله عبر إزالة الخطوط الفاصلة بين ما هو إنساني وما هو مادي، ويتعدى ما تم تسميته بمجتمع المعلومات ليظهر "مجتمع ما بعد المعلومات".

وهذا المجتمع الخامس الذي يمكن تسميته بـ"مجتمع ما بعد المعلومات"، يأتي بعد أربعة أجيال رئيسية مرت بها الإنسانية، هي: مجتمع الصيد، والزراعة، والصناعة، والمعلومات، وأخيرًا المجتمع الخامس Fifth Society أو "مجتمع ما بعد المعلومات" الذي تندمج فيه المعلومة والآلة مع عقل الإنسان. ويعتبر الإنترنت أو الفضاء الإلكتروني أو النطاق الخامس Fifth domain هو العمود الفقري له بعد الأرض والبحر والجو والفضاء الخارجي، وقد أصبح الفضاء الإلكتروني هو خامس الميادين التي تسعى البشرية لاستغلالها.

الانتقال إلى "مجتمع ما بعد المعلومات":

كان أول ظهور لمصطلح "مجتمع المعلومات" في اليابان في الستينيات من القرن الماضي، وذلك في كتاب بعنوان: "مجتمع المعلومات: من المجتمع الصلب إلى الناعم" "The Information Society: From Hard to Soft Society"، الصادر عام 1969 لـ "ujiro Hayashi"، وكتاب "مقدمة لمجتمع المعلومات" "Introduction to an Information Society"، الصادر عام 1968 لـ "Yoneji Masuda and Konichi Kohyma" وقد ارتبط المفهوم في البداية بوصف التغيرات الاقتصادية والاجتماعية السريعة في المجتمع الناجمة عن عملية التحديث في "المجتمعات ما بعد الصناعية" Post  Industrial Societies (١)، لكن منذ منتصف التسعينيات ارتبط المفهوم بصورة أكثر بالتطورات التكنولوجية داخل المجتمع الناجمة عن الموجة الثالثة المتمثلة في الثورة المعلوماتية، ورغم استخدامه في البداية بقصد تحرير كافة أشكال الاتصالات، إلا أنه توسع تدريجيًّا ليشمل كافة الأبعاد المادية والبرمجية Hardware and Software الخاصة بالإنترنت، ثم توسع أيضًا ليشمل جميع الأدوات المتعلقة بالتعامل مع المعلومات، سواء كانت جميع أو تخزين أو تداول أو استرجاع أو تحليل المعلومات (٢).

لكن مع دخول العالم مرحلة الثورة الصناعية الرابعة التي تقودها تقنيات الذكاء الاصطناعي والطابعات ثلاثية ورباعية الأبعاد وتقنيات إنترنت الأشياء والسيارات ذاتية القيادة والطائرات المسيرة والحاسبات الكمومية، يضاف إليهم نظم "البلوك تشين" القادرة على إدارة كافة المعاملات البشرية، وغيرها من التقنيات الذكية، سيدخل العالم مرحلة جديدة هي مرحلة مجتمع "ما بعد المعلومات" ذلك المجتمع الذي ستكون له أدوات وخصائص تختلف عن مجتمع المعلومات. فمثلًا، بدلًا من أن يستخدم الفرد خرائط جوجل -مثلًا- للذهاب إلى مقصده كما هو الحال في مجتمع المعلومات، ستقوم السيارة ذاتية القيادة أو الطائرات المسيرة بدون طيار بذلك في مجتمع ما بعد المعلومات، وبدلًا من إعطاء أوامر للروبوتات للقيام ببعض الوظائف والمهام ستقوم بصورة منفردة بتحليل المعلومات من المجسّات وأجهزة الاستشعارات الموجودة في كل مكان واتخاذ القرار بصورة ذاتية. وستقدم تقنيات إنترنت الأشياء خدمات للبشر تسبق احتياجاتهم وتوقعاتهم، وتصبح نظم الإدارة لا مركزية بصورة كبيرة بفضل تقنيات البلوك تشين.

وحينها تكتسح "الثورة الذكية" كل المفاهيم والطرق التقليدية التي عرفتها البشرية منذ بدء الخليقة، وسيعجز العالم عن مواجهة التسونامي التكنولوجي الذي بدأ في التحرك بالفعل، ليظهر عصر جديد من البشرية يصبح الإنسان فيه هو العبد بينما الآلة هي السيد، وهو ما يتطلب وجود رؤية شاملة لما ستكون عليه حياة الأفراد في السنوات القادمة، وكيف يمكن التعامل مع التحديات والتهديدات التي تطرح الثورة الذكية، وتحديد الاحتياجات Needs الجديدة للأفراد التي سوف تخلقها الثورة الذكية، والبحث عن موارد جديدة لإشباع هذه الحاجات، حتى لا يقع الإنسان ضحية إنجازاته التكنولوجية.

وقد ينظر البعض إلى أن تحقيق هذا التطور قد يحتاج عقودًا، ولكن يكفي أن ندرك أن ثمانين عامًا تفصل بين اكتشاف ألساندرو فولتا لإمكانية توليد الكهرباء وبين استخدام اكتشافه، وأعوام ثمانية فقط تفصل بين إعلان شركة آبل عن الآي فون الأول لها في عام 2007 وبين انتشار أكثر من ملياري جهاز هاتف جوال ذكي حول العالم بحلول نهاية عام 2015، فسرعة التطورات التكنولوجية في الثورة الصناعية الرابعة تسير بمتوالية هندسية تضاعفية، ليس فقط من حيث الكم ولكن أيضًا من حيث الكيف وطرق الإنتاج التي ستجعل كثيرًا من المنتجات غالية الثمن حاليًّا، مثل السيارات ذاتية القيادة منخفضة التكلفة في المستقبل القريب وبأسعار تنافسية. 

 التكنولوجيا وتغيير الحياة:

هذا ليس هو التحول الأول الذي تُحدثه التطورات التكنولوجية عبر التاريخ، ولكنه قد يكون التحول الأقوى، حيث غيرت من طرق التواصل بين الأفراد، ويتضح ذلك في تأثير الاختراعات التكنولوجية على طرق التواصل بينهم، بداية من اختراع آلة الطباعة الخشبية على يد الصينين (٣ )، ثم اختراع التليجراف على يد صمويل مورس، مرورًا باختراع الهاتف على يد جراهام بل، ثم اختراع شبكة الويب على يد تيم بيرنرزلي (٤ )، ثم التطور الأبرز المتمثل في الشبكات الاجتماعية وتطبيقات الهواتف الذكية وإنترنت الأشياء التي سهلت عملية التواصل بصورة كبيرة بين الأفراد.

وقد كان لظهور الفضاء الإلكتروني والشبكة العنكبوتية أثر هام في الحياة البشرية، فسهولة استخدامها ورخص تكلفتها ساعد على قيامها بأدوار مختلفة في الحياة البشرية، سواء تجارية أو اقتصادية أو معلوماتية أو سياسية أو عسكرية أو أيديولوجية أو غيرها من المهام التي يمكن أن تقوم بها، فالذي يدير العالم حاليًّا آحاد وأصفار غاية في الصغر، وقد أصبح جليًّا أن من يمتلك آليات توظيف هذه البيئة الإلكترونية الجديدة فإنه الأكثر قدرة على التأثير في سلوك الفاعلين المستخدمين لهذه البيئة.

كما عمل الفضاء الإلكتروني على زيادة التفاعلات بين الأفراد عبر الدول، وسهولة تبادل المعلومات والبيانات، كما عزز الفضاء الإلكتروني من التغيير الهيكلي لعملية صنع القرار داخل الدولة، من الاعتماد على المؤسسات الرسمية إلى تفاعل جهات وجماعات وأفراد رسمية وغير رسمية داخل الدولة عبر الشبكات الاجتماعية، والانتقال من مرحلة تبني النموذج القائم على مركزية دور الدولة في صنع السياسات إلى مشاركة الأفراد في صياغة هذه السياسات، ومن الاعتماد على المؤسسات البيروقراطية في تقديم الخدمات إلى الاعتماد على شبكات الويب.

وأثرت التكنولوجيا أيضًا على الهويات والثقافات، وذلك بفعل تأثير العولمة التي أفرزتها هذه التطورات التكنولوجية، والتي جعلت العالم كله يبدو صغيرًا، فسهولة الاتصالات بل ورخص تكلفتها سهلت عملية التواصل بين الحضارات والثقافات المختلفة، وأصبحت الثقافة الغربية المنتجة للتكنولوجيا هي الثقافة المهيمنة، حيث ساهمت التطورات التكنولوجية في تقديم الثقافة الغربية كثقافة عالمية للجميع، الأمر الذي يجعل الخصوصية الثقافية لبعض المجتمعات موضع التهديد والنسيان.

كما غيرت التكنولوجيا أيضًا من شكل الحروب والصراعات البشرية على مدار العصور، فمن الحروب التقليدية التي استخدمت السيوف والرماح ثم البنادق والرشاشات، ثم القنابل النووية والصواريخ العابرة للقارات، إلى نوع جديد من الحروب هو الحروب الإلكترونية التي تستخدم نوعًا آخر من الأسلحة متمثلًا في فيروسات الكمبيوتر التي لديها القدرة على إلحاق دمار يوازي دمار الأسلحة التقليدية بل قد يفوقه في بعض الأحيان.

ليس هذا فحسب، بل غيرت التكنولوجيا من أشكال الحكومات ووظائفها في بعض الأحيان، فمثلًا عرفت أدبيات العلوم السياسية الحكومة التقليدية التي تقدم خدماتها للجمهور عبر جهاز بيروقراطي مكتبي، ثم تطورت إلى الحكومة الإلكترونية التي تعتمد على طرق الاتصال الحديثة مثل الإنترنت في تقديم خدماتها للجمهور بسهولة ويسر، ومع التطور التكنولوجي غير المسبوق بدأ عدد من الدول يتبنى نماذج الحكومات الذكية القائمة على تقديم جميع خدماتها الحكومية إلى المواطن عبر الهاتف الذكي المتصل بالإنترنت.

وقد ألقت هذه التطورات التكنولوجية على الحكومات أعباء عديدة، وذلك لأن التكنولوجيا سلاح ذو حدين، فكما يمكن استخدامها فيما يفيد البشرية، يمكن استخدامها أيضًا فيما يضرها. فإذا سبق المجتمع الحكومات في استخدام التكنولوجيا الحديثة، مدفوعًا في ذلك بمبادرات شركات تكنولوجيا المعلومات، فإن ذلك قد يشكل تحديًا للحكومة في كيفية إدارة العلاقات الجديدة الناشئة عن استخدام هذه التكنولوجيا، خاصة التهديدات الجديدة التي تطرحها مثل الجرائم الإلكترونية على سبيل المثال، أو استخدام الطائرات التجارية بدون طيار أو المخصصة للترفيه في العمليات الإرهابية، أو استخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد في صناعة الأسلحة.

ومن ثم فقد غيرت التكنولوجية بشكل كبير أنماط الحياة البشرية سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا ومجتمعيًّا، فغيرت من طرق التواصل بين الأفراد، وطورت أجيالًا مختلفة من الحروب، وشكلت قوة دافعة للاقتصاد، وأظهرت أنماطًا مختلفة من السلوكيات، وخلقت أنواعًا جديدة من الثقافات، وغيرت من أشكال الحكومات وهياكل المدن والمجتمعات، وضاعفت عدد التهديدات.

وفي السياق ذاته، أفرزت التطورات التكنولوجية مفاهيم جديدة مدفوعة باختراع الإنترنت والهواتف الذكية وإنترنت الأشياء Internet of Things، لا يزال بعضها غير واضح، وبعضها الآخر لم يستقر بشكله النهائي كمفهوم مكتمل الأبعاد، فمثلًا ما زال هناك خلط بين الإلكتروني Electronic والسيبري  Cyber والرقمي Digital، (٥)  ورغم هذا الخلط إلا أن هناك عددًا من المفاهيم التي استقر استخدامها بصورة ما منها المفاهيم العسكرية، مثل القوة الإلكترونية Cyber Power والصراع الإلكتروني Cyber Conflict والردع الإلكتروني Cyber Deterrence والحرب الإلكترونية Cyber War، ومنها المفاهيم السياسية مثل الديمقراطية الرقمية Digital Democracy، والمواطنة الرقمية Digital Citizenship، والحكومة الإلكترونية eGovernment والحكومة الذكية Smart Government، ومنها المفاهيم الاجتماعية مثل الجريمة الإلكترونية Cyber Crime، والتحرش الإلكتروني، والغش الإلكتروني، والمظاهرات الافتراضية، ومنها المفاهيم الاقتصادية مثل التجارة الإلكترونية Ecommerce، والعملات الرقمية Digital Currencies، والأسواق الافتراضية Virtual Markets.

ولذا يمكن القول إن مسار هذا التغير الذي أحدثته التطورات التكنولوجية في حالة حركة مستمرة، وهو في طريقه إلى مزيد من التصاعد حتى نجد أنفسنا في قلب مجتمع ما بعد المعلومات، أو مجتمع الذكاء الفائق، مدفوعًا بمجموعة من محركات القوى Driving Forces التكنولوجية يأتي على رأسها مواقع التواصل الاجتماعي، وتطبيقات الموبايل Mobile App، والطائرات بدون طيار Drones، والطابعات ثلاثية الأبعاد 3D Printers، وإنترنت الأشياء Internet Of Things، والذكاء الصناعي Artificial Intelligence، والحاسبات الكمومية Quantum Computers، والحوسبة السحابية Cloud Computing، والسيارات ذاتية القيادة Self-Drive Cars، والروبوتات Robots، والعملات الافتراضية Virtual Currencies، وتقنيات الواقع الافتراضي Virtual Reality، بصورة قد تدفع بقوة نحو إنشاء حياة جديدة تسيطر فيها التكنولوجيا على شكل الحياة البشرية، وتعيد صياغة كافة التفاعلات الشخصية والدولية.

المراجع: 

 1- László Z. Karvalics, Information Society – what is it exactly? (The meaning, history and conceptual framework of an expression), Budapest, March-May 2007, PP 5-7.

  2-  Ibid.

3- Yu Tian, The Invention and Impact of Printing in Ancient China, Oct.28, 2007.

4- Tim Berners-Lee, Internet Hall Of Fame.

  5- من الشائع في الأدبيات والمؤتمرات أن كلمة Cyber تشمل كل ما يتعلق بالإنترنت، وكلمة Digital تشمل كل ما يتعلق بنظم الحاسبات Computer Systems وتشمل أيضًا عملية نقل وتحليل البيانات الرقمية التي تتكون من آحاد وأصفار، أما كلمة Electronic فتشمل الأجهزة الإلكترونية نفسها والحالة التي توجد عليها المعلومات بصورة غير مطبوعة.