أصدرت إدارة بايدن استراتيجيتها للأمن القومي يوم الأربعاء الموافق 12 أكتوبر، حيث أعلن الرئيس بايدن أن "التغلب على الصين وكبح جماح روسيا"، مع التركيز على استعادة الديمقراطية المتراجعة في الداخل، سيمثلان التحدي الأكبر للولايات المتحدة في السنوات المقبلة. كما أشارت الاستراتيجية إلى أن هذه التحديات ستتم مواجهتها من خلال الاستثمار في الداخل، وتحديث الجيش، وبناء تحالف مع الدول ذات الاتجاهات المماثلة. ويعد تحديد استراتيجية الأمن القومي أمراً إلزامياً بموجب القانون ويتم تقديمه بانتظام من قبل رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية. وفي السابق، قد حاولت استراتيجية جورج دبليو بوش تأسيس عقيدة "وقائية". في حين دعا أوباما، وهو الأكثر إيماناً بالدولية، إلى التحرك نحو عالم خال من الأسلحة النووية، وأيضاً إلى زيادة القوة الناعمة الأمريكية للتغلب على المرض والفقر العالمي. وعلى صعيد آخر كان ترامب شديد الإيمان بإعادة إحياء القوة "التنقيحية" (Revisionist Powers).
حقائق الوضع الأمريكي الراهن
تسعى الاستراتيجية الأمريكية الجديدة للأمن القومي إلى تحديث تقاليدها الاستراتيجية لتلائم الأوضاع الحالية من التوترات مع روسيا، والاحتكاكات مع الصين، وكذلك التحديات العالمية مثل تغير المناخ، فتقوم على الإبقاء على إطار الديمقراطية مقابل الاستبداد، ولكن من خلال نهج أكثر انفتاحاً، حيث ترحب صراحةً بالأنظمة الاستبدادية التي ترفض استخدام القوة لتغيير الحدود، لاسيما ما يتعلق بإيران. فتؤمن هذه الاستراتيجية على وجه التحديد بعبارة "نحن لا نعتقد على الرغم من ذلك أنه يجب إعادة تشكيل الحكومات والمجتمعات في كل مكان على صورة أمريكا حتى نكون آمنين".
كما تضع الاستراتيجية تركيزاً إضافياً على الصين، ولكن الجديد هذه المرة أنها تواجه التهديد الصيني من خلال التركيز بشكل أكبر على تعظيم نقاط القوة الأمريكية، واستهداف الاستثمار في البنية التحتية والتعليم والتدريب والأمن السيبراني والطاقة الخضراء ومجالات أخرى. ويعكس هذا في حد ذاته مشاركة أكبر في السوق العالمية، والابتعاد عن مفهوم الأسواق الحرة بشكله المطلق (حيث تتدخل الدولة في الأسواق)، خاصة عندما تقترن هذه الأسواق بالقيود المفروضة على نقل التكنولوجيا، مثل القيود الأخيرة المفروضة على الرقائق الدقيقة.
ويشير تقرير الاستراتيجية الأمريكية الجديد للأمن القومي أيضاً إلى تقليل التركيز على منطقة الشرق الأوسط، وتعكس هذه النقطة تحديداً عدة أبعاد، منها خفوت مستوى تهديد الإرهاب في المنطقة، واستقلال الطاقة الأمريكية، ونجاح الجهود العالمية للتحول عن الوقود الأحفوري، ووصول عهد بناء أمريكا لغيرها من الأمم لنهايته.
كان لدى الولايات المتحدة "إيمان غير واقعي بالقوة، وبإمكانية تغيير النظم لتحقيق نتيجة مستدامة". وفقا للاستراتيجة، بينما أضافت أيضا أن "الوقت قد حان لتجنب السياسة القديمة (في الشرق الأوسط) في سبيل تحقيق خطوات أكثر برجماتية".
وتؤكد وثيقة الاستراتيجية الأمريكية الجديدة للأمن القومي، أولاً، أن الولايات المتحدة ستدعم وتعزز الشراكات مع الدول التي تؤيد النظام الدولي القائم على احترام القواعد والقوانين للدول. وقد قام الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت بصياغة هذا النهج لأول مرة في عام 1941 لوصف سياسات الولايات المتحدة الأمريكية تجاه العالم بأسره. وثانياً، تبرز الوثيقة أن الولايات المتحدة لن تسمح لأي قوى أجنبية أو إقليمية بتعريض حرية الملاحة للخطر، بما في ذلك مضيقا هرمز وباب المندب. وثالثاً، تتعهد الوثيقة بأن الولايات المتحدة ستعمل على تقليل التوترات، وإنهاء الصراعات، وتخفيف التصعيد، عندما يكون ذلك ممكناً من خلال الدبلوماسية. ورابعاً، توضح الوثيقة أن الولايات المتحدة ستعزز التكامل الإقليمي. وأخيراً، تبين الوثيقة أن الولايات المتحدة ستدعم حقوق الإنسان والقيم المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة.
التحديات ونقاط الضعف
في مقابل ذلك، تواجه الولايات المتحدة حالياً عدة تحديات كما يبدو من محتوى وثيقة استراتيجية الأمن القومي الجديدة، فمثلاً قرار الابتعاد عن منطقة الشرق الأوسط، والطريقة التي يتم بها تأطير السياسة في هذا الإقليم، سيكون من الصعب تنفيذه في أرض الواقع. فلايزال الكثيرون في الإدارة الأمريكية يؤمنون بأن ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط أمر حيوي بالنسبة للمصالح الأمنية الأمريكية. والدليل على ذلك ما حدث في منتصف شهر أكتوبر الماضي، حين توترت العلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، بعد انتقادات الولايات المتحدة قرار أوبك بخفض الإنتاج، واتهامها المملكة بأنها بهذا القرار تعتبر منحازة إلى جانب روسيا، مما أدى إلى تبادل تصريحات سلبية بين الدولتين، متضمناً ذلك دعوات أمريكية لإعادة تقييم العلاقات.
ويلاحظ أن وثيقة الاستراتيجية الأمريكية لا تحتوي على أي مفاجآت بشأن إيران، حيث تنص الوثيقة على أن الولايات المتحدة ستعمل مع الحلفاء "لردع أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في المنطقة وستتصدي لها". وكذلك ستقوم الولايات المتحدة باختيار الدبلوماسية كأداة مفضلة عندها لردع إيران عن تطوير الأسلحة النووية. هذا وتؤكد الولايات المتحدة أنها مستعدة "لاستخدام وسائل أخرى في حال فشلت الدبلوماسية". وبالطبع فإن الكثير من هذا سيتوقف على التطورات الإقليمية فيما يتعلق بسوريا ولبنان، بالإضافة إلى المفاوضات العالقة بشأن خطة العمل الشاملة المشتركة.
وتؤكد الاستراتيجية أن الولايات المتحدة لن "تتسامح" مع محاولات أي دولة السيطرة على دولة أخرى، خاصة من خلال "الوسائل العسكرية". ومن ناحية أخرى، تتعارض هذه الرؤية مع التزام الولايات المتحدة تجاه إسرائيل بأن تضمن للأخيرة "تفوقها العسكري النوعي والكمي" في المنطقة، وهو الاستثناء الذي أصبح مع الوقت أساساً معيارياً. والسؤال هنا هو: هل تعني هذه الاستراتيجية أن الولايات المتحدة ستسلح حلفاءها العرب بشكل أكبر لمواجهة الجهود الإيرانية في ضوء تراجع المشاركة العملياتية الأمريكية بعد العراق وأفغانستان؟ ويمثل هذا سؤالاً استراتيجياً مهماً للدول العربية في المنطقة، خاصةً أن هذه الدول تتمتع بعلاقات وضمانات أمنية قوية منذ معاهدة كارتر لعام 1980، حين أعلن الرئيس الأمريكي أن الولايات المتحدة ستستخدم القوة إذا لزم الأمر للدفاع عن مصالحها القومية في منطقة الخليج العربي.
هذا ويلاحظ أن الوثيقة كانت غامضة فيما يتعلق بقضايا أخرى، ولكن الجدير بالملاحظة أنها صرحت بطريقة مباشرة بأن "حل الدولتين وفقاً لحدود 1967، بينهما مقايضات متفق عليها بشكل متبادل، تظل أفضل طريقة لتحقيق قدر متساوٍ من الأمن والازدهار والحرية والديمقراطية للفلسطينيين وكذلك الإسرائيليين". وعلى الرغم من عدم وجود أي مؤشر على عملية مقترحة قابلة للتطبيق هنا، فإنه يظل مرجعاً مفيداً.
عادة ما تكون استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية موضع تحليل مكثف من قبل محللي السياسة الخارجية خارج وداخل الولايات المتحدة. ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أن جمهور هذه الاستراتيجية الرئيسي هو الجمهور المحلي، وهو غير مهتم على الإطلاق بالشؤون الخارجية، ولذا فهو عندما يضع الاستراتيجية، نجده يركز في الغالب على تصورات التهديد الخارجي الحقيقي أو المحتمل. لذلك، يلاحظ أن الاستراتيجيات في هذه الوثيقة دائماً ما تكون غامضة، وبلاغية، وغير دقيقة، ومرتكزة على التهديدات فقط ومشيرة إلى الفرص في بعض الأحيان.
ومن نقاط ضعف وثيقة الاستراتيجية الأمريكية للأمن القومي أن كل إدارة تصدر استراتيجيتها الخاصة، مما يقصرها على 4 إلى 8 سنوات بحد أقصى، بسبب الدورة الانتخابية الأمريكية. وبالتالي، فغالباً ما تُترك الأسئلة الاستراتيجية المهمة من دون إجابة مثل السؤال عن التغييرات الحتمية في النظام العالمي. أضف إلى ذلك الغموض فيما يتعلق بنقطة استراتيجية أخرى ألا وهي، كيف تتصور الولايات المتحدة نفسها؟ هل هي قوة محلية أم عالمية؟
في اعتقادي أن الولايات المتحدة ترى نفسها بشكل صريح القائد الدولي، ولكنها في الوقت ذاته تدرك أن قوتها وقدراتها ستكون أكثر محدودية وأقل حصرية عن ذي قبل. ولذلك فمن الضروري أن تأخذ الدول العربية هذه النقاط في عين الاعتبار وهي تتطلع إلى الأمام من خلال تنويع الخيارات، وتقليل الاعتماد على المصادر الأجنبية، وزيادة القدرات الوطنية.