اتهمت حملة المرشح الجمهوري في انتخابات الرئاسة الأمريكية والرئيس السابق دونالد ترامب، حزب العمّال البريطاني، بالتدخل "الصارخ" في الانتخابات الأمريكية، وزعمت أن متطوعين من الحزب سافروا إلى الولايات المتحدة لمُساعدة حملة المرشحة الديمقراطية ونائبة الرئيس الحالي كامالا هاريس، حيث قدمت حملة ترامب شكوى إلى لجنة الانتخابات الفدرالية الأمريكية، مطالبة بإجراء تحقيق فوري فيما أسمّته "مُساهمات أجنبية غير قانونية واضحة قدمها حزب العمّال في المملكة المتحدة وقبلتها هاريس".
أبعاد الخلاف:
يرتبط الخلاف الحالي ببعض الأبعاد المتداخلة، والتي يمكن الإشارة إليها على النحو التالي:
1. تُهم بدعم "العمّال" للديمقراطيين: زعمت حملة ترامب أنه في الأسابيع الأخيرة، قام حزب العمّال البريطاني بتجنيد وإرسال عدد من أعضائه ومنتسبيه لمساعدة حملة المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس في بعض الولايات المتأرجحة، وذلك للتأثير في نتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة، واستشهدت الشكوى بتقارير إعلامية ومنشور لرئيسة العمليات في حزب العمّال صوفيا باتيل على منصة "لينكد إن"، قالت فيه إن 100 موظف في الحزب كانوا متجهين إلى الولايات المتحدة لدعم حملة هاريس، ومعلنة كذلك عن توفر 10 أماكن شاغرة لمن يرغب في التوجه إلى ولاية "نورث كارولاينا" للمشاركة في الحملة.
وفي ذات السياق، وظّفت حملة المرشح الجمهوري ترامب، في شكواها، تقريراً في صحيفة "واشنطن بوست" يزعم حدوث اجتماعات بين كبار موظفي حزب العمّال مثل: مدير الاتصالات في "داونينغ ستريت" ماثيو دويل، ورئيس أركان رئيس الوزراء مورغان ماكسويني، والحملة الانتخابية الديمقراطية.
2. نفي العمّال: من جانبه، أكد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر أن مسؤولي حزب العمّال الذين شاركوا في الحملة الانتخابية لهاريس "كانوا يفعلون ذلك في أوقات فراغهم" وليس بصفتهم الرسمية داخل الحزب، كما أشار إلى أن متطوعي الحزب يقومون بمراجعة كل انتخابات تقريباً، وأصر أيضاً على بيان أنه يتمتع بعلاقة جيدة مع المرشح الجمهوري ترامب، ولاسيما وأن ستارمر قد اجتمع بترامب في نيويورك أواخر سبتمبر 2024.
3. دعم مُكرر: يُعتاد بصورة عامة أن تتحالف الأحزاب السياسية البريطانية مع الأحزاب في الولايات المتحدة؛ إذ إن حزب العمّال يُعرف عنه تجاوبه منذ فترة طويلة مع الديمقراطيين، في حين كان حزب المحافظين أكثر قرباً للجمهوريين، وواقع الأمر أن سلسلة من كبار المحافظين، بما في ذلك رئيسا الوزراء البريطانيان السابقان ليز تراس، وبوريس جونسون، سافرا مؤخراً إلى الولايات المتحدة لتأييد ودعم ترامب، كما أيد ترامب في أكثر من مناسبة سابقة بوريس جونسون لمنصب رئيس الوزراء البريطاني.
4. دلالة التوقيت: يتزامن ذلك مع إشارة أحدث استطلاعات الرأي الأمريكية إلى أن ترامب يتفوق على كامالا هاريس في عدد من الولايات المتأرجحة الرئيسية لأول مرة منذ دخول هاريس السباق؛ وذلك في خضم تحرك استطلاعات الرأي الأمريكية في الأسبوعين الماضيين في اتجاه ترامب بعد فترة من الصدارة التي كانت تتمتع بها هاريس.
