أخبار المركز
  • شريف هريدي يكتب: (الرد المنضبط: حسابات الهجمات الإيرانية "المباشرة" على إسرائيل)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (عام على حرب السودان.. ترابط المسارين الإنساني والسياسي)
  • د. أحمد أمل يكتب: (إرث فاغنر: هل قاد "التضليل المعلوماتي" النيجر للقطيعة مع واشنطن؟)
  • عادل علي يكتب: (موازنة الصين: دوافع تزايد الانتشار الخارجي للقوة البحرية الهندية)
  • إبراهيم فوزي يكتب: (معاقبة أردوغان: لماذا خسر حزب العدالة والتنمية الانتخابات البلدية التركية 2024؟)

عودة روما:

كيف تؤثر توجهات حكومة إيطاليا الجديدة على الشرق الأوسط؟

18 مارس، 2021


لأول مرة في تاريخ السياسة الإيطالية المعاصرة، أعطت الأحزاب الإيطالية الرئيسية الضوء الأخضر لإنشاء حكومة تشاركية جديدة في فبراير الماضي تضم ممثلين عنها تحت رئاسة التكنوقراطي ورئيس البنك الأوروبي المركزي السابق "ماريو دراغي" الذي استطاع إقناع القوى السياسية بأنه لا غنى عن التعاون فيما بينها في هذه اللحظة خصوصًا، حيث تمر إيطاليا بأزمة سياسية واقتصادية مزمنة تضاعفت تحت وطـأة تداعيات جائحة كورونا. ولقد ضمّت هذه الحكومة مزيجًا من الاشتراكيين والليبراليين ويمين الوسط ويسار الوسط وعدد من الشعبويين وممثلين عن أقصى اليمين، بالإضافة إلى بعض المستقلين. وعلى الرغم من الاختلافات الأيديولوجية الهائلة بين كل هذه المكونات؛ إلا أن بعض المراقبين يرون أن هذا التوافق العريض يمكن أن يكون أمرًا جيدًا لإيطاليا، ويشكل لها عامل استقرار ضروريًا بعد العديد من جولات الانقسامات السابقة الحادة. 

 ملامح سياسات "دراغي":

وصف "دراغي" بوضوح الاتجاهات الأساسية لبرنامجه الحكومي خلال الكلمة التي ألقاها في جلسة نَيْل الثقة أمام مجلس الشيوخ في فبراير الماضي، والتي انصبت في شقها الداخلي على اغتنام فرصة المساعدة الممنوحة من الاتحاد الأوروبي لإيطاليا، والمقدرة بـ209 مليارات يورو لاستعادة تماسكها الاقتصادي والاجتماعي. أما فيما يتعلق بالشق الخارجي، فيبدو أن الملامح المستجدة التي ستتمحور حولها سياسات حكومة "دراغي" الخارجية سترتكز على التالي:

1- التقارب مع الاتحاد الأوروبي: في محاولة لضمان تأييد داخلي أكبر، ولتوسيع شرائح الداعمين لخطط حكومته الجديدة؛ سعى "ماريو دراغي" إلى اللعب على صورة إيطاليا عاطفيًا، وإظهار مكانتها بشكل مضخم في الاتحاد الأوروبي، حيث ذكر في خطابه أمام مجلس الشيوخ أن "لا وجود لأوروبا في غياب إيطاليا"، ولكن البعض قرأ في هذا التصريح أيضًا توجهًا ربما قد يتبلور مع الوقت يُنبئ بتحول رأس هرم مشروع الوحدة الأوروبية من ثنائية (ميركل - ماكرون) إلى مثلث (ميركل - ماكرون - دراغي)، وربما قد يساعد إدخال "دراغي" إلى هذا المثلث في تحاشي حصول فراغ في دفة القيادة، خصوصًا مع اقتراب خروج "ميركل" من المشهد السياسي الألماني والأوروبي في نهاية عام 2021، وتأهّب "ماكرون" في الفترة المقبلة لخوض معركة الانتخابات الرئاسية الفرنسية القادمة في مايو 2022، فيما سيحاول "دراغي" الاستمرار على رأس الحكومة الإيطالية الجديدة حتى عام 2023 (موعد الانتخابات البرلمانية الإيطالية المقبلة). وبصفته رئيس وزراء لإيطاليا فإن "ماريو دراغي" سيشغل المركز المخصص لإيطاليا في المجلس الأوروبي المؤثر الذي يتعامل مع ملفات عديدة لها علاقة بالشرق الأوسط، على رأسها ملف إعادة التفاوض مع إيران حول برنامجها النووي.

2- رئاسة مجموعة العشرين G20: تسلّمت إيطاليا رئاسة مجموعة الـ20 خلال سنة 2021، وكانت مسألة ديون الدول النامية وتداعيات جائحة كورونا قد احتلتا حيزًا واسعًا من نقاشات القمة الأخيرة للمجموعة التي عُقدت في الرياض في نوفمبر 2020، حيث تم الاتفاق على تعليق مدفوعات خدمة الدين حتى يونيو 2021 قابلة للتجديد 6 أشهر، والتعهد بالعمل على وصول لقاحات كورونا إلى الجميع وبتكلفة ميسورة، وستعمل إيطاليا من خلال موقعها في رئاسة المجموعة على التنسيق من أجل إيجاد مراكز جديدة لإنتاج لقاحات كورونا. وقد قام "دراغي" بتعيين السفير "لويجي ماتيولو" كممثل شخصي له في مجموعة السبع ومجموعة العشرين، وكان قد شغل سابقًا منصب السفير الإيطالي في كل من تركيا وإسرائيل.

3- العودة الأطلسية: "ماريو دراغي" مقتنع أيضًا بضرورة إبقاء القوات الأمريكية في أوروبا، وبالدور المهم لحلف شمال الأطلسي في حماية مصالح إيطاليا، وفي تحصين الاستقلال السياسي لأوروبا. ومن الممكن أن تؤثر هذه النزعة الأطلسية لدى "دراغي" من خلال ثلاثة جوانب: أولًا، القطيعة مع السياسة الخارجية لحكومة "كونتي" السابقة التي كانت تسعى لإحداث تقارب استراتيجي مع الصين. ثانيًا، من خلال محاولة تقريب وجهات النظر بين دعاة تعزيز الأمن الأوروبي بعيدًا عن حلف الأطلسي عبر بناء جيش أوروبي موحد، وعلى رأسهم الرئيس الفرنسي "ماكرون" وبين الإدارة الأمريكية الجديدة، خصوصًا أن رحيل "ترامب" سيسهل من هذه المهمة. وثالثًا، عبر تخفيف الاندفاعة الألمانية للتعاون التجاري مع روسيا التي قد تؤدي -في بعض الأحيان- إلى كسر صرامة التعامل الأوروبي مع "بوتين".

ملفات الشرق الأوسط:

هناك ملفات شرق أوسطية عديدة يمكن أن تتأثر بمجيء حكومة "دراغي" نظرًا لتغيير الأولويات التي ترتكز عليها السياسة الخارجية الإيطالية، أو نظرًا للتشابك بينها وبين ملفات أخرى تهمّ الحكومة الإيطالية الجديدة، والتي يمكن حصرها في الاحتمالات التالية:

1- ملف الهجرة: في تمايز عن التوجهات الحكومية السابقة، وخصوصًا في فترة تولي "ماتيو سالفيني" لحقيبة الداخلية، يَعتبر "ماريو دراغي" أن الحل الأنسب لأزمة المهاجرين لا يندرج ضمن المبادرات الأحادية في عقد الاتفاقيات الثنائية بين إيطاليا ودول المهاجرين الأصلية، مفضلًا على ذلك بناء سياسة أوروبية موحدة تأخذ على عاتقها مسألة إعادة اللاجئين الذين لا يتمتعون بحق الحماية إلى أوطانهم، مشددًا على شعار "لا سيادة في العزلة"، ولكنه في الوقت نفسه سوف يعمل على تكثيف الجهود التفاوضية من أجل تعديل "لائحة دبلن" التي أقرها الاتحاد الأوروبي سابقًا والتي تضع على عاتق أول دولة يدخلها المهاجر مسؤولية التكفل بمصيره.

وهو ما أدى إلى نشوب خلافات بين الدول التي تقع على حدود الاتحاد الأوروبي كإيطاليا وإسبانيا واليونان وبلغاريا ومالطا والتي تتعرض للتدفقات الضخمة من المهاجرين وبين بعض الدول الأوروبية الأخرى غير الحدودية التي تصلها أعداد ثانوية من المهاجرين والتي غالبًا ما كانت تقوم بإغلاق حدودها أو تعيد اللاجئين الذين تمكنوا من الوصول إليها إلى الحدود المشتركة مع الدول الأولى لوصولهم. ويسعى "ماريو دراغي" إلى تكريس نوع من التوازن بين واجبات دول الدخول الأول وبين مبدأ التضامن بين دول الاتحاد الأوروبي عبر توزيع المهاجرين وفق كوتة معينة يتم احترامها وتطبيقها.

2- الملف الليبي: في حال وُجدت إرادة راسخة لدى الحكومة الإيطالية الجديدة لإيجاد حل جذري لأزمة الهجرة، فإن التوجه سيكون نحو توسيع العمل على ما هو أبعد من إيجاد آليات فردية أو جماعية لمنع تدفق اللاجئين، أو التفكير في كيفية إعادتهم إلى بلادهم، وليشتمل التركيز بشكل أساسي على بناء سلام صلب في ليبيا وعلى عدة مستويات بعد عشر سنوات من الاقتتال الداخلي، حيث يجب تفعيل الوساطات ودعم الحوار السياسي بين الفرقاء الليبيين، وأن يتشابك ذلك مع مبادرة لتدريب مسؤولي البلديات الليبية على كيفية إدارة الحكم المحلي.

3- العلاقة مع الفاتيكان: قام "ماريو دراغي" باقتباس أقوال للبابا "فرنسيس" في خطابه أمام مجلس الشيوخ، ويعود عمق العلاقة إلى فترات سابقة، حيث قام البابا "فرنسيس" بتعيين "دراغي" عضوًا في الأكاديمية البابوية للعلوم الاجتماعية في يونيو 2020، والتي تهدف إلى تزويد الكنيسة بالعناصر التي تساعد على دراسة علم الاجتماع والقانون والعلوم السياسية بشكل متسق مع العقيدة الاجتماعية للكنيسة، وكانت الزيارة الخارجية الأولى التي قام بها بابا الفاتيكان إلى العراق في مارس 2021 بعد انقطاع طويل قد تزامنت مع انطلاقة حكومة "دراغي" في إيطاليا. 

 ولقد صرح البابا في العراق بأن زياراته القادمة ستشمل كلًا من لبنان وجنوب السودان، وكان الملف اللبناني حاضرًا في دائرة اهتمامات الفاتيكان في الآونة الأخيرة، حيث تزامنت دعوة البطريرك اللبناني "بشارة الراعي" إلى عقد مؤتمر دولي خاص لإيجاد حلول للأزمة اللبنانية مع تصريحات للبابا "فرنسيس" تحذر من مغبة انهيار لبنان اقتصاديًا، وضرورة الحفاظ على هوية لبنان الفريدة من أجل ضمان شرق أوسط تعددي. 

4- الخلاف الأوروبي-التركي: شهدت العلاقات الأوروبية التركية تدهورًا مهمًّا في عام 2020، وصولًا إلى حد فرض عقوبات أوروبية على أنقرة في ديسمبر 2020 على خلفية الخلاف حول موضوع ترسيم الحدود البحرية في الحوض الشرقي للبحر المتوسط، وتتباين وجهات نظر دول الاتحاد الأوروبي حول طريقة التعامل مع أنقرة. 

 حيث تفضل جبهة تهيمن عليها ألمانيا اللجوء إلى الخيار الدبلوماسي لحماية مصالح الأعضاء من دون معاقبة تركيا، فيما تميل كتلة ثانية مؤلفة من فرنسا واليونان وقبرص نحو التشدد في التعامل مع أنقرة، واعتبار بعض سياساتها الخارجية وأفعالها عدوانية. ولا يبدو أن العلاقات بين هذه الكتلة وتركيا ستتجه نحو الهدوء، لأن أسباب الخلافات ما تزال مستمرة، فتركيا ما زالت تتخوف من العزلة والاستبعاد من فرص استثمار الطاقة في حوض شرقي المتوسط. 

 وستحاول حكومة "دراغي" في الوقت نفسه المحافظة على تماسك الموقف الأوروبي الموحد ولكن من دون تنفير أنقرة منها، لأنها تحتاج إليها لأسباب عديدة أهمها نفوذ تركيا الجيوسياسي في بعض المناطق المهمة بالنسبة لإيطاليا وخصوصًا في ليبيا وأذربيجان، حيث إن تركيا كانت الداعم الأكبر لحكومة الوفاق الوطني في ليبيا التي يقع تحت سيطرتها أكبر حقول النفط التي تستثمرها شركة إيني الإيطالية، كما أن تركيا كانت ساندت بقوة الجانب الأذربيجاني عسكريًا في ناغورني كاراباخ، فيما كانت إيطاليا تعمل على بناء شراكة اقتصادية مع أذربيجان، واختيار باكو كنقطة ارتكاز لمتابعة مصالحها في دول القوقاز.

ختاماً تدل الخطوط العريضة لحكومة "دراغي" على أنها تريد أن تكون حكومة موالية لأوروبا وأطلسية تعترف بمرجعية ألمانيا وفرنسا أوروبيا، وتحاول أن تعطي لنفسها دور المرجعية الثالثة في القارة العجوز، وتعمل على إعادة رسم العلاقة مع الصين وحصر مفهوم الشراكة معها في البعد التجاري فقط، لطمأنة إدارة "بايدن" الجديدة، في قطيعةٍ مع توجه حكومة "كونتي" السابقة التي كانت تريد بناء شراكة استراتيجية مع الصين. ومن خلال رسم معالم هذا التحول والدور الجديد، لا يمكن لحكومة "دراغي" أن تتجاهل ما يجري في ليبيا والدول المطلة على شرق المتوسط بحكم معادلات الجغرافيا السياسية.