أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

تسييس "الحقائق":

لماذا تنتشر ظاهرة "التحليلات المضللة" في عالمنا؟

13 فبراير، 2017


اعتقد الفيلسوف هنري سيدجويك Henry Sidgwick أن الحقيقة قضية جدلية، نظرًا لعدم الاتفاق على صيغة أخلاقية موحدة حول ماهية الحقيقة، خاصةً حينما يكون للكذب والتضليل مسوغاته الموضوعية. وهذه المسألة الجدلية لم تكن غائبة عن الظاهرة السياسية بجانبيها العملي والأكاديمي.

ففيما كانت هناك أطروحات تتعاطى مع التضليل والكذب السياسي من منظور براجماتي بحت يفترض أن التضليل إحدى الأدوات التي يُمكن للسياسيين استخدامها لتحقيق أهداف محددة؛ بدا أن استدعاء مثل هذا الطرح في الحقل الأكاديمي بمثابة تقويض للمنظومة الأخلاقية للتحليلات والدراسات السياسية التي تستند بشكل أساسي إلى تحري الصدق والحقيقة قدر الإمكان.

ولم ينقطع هذا الجدل في المجال البحثي خلال العقود الماضية لاعتبارين أساسيين؛ أحدهما مرتبط بطبيعة الدراسات والتحليلات السياسية، ومحاولات استدعاء مقولات وأطروحات تحرر هذه التحليلات من محتواها وأسانيدها الأخلاقية، ومن ثم لا يصبح الهدف من هذه الدراسات والتحليلات تقديم رؤية واقعية تعتمد على معلومات وحقائق ثابتة قدر الإمكان، ولكن يصبح الأمر مرتبطًا بخدمة أهداف وتحيزات معينة. 

أما الاعتبار الثاني، فهو متعلق بالمتغيرات التي شهدتها الساحة الدولية خلال السنوات الماضية بفعل السياقات المأزومة، والصراعات الممتدة التي اصطبغت بطابع طائفي ومذهبي في كثيرٍ من الأحيان، وسعي كل طرفٍ من أطراف هذه الصراعات إلى توظيف كافة الأدوات المتاحة، بما فيها الأدوات الأكاديمية، لدعم موقفه ومصالحه الذاتية. 

مداخل تفسيرية:

يشير التضليل -في أبسط تعريفاته- إلى عملية تشويه متعمد للواقع المدرك بهدف الترويج لأفكار مغايرة للواقع والحقائق، وبالتالي يكون الهدف منه غرس الأوهام والاعتقاد الخاطئ في الأشخاص المستهدفين، ويتعين التأكيد هنا على أن هذا التعريف لا يشمل مقالات الرأي التي تُعبّر عن رأي شخص ما طالما أنها لا تتضمن معلومات مغلوطة يزعم صحتها.

وتعتمد التحليلات المضللة على آليات عديدة، لعل أبرزها الإخفاء والسرية أو ما يُعرف بالنماذج السلبية للكذب والتضليل، وفي هذه الحالة يكون الهدف من حجب المعلومات إعطاء تمثيل زائف لشيء أو شخص أو حدث ما، وبالإضافة إلى الإخفاء يُمكن تزوير المعلومات المستخدمة، وإعادة إنتاج المعلومات، أو ما يُطلق عليه "بارتون ويلي" إعادة التعبئة repackaging، وتحويلها عن جوهرها الحقيقي لتكتسب دلالات جديدة تخدم تحيزات وأهدافًا مسبقة. 

وفي هذا الإطار، تبدو ثمة مداخل أساسية (مرتبطة بطبيعة الحقل البحثي والأكاديمي) تصلح لتفسير ظاهرة التحليلات المضللة في عالمنا الراهن:

(*) التداخل مع الممارسة السياسية: إذ إن عدم وضوح الحدود الفاصلة بين الممارسة السياسية والحقل الأكاديمي، يدفع الكثيرين إلى اجترار الأفكار والممارسات التي يعتنقها السياسيون، وتطبيقها في المجال البحثي الأكاديمي، وهو ما يتضمن إمكانية قبول الكذب والتضليل في التحليلات والدراسات السياسية، على اعتبار أن التضليل إحدى الأدوات التي يستخدمها السياسيون، وذلك تأسيسًا على عددٍ من المقولات، على غرار مقولة "الأكاذيب النبيلة" لأفلاطون، وكذلك مقولة تشرشل "في زمن الحرب يصبح الصدق شيئًا ثمينًا، لا بد أن يُحاط بسياج من الأكاذيب"، ناهيك عن التحولات في أدوار بعض المراكز البحثية، وجعلها أشبه بجماعات المصالح ولجان العمل السياسي التي تضغط لتنفيذ سياسات محددة. 

(*) البراجماتية الحاكمة: فالتضليل يكتسب شرعيته من التكوين الفكري البراجماتي الذي يتحرر من المنطلقات الأخلاقية، ويحكم على الفعل بالنتائج المترتبة عليه، أو بتعبير "لودفيج فون ميزس" فإن "تسمية عمل ما بأنه خير أو شر يتوقف بشكل أساسي على عواقب هذا العمل، فالحكم عليه يتم وفقًا لمكانه في منظومة السبب والنتيجة"، وهكذا يصبح العمل وسيلة تقييم بناء على ما يُفضي إليه. فالتحليلات المضللة لا ترى أن ما تقوم به غير أخلاقي، حيث إنها تخدم أهدافًا نبيلة وطنية وعامة، وقد أكد هذه الإشكالية "توم لولجاك" Tom Luljak في دراسة له عن الخداع والتضليل في الصحافة حينما خَلُصَ إلى أن "الخداع الصحفي أمر روتيني، إلى درجة أن الصحفيين لا يرون في الأمر إشكالية أخلاقية". 

(*) التحيزات المسبقة: فالكثير من التحليلات المضللة تعتمد بشكل جوهري على التحيزات والافتراضات المسبقة للباحثين والمحللين، فحينما يشرع الباحث في العملية البحثية يكون محكومًا بتحيزات وافتراضات مسبقة، وأثناء مرحلة تجميع البيانات والمعلومات قد يتم إثبات هذه التحيزات والافتراضات أو نفيها، ويحدث التضليل عندما يوظف الباحث المعلومات (سواء بالاجتزاء المتعمد أو الإخفاء أو إعادة الإنتاج والتزوير والكذب) بشكل غير أخلاقي لخدمة تحيزاته وإثبات فرضياته المسبقة.

وتُشير التحيزات المسبقة إلى حالة من التشويه المنهجي لنتيجة بحثية ما، وذلك عبر تجاهل أو إهمال أحد العوامل المؤثرة في الظاهرة، وتتجلى حالة التشويه تلك في الأدوات المستخدمة في تجميع وتحليل البيانات، والتي يُمكن من خلالها التكريس لنماذج انتقائية تعتمد بشكل مركزي على البيانات والمعلومات التي تتفق مع تفضيلات الباحث، ولهذه الاعتبارات فقد اقترحت الأدبيات آلية المراجعة المنهجية systematic review لتقليل حدة تأثير التحيزات المسبقة بدمج وتناول كافة العوامل الحاكمة والمؤثرة في الظاهرة موضع الدراسة والتحليل. 

(*) معضلة الاختزال: وقد عبرت عن هذه الاشكالية "حنا أرندت" عندما افترضت أن جزءًا من التضليل يحدث نتيجة للاختزال والتبسيط المخل للواقع المتعدد الأبعاد والمتغيرات، وهذا الأمر قد يتعزز نتيجة للتركيبة الحديثة للنظرية السياسية، وظهور نظريات من قبيل نظريات اللعبة، يتم بناء عليها وضع سيناريوهات تختصر الواقع السياسي إلى خيارات محدودة، وتظهره في صورة متوالية من المعضلات التي تستبعد بعضها بعضًا. وتُضيف أرندت أن هذا النمط من التفكير والتنظير لا يكاد يخدم أي غرض سوى تشتيت العقل، والتقليل من أهمية الطرح بوجود إمكانيات واحتمالات حقيقية متعددة. 

(*) قيد الإدارة والتمويل: حيث يُفرض على الباحث عدد من التوجهات تتسق مع سياسات الجهة المسئولة عن التمويل بصورة تُعزز من قابلية إنتاج تحليلات ودراسات مضللة، وتمثل هذه القضية إحدى القضايا الإشكالية في العديد من المجتمعات بما في ذلك المجتمعات الغربية، ويكفي هنا استدعاء نموذج كاتب من طراز "ليزلي جيلب" في إطار تفاعله مع عملية حرب العراق، إذ ذكر في مقال له بالاشتراك مع "جين بالوما زيلماتي" بعنوان "مهمة لم تكتمل" mission unaccomplished، أن تأييده للحرب في البداية كان "نابعًا من اتجاهات مؤسفة في وسط العاملين بالسياسة الخارجية، ومنها: الحفاظ على وضعك الوظيفي، والحوافز التي تنهال عليك من جراء تأييد الحرب، والحفاظ أيضًا على وضعك السياسي والمصداقية المهنية". 

سياقات مأزومة:

تفترض الأدبيات أن نجاح الخداع والتضليل يعتمد بشكل كبير على السياق والعلاقات الاجتماعية المحيطة بالفعل موضع التحليل، ومن ثم كلما تزايدت حدة الأزمات والصراعات، تنامى الاتجاه نحو التحليلات السياسية المضللة، والتي يُنظر إليها في حينها على أنها أداة من أدوات الصراع، خاصة في حالة تراجع المعايير العلمية والبحثية الدقيقة التي تحول دون تشويه السمة الأخلاقية للمنظومة الأكاديمية.

وتُشكّل الفرضية السابقة مدخلا هامًّا لفهم ظاهرة التحليلات المضللة؛ إذ إن ثمة علاقة متداخلة بين الواقع بكافة أزماته، والتحليلات والدراسات السياسية. وفي هذا السياق تبدو أربعة متغيرات أساسية في هذا الواقع كان لها التأثير الأكبر في ظاهرة التحليلات المضللة:

أولا- النزعة العنصرية والطائفية: فقد شهدت العقودُ الماضية تناميًا في النزعات والانقسامات العنصرية والطائفية داخل الدول، وتراجع فكرة الدولة في مخيلة الكثيرين، والارتباط بهويات أولية تنتمي إلى مرحلة ما قبل الدولة والهوية الوطنية، وهذه الظاهرة تشترك فيها الكثير من المجتمعات، وإن كانت بتمظهرات مختلفة.

ففي المجتمعات الغربية، تمكنت النزعة العنصرية من تجديد خطابها عبر ظهور حركات لليمين المتطرف، وبزوغ قادة ومفكرين متطرفين يتبنون خطابًا عنصريًّا يعكس بشكل أو بآخر الشعور المتنامي لدى الكثير من المجتمعات الغربية بوجود تهديدات فعلية لها، سواء كانت من المهاجرين القادمين إلى أراضيها، أو من بعض الفئات داخل المجتمع، أو من خلال الشعور بالتراجع الاقتصادي، وتراجع الثقة في مكانة الدولة ووجود منافسين خارجيين لها.

وعلى صعيد المجتمعات النامية، كانت النزعة الطائفية أكثر حضورًا وخروجًا عن القيود المنطقية الكفيلة باستمرار الدولة بشكلها التقليدي، حيث ظهرت العديد من النماذج خلال العقود الماضية لحالات تفكك دول عبر صراعات طائفية وإثنية، استصحبت معها محاولات لاستدعاء أدوار جديدة للتحليلات السياسية كأداة منحازة لمصالح كل طرف من أطراف الصراع، ومن ثم يتجاوز التحليل السياسي (مع التأكيد على أن هذا النموذج ليس نموذجًا تعميميًّا) إطاره الأخلاقي ليصبح آلية لشرعنة روايات الكراهية الطائفية، وإضفاء صبغة علمية تنظيرية وأخلاقية متوهمة (مضللة) عبر آليات الخداع، والانتقاء المعلوماتي، وإخفاء الحقائق، بصورة تخرج هذه الروايات من طور الروايات المدانة إلى الروايات المقبولة.

ثانيًا- الصراعات الحادة: إذ إن سمة من سمات النظام العالمي خلال السنوات الماضية تزايد حدة الصراعات بتجلياتها المختلفة، ولجوء الكثير من الفاعلين إلى مسارات عنيفة في إدارة العلاقات والتفاعلات مع الآخرين، ولم يكن العالم الغربي استثناء من هذا الطرح، فالولايات المتحدة كرست لفكرة الصراعات العنيفة في النظام الدولي حينما اختارت عسكرة سياستها الخارجية عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، واندفعت لغزو أفغانستان والعراق. 

لقد كانت حرب العراق 2003 الحالة الأكثر تعبيرًا عن كيفية صياغة التحليلات المضللة في العالم المعاصر، فقد تَشَكَّلَ في فترة ما قبل الحرب نموذج أقرب إلى التماهي بين السلطة وعددٍ من مراكز الفكر والرأي think tanks، وبدا أن التضليل يكتسب صفة تفاعلية جوهرية في توجهات الطرفين؛ فالإدارة الأمريكية -آنذاك- روّجت لرواية مضللة بشأن امتلاك النظام العراقي أسلحة دمار شامل، وذلك لتبرير الحرب، وبالتوازي مع ذلك التوجه كانت هناك مراكز فكرية وتحليلات سياسية متفقة بشكل مسبق مع أطروحات الإدارة، ومنحازة ضد النظام العراقي، ومتجاهلة للكثير من المعلومات التي تقوض أطروحات إدارة جورج دبليو بوش.

ثمة نموذج آخر مرتبط بالصراع العربي الإسرائيلي، والنشأة المصطنعة لدولة إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط، فمثل هذه النشأة كانت تعني بشكل أو بآخر البحث عن أسانيد تبرر احتلال الأراضي الفلسطينية، والجزء الأكبر من إنتاج هذه الأسانيد اضطلعت به مراكز بحثية وأكاديمية، كان هدفها الرئيسي صناعة "الأساطير القومية"، على حد تعبير جون ميرشيمر في كتابه "لماذا يكذب القادة؟"، التي تمنح لإسرائيل شرعية سياسية وأخلاقية متوهمة، ولم يتوقف الأمر عند الأساطير المؤسسة، ولكن أيضًا تم تدعيمه بتحليلات ودراسات مضللة تعزز استمرار السياسات العدائية التي يتم انتهاجها في مواجهة الآخر، على اعتبار أن هذا الطرف (الفلسطينيين) يتبنى ممارسات متطرفة "إرهابية" تستلزم من إسرائيل الدفاع عن نفسها.

ثالثًا- إعادة إنتاج السلطوية: حيث أنتجت التطورات العولمية المتسارعة في النظام العالمي خلال السنوات الماضية ضغوطًا على الكثير من الأنظمة السلطوية، كان بعضها نابعًا من الداخل ومطالب الأجيال الناشئة بإصلاحات سياسية حقيقية، والبعض الآخر كان قادمًا من الخارج. صحيح أن هذه الضغوط كانت تُمثل في بدايتها أزمة بالنسبة لهذه الأنظمة، ولكن بمرور الوقت تمكنت هذه الأنظمة من التوصل إلى صيغة للتكيف مع هذه الضغوط، تقوم بشكل أساسي على الانفتاح السياسي المقيد، مع الاحتفاظ بجوهر المنظومة السلطوية، في عملية أقرب ما تكون إلى "إعادة إنتاج للسلطوية". 

وفي سياق عملية إعادة إنتاج السلطوية، حظيت مراكز الفكر والتحليلات السياسية بأهمية مركزية، على اعتبار أنها يمكن أن تخدم السلطة بالترويج لخطاب مضلل عن الديمقراطية الشكلية القائمة في المجتمعات المحكومة بالسلطويين الجدد، وبالتالي المساهمة في بناء شرعية داخلية وخارجية للسلطة الحاكمة. وفي هذا الإطار، يمكن أن تتحول التحليلات السياسية إلى أداة للسيطرة من جانب السلطة، و"التحكم بمعرفتهم وآرائهم واتجاهاتهم وأيديولوجياتهم، وكذلك تمثيلاتهم الشخصية أو الاجتماعية" على حد تعبير "توين فان دايك" في كتاب "الخطاب والسلطة". 

رابعًا- تصاعد الشعبوية: وبموجب هذا النموذج يصبح الفكر تابعًا لحركة الشعوب الجماعية غير المنظمة المتسمة بدرجة كبيرة من الجنوح والعشوائية، ففي خضم الصعود المعاصر للشعبوية في الكثير من المجتمعات، وما يرتبط بهذا الصعود من تقديس الطبقات الشعبية، تصبح ثمة فرصة مواتية لإعادة إنتاج عمليات التفكير والبحث السياسي، لتظهر العديد من الكتابات والتحليلات التي تبحث عن فرضيات وأسانيد يمكن من خلالها إرضاء المواطنين العاديين والبسطاء، والفوز برضاهم وتأييدهم، وذلك بغض النظر عن مدى جدوى هذه الفرضيات، ومدى صحتها وتماسكها العلمي.

ويؤدي تماهي التحليلات السياسية مع موجة الشعبوية المعاصرة في العالم إلى تقويض الكثير من مشروطيات التحليلات السياسية التي يتعين أن تكون محايدة تجاه الواقع، ومستقلة عن تفضيلات الطبقات الشعبية واتجاهاتها العاطفية، ناهيك عما تفضي إليه النزعة الشعبوية في التحليل السياسي من تبسيط وسطحية شديدة في التعاطي مع الظواهر السياسية كأحد الظواهر المجتمعية، والتي هي بطبيعتها ظواهر معقدة متعددة الأبعاد.

تداعيات محتملة:

ينطوي الاعتماد على التحليلات المضللة على عدد من التداعيات السلبية، صحيح أنها في بعض الأحيان قد تخدم أهدافًا معينة تُحقق مصالح طرف ما، ولكنها -في الوقت ذاته- تقوض الشرعية الأخلاقية للمنظومة الأكاديمية، وتخفض من الثقة في التحليلات السياسية، فضلا عن المشاركة في إنتاج عقول ضيقة منغلقة، وذلك وفقًا لما ذكره الفيلسوف "هاري فرانكفورت" بأن "التعرض للكذب والتضليل يؤدي إلى حرمان الفرد من التجارب الحقيقية المحيطة به، والانعزال في عالمٍ من الأوهام والمعلومات المضللة". 

قد تُسهم التحليلات المضللة في صوغ حالة من الشرعية الوهمية لسياسات معينة، أو ما يُعرف بصناعة الموافقة والرضا manufacturing consent، بالاستعارة من "ناعوم تشومسكي" و"إدوارد هيرمان"، ومن ثم تدفع نحو إنتاج روايات ومفردات تجعل البعض يتوهم بأنه يحظى بقبول أو شرعية غير حقيقية، من شأنها أن تؤدي إلى نتائج كارثية على المدى البعيد، خاصة أنها تصرف الانتباه عن القضايا الأكثر أهمية. 

ثمة جانب آخر مرتبط بالتحليلات المضللة، وهي أنها تُفضي -في كثيرٍ من الأحيان- إلى خلق أعداء، وتثير القلق والخوف لدى الأفراد العاديين، ولتحقيق هذا الأمر يمكن توظيف عدد من المغالطات المعتادة، على غرار الهجوم على شخصية الفرد Ad hominem، والتركيز على الجانب العاطفي، واستخدام العينة المتحيزة، والتماثل الكاذب، والمعضلة المزيفة false dilemma. وهكذا يمكن للتحليلات المضللة أن تحفز على حالة من التطرف المجتمعي، والتعصب، والكراهية المتبادلة بين المكونات المجتمعية. 

لقد تنبهت "إيما جراي إيليس" Emma Grey Ellis لهذه المشكلة حينما انتهت إلى أن السياق البحثي في الولايات المتحدة بات يشهد تزايدًا في عدد مراكز الفكر والرأي المزيفة fake think tanks التي تتبنى خطاب الكراهية والعنصرية بين الفئات المختلفة في المجتمع، حيث تمكنت المراكز المعبرة عن التفوق العنصري الأبيض من إنتاج ما يكفي من المواد البحثية المتمركزة حول التمايزات العنصرية داخل المجتمع. 

خلاصة القول، إن التعاطي مع قضية التحليلات المضللة يستلزم إعادة النظر في ماهية التفاعلات بين الممارسة السياسية والحقل الأكاديمي والبحثي، وحدود التداخل بين المسارين، والكيفية التي يُمكن من خلالها للمجال البحثي والأكاديمي التفاعل الإيجابي مع الظواهر السياسية، بدون التخلي عن المشروطيات الأخلاقية التي أصبحت لها أهمية كبيرة في الواقع المعاصر، والذي يصفه "ماسيمو بيجليوتشي" Massimo Pigliucci بقوله: "إننا لا نعيش في عصر ما بعد الحقيقة، ولكننا نعيش في عصر الترهات والهراء من خلال الإنترنت".