دوافع التفضيل:
يعكس انخراط بعض المتطوعين من حزب العمّال في حملة المرشحة الديمقراطية هاريس، مدى أهمية الانتخابات الأمريكية بالنسبة للحكومة البريطانية؛ إذ إنه ثمّة أصوات داخلية بارزة بالحزب تفضل فوز هاريس بل وترغب في الدفع نحو ذلك؛ وهو ما يتوافق بشكل عام مع المزاج العام البريطاني الراهن؛ إذ أظهر استطلاع للرأي أجرته منصة “YouGov” في الفترة من 15 إلى 16 أكتوبر 2024، أن ما يقرب من ثلثي البريطانيين (64%) يريدون أن تكون كامالا هاريس هي الرئيسة القادمة للولايات المتحدة، مُقابل واحد فقط من كل ستة (18%) يأمل في ولاية ثانية لدونالد ترامب. وربما يتأسس تفضيل العمّال لفوز هاريس على عدة دوافع، لعل من أبرزها ما يلي:
1. العامل الأيديولوجي: يُعرف عن حزب العمّال، باعتباره حزباً يسارياً وسطياً، تقاربه مع الحزب الديمقراطي الأمريكي إزاء بعض القضايا بما في ذلك قضايا المناخ، والعدالة الاجتماعية، والرعاية الصحية، فربما ينظر حزب العمّال إلى استمرار الإدارة الديمقراطية كعامل أساسي لعلاقات أمتن وأكثر توافقاً وديمومة مع واشنطن على المدى المتوسط، كما أن حزب العمّال يدرك أن الشعبوية التي يجسدها ترامب قد تؤثر بشكل كبير في العلاقات الثنائية بين البلدين.
2. تأمين الحليف: من الواضح أن حكومة العمّال ترتئي فرصة لخلق مساحات وأرضية للعلاقات المستقبلية مع الولايات المتحدة في ظل إدراك الحكومة البريطانية أن التعاون مع إدارة ديمقراطية يتيح مجالاً أكبر للتنسيق الثنائي حول السياسات والأولويات الحيوية لقضايا الأمن القومي، والدفاع، والاقتصاد، ولاسيما في ظل التحديات العالمية المتزايدة ورغبة الحكومة البريطانية في الاضطلاع بدور أكبر وأكثر تأثيراً في النطاق الأوروبي والدولي كذلك.
3. التحوط من سياسة ترامب الخارجية: تدرك حكومة العمّال أنه في حال فوز ترامب، ستطرأ تحولات ربما كبيرة على توجهات السياسة الخارجية الأمريكية، في ظل احتمالات عودة سياسة ترامب الخارجية، التي تتسم بالنزعة الانعزالية وبتقليل التزامات الولايات المتحدة تجاه حلفائها التقليديين، ولاسيما في أوروبا، والتركيز على مصالح الولايات المتحدة المباشرة فقط، وهو ما سيضع ضغوطاً على بريطانيا وأوروبا بشكل عام كي يصبحا أكثر استقلالية في العديد من المسائل والقضايا، منها على سبيل المثال:
أ- التعريفات الجمركية: تكتسب تلك المسألة أهمية خاصة في ظل التصريحات الأخيرة لترامب بشأن سياساته التجارية المستقبلية؛ إذ أعلن الرئيس الأمريكي السابق ترامب نيته فرض تعريفات جمركية جديدة على الواردات إلى الولايات المتحدة، في خطوة تذكر بقراره السابق بفرض رسوم على واردات الألومنيوم والصلب خلال فترة رئاسته الأولى. وفي ذلك الإطار؛ فإن خطط التعريفات الجمركية التي يحتمل أن يضعها ترامب، والتي تهدف إلى حماية الصناعات الأمريكية وتحد من الاعتماد على الواردات، قد تربك الحسابات التجارية البريطانية التي تعتمد بشكل كبير على التجارة مع الولايات المتحدة باعتبارها واحدة من أكبر أسواق التصدير لديها، وخاصة في قطاعات مثل: السيارات، والأدوية، والزراعة.
ب- الترتيبات الأمنية: من المفهوم أن انتقادات ترامب السابقة لحلف شمال الأطلسي واقتراحاته بشأن تقليل الولايات المتحدة من التزاماتها الاقتصادية والعسكرية تجاه التكتل، قد تشكل مصدر قلق كبير لحكومة العمّال البريطانية؛ إذ إن مبدأ الدفاع الجماعي لحلف شمال الأطلسي أمر بالغ الأهمية لأمن بريطانيا.
ج- العامل الأوكراني: تبدو تصريحات ترامب والخاصة بقدرته على الوصول إلى تسوية للحرب الروسية الأوكرانية، جنباً إلى جنب مع ما هو مثار عن امتلاكه علاقة طيبة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مخالفة للخط البريطاني العام سواء أكانت الحكومة من حزب المحافظين أم العمّال؛ ومن ثم فإن ذلك يمثل عاملاً إضافياً لتفضيل حكومة العمّال لهاريس على ترامب.
انعكاسات مُحتملة:
ثمّة بعض الانعكاسات المُحتملة لاتهام الجمهوريين لحزب العمّال البريطاني بدعم الديمقراطيين على مسار العلاقات الخاصة بين لندن وواشنطن، وكذلك فيما يتعلق بتوظيف الحملة الجمهورية للحدث في سياق الانتخابات، ويمكن توضيح تلك الانعكاسات على النحو التالي:
1. توترات بين لندن وإدارة ترامب المُحتملة: قد تؤدي مجازفة حزب العمّال، بغض النظر عما إذا كان تصرف المتطوعين بصفتهم الشخصية أم أنهم جزء من جهد منسق من جانب الحزب، إلى عواقب على إدارة ستارمر؛ إذا فاز ترامب بالانتخابات الأمريكية، ولاسيما وأن ترامب يُعرف عنه سهولة الاستثارة؛ لدرجة أن حتى أقرب أنصاره يخشون أنه إذا أعيد انتخابه، سوف يكرس معظم فترة ولايته الثانية لتسوية الحسابات مع الخصوم؛ لذا قد تكون الحكومة البريطانية بقيادة ستارمر الآن من بين أولئك الذين سيستهدفهم ترامب، ولاسيما في ظل وجود ديفيد لامي وزيراً للخارجية البريطانية؛ وهو الذي سبق وأن وصف ترامب عندما كان نائباً في البرلمان البريطاني بأنه "مختل عقلياً ومتعاطف مع النازيين الجدد".
2. تحقيق الجمهوريين مكاسب انتخابية: قد توظف حملة دونالد ترامب الحدث من أجل تعزيز سردية تدخل القوى الخارجية في الانتخابات الأمريكية، والتي سادت بصورة كبيرة منذ مزاعم التدخل الروسي في انتخابات عام 2016؛ وهو ما سيسمح بتصوير هاريس كمرشحة تستفيد من المساعدات الأجنبية؛ مما قد يقوض مصداقيتها ويلقي بظلال من الشك على نزاهة حملتها لدى الناخب الأمريكي قبيل بدء العملية الانتخابية. بالإضافة إلى ذلك، قد يركز جزء من خطاب ترامب خلال الأيام المقبلة على تأطير الانتخابات باعتبارها معركة لحماية أمريكا من تهديدات التدخل الأجنبية التي قد تحدث حال فازت هاريس.
3. تزايد انتقاد "المحافظين" لـ"العمّال": من غير المستبعد أن تستغل الأحزاب البريطانية كالمحافظين، دعم العمّال لحملة هاريس، من أجل الترويج لكونه خروجاً عن الحياد التقليدي لبريطانيا في الانتخابات الأجنبية، ولاسيما تلك التي تخص دولة حليفة كالولايات المتحدة؛ بل وتصوير تصرفات حكومات العمّال على أنها قد تؤدي إلى تدهور العلاقة البريطانية الأمريكية في حال فوز ترامب؛ ما قد يعرض المصالح الوطنية البريطانية للخطر.
وفي التقدير، تجدر الإشارة إلى أن متانة العلاقة القائمة تاريخياً بين الولايات المتحدة وبريطانيا تتجاوز فكرة الأحزاب أو ممثليها؛ لذا فإن حكومة العمّال، سوف تظل منخرطة دبلوماسياً مع الولايات المتحدة حتى في حال فوز ترامب بانتخابات الخامس من نوفمبر 2024، إلا أنه في تلك الحالة قد تشهد العلاقات الثنائية بعض التجاذبات -حتى ولو في نطاقات محدودة- على خلفية انخراط أعضاء حزب العمّال في الترويج لحملة هاريس الانتخابية، ولاسيما وأن شخصية ترامب لا تقبل ذلك النوع من المناورات الدبلوماسية المعروفة عن حزب العمّال، وأنه معروف بقدرته على حمل الضغائن والاحتفاظ بها لفترات طويلة